الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطان والبقرة

نبيل هلال هلال

2011 / 10 / 5
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


السلطان والبقرة

إذا أعدنا قراءة تاريخنا بحثا عن موقع حرية المسلم فيه سنندهش من غياب حريته وحقوقه . فقد عاش المسلمون في تناقض هائل بين دين يحدثهم عن مثاليات من الحق والعدل والحرية والمساواة , وواقع بائس مليء بالقهر والظلم بعد أن تم تفويض السلطة إلى الخليفة وغض الفقيه الطرف عن سوء استخدامها , ولم يدعُ الناس إلى تقييدها , ولم يطلب هو نفسه تقييدها عملا بقول النبي :" أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" , فالحرية تكشف عن الأخطاء التي يخفيها القهر .
وكان مفهوم الحرية عند العرب هو عكس مفهوم الرق , فالحر هو غير الرقيق , والحرية في التراث العربي معناها أخلاقي وبعيد عن المفهوم السياسي . أما الحرية بمعنى حرية الاختيار والقول والعمل والانتقاد , فهي أمور لم يعرفها المسلم إذ حوصر منذ وقت مبكر وحرَمه الخليفة بسند فقهي من حرية اختيار الحاكم , أو الخروج عليه , أو حرية انتقاده .
وتفاوتت درجتا الحرية بين الحاكم والمحكوم , ففي الوقت الذي ضاقت فيه دائرة حرية الفرد في الدولة الإسلامية حيث انحصرت في المراوحة بين اختيار أن يجوع أو يظمأ , اتسعت دائرة حرية الخليفة حتى وسعت كل شيء : أموال الناس وأرواحهم , فللخليفة نهب ما في بيت المال , مثلما له الحق في ضرب عنق من يريد ولو بالظنة . وبهذا المعنى كان السلطان هو الحر الوحيد في السلطنة.
وكان المجتمع بأسره بمنزلة القاصر أو السفيه الذي يحق تقييد حريته أو سلبها بدعوى الحفاظ على مصالحه وحقوقه , وإذا كان القاصر يبلغ رشده بعد حين , فإن الشعوب الإسلامية بقيت دون سن الرشد طوال أربعة عشر قرنا , فالقصور والعجز هما قدرها المقدور الذي يفرضه كل من يحكم بلاد المسلمين .
وإذا كان بعض الفلاسفة يرون جواز"اتخاذ الاستبداد وسيلة مشروعة لحكم الأمم الهمجية طالما كان الإصلاح هو الغاية المقصودة من ذلك , وأن تحقيق هذه الغاية يبرر الوسيلة التى تتخذ في هذا السبيل" , فإنه لم يتحقق إصلاح لأمة تسلط عليها الاستبداد والمستبدون طوال أربعة عشر قرنا , وأبقيت في حالة - صحيح أنها لا يمكن وصفها بالهمجية - إلا أنها حالة مواتية لاستمرار الاستبداد إذ كانت ركائزها هي الجهل والأمية والامتثال لتضليل الفقيه "عميل الخليفة النبوي" الذي أخفى على الناس , أو ربما لم يعرف , أن شرور الاستبداد لا تزول من تلقاء نفسها , وإنما يجب مناهضتها عمدا , فمن قُتل دون ماله أو عرضه فهو شهيد , وإن كان ثمة أمر أوضح من أن يحتاج دليلا , فهو عدم جواز الامتثال لاستبداد السلطان طمعا في أن يزول من تلقاء نفسه دون أن ينهض الناس أنفسهم بمهمة تحرير أنفسهم بأنفسهم , فليست الحرية هبة من السلطان , ولكنها حق أصيل لا يجوز التهاون في طلبه وبذل الأنفس لنيله , إذ يفوز بالدر غائصه ويحوز الصيد قانصه .
وكانت علاقة الحاكم بالمحكوم علاقة إكراه يستغل فيها الخليفةُ الناسَ على نحو بشع , والقمع فيها يمثل أداة أساسية لتثبيت واقع الاستغلال على ما هو عليه , أي لإحكام قبضة الحاكم على قرني البقرة ليضمن الاستئثار بحليبها للأبد , فممارسة السلطة الباغية غير ممكنة دون القمع أو التضليل . وما من طاغية يقترف الشر المحض إلا ويسبقه بكلام عن الخير والعدل وطاعة الله . ومن حاز السلطة بسيفه حق له الاحتفاظ بها , ومن لم يحزها يحرَّم عليه التطلع إليها .
وانصرف جل اهتمام الناس إلى شخص "مَن" يحكمهم , ولم يشغلهم "كيف"يحكمهم . وحَكَمَ خلفاء حازوا كل السلطة شعبا مجردا من أي سلطة , فكان العسف والجور الذي ما جاءت الأديان إلا لتقويضهما. ولم يكن أمام المسلم غير الطاعة المطلقة والإذعان التام للخليفة فسيق إلى مصير لم يختره بنفسه ولم يصنعه أو يُردْه , وهي طاعة مذلة مهينة , ولكن الفقهاء صوروها للناس على أنها من طاعة الله , وما أكثر ما قالوا : لعل ما صُرف عنا أعظم مما ابتلينا به! وتعوّد المسلم المقهور الحرمان من الحرية بقوة الدين والسلطان , ولم يشعر بحاجته إليها إذ غابت عنه مدة أربعة عشر قرنا , حتى كانت في وجدانه من المستحيلات التي لا وجود لها إلا في الخيال كالعنقاء والخِل الوفي .
وسمعنا ونسمع عن "سيادة" القانون و"سيادة" الشعب و"سيادة" الدولة, وكلها "سيادات" بعيدة عن السيادة الفعلية التي حَكمت وسادت طوال تاريخنا , وهي سيادة الطبقة المالكة للسلطة . فسيادة القانون قد يراد بها سيادة الطبقة التي سنت القانون لصالحها . وسيادة الدولة يراد بها سيادة من جعلوا من أنفسهم الدولة (أنا الدولة والدولة أنا), وسيادة الشعب هي سيادة من سرقوا صلاحيات الشعب وأوهموه أنهم المنافحون عن مصالحه , في حين أنهم يسرقون باسم الشعب ويحكمون باسم الله . نبيل هلال








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الى الاستاذ المحترم نبيل هلال هلال
شاهر الشرقاوى ( 2011 / 10 / 5 - 09:11 )
استاذ نبيل هلال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اسمح لى ان اعبر عن اعجابى الشديد بشخصكم الكريم وفكرك الحكيم وايمانك العظيم ....

اؤيدك وبشدة واتوافق معك جملة وتفصيلا فى فهمك الراقى والصحيح للقران . والاسلام ومعانى الحرية الحقة المنبثقة ..من شعار الاسلام الاول (لا اله الا الله ).وانى اراك ..(ولا اذكى على الله احدا)من الذين يدعون الى الاسلام فى مكانهم بسلوكياتهم ورقيهم والذين قال المولى فيهم:

ومن احسن قولا من من دعى الى الله وعمل صالحا وقال اننى من المسلمين
صدق الله العظيم
تقبل خالص احترامى ومودتى
والسلام عليكم


2 - شكر للأستاذ شاهر الشرقاوي
نبيل هلال ( 2011 / 10 / 5 - 10:16 )
تحية تقدير لأخي الكريم شاهر الشرقاوي وشكر لتعليقه الرقيق وأرجو أن اكون عند حسن ظنه , وفقنا الله جميعا


3 - الاستاذ نبيل هلال المحترم 0 مداخلة 0
صلاح عودة ( 2011 / 10 / 5 - 11:57 )
...الحرية صناعة تخضع الى مفهوم التطور البشري عندما نؤشر بعدم وجود حرية منذ اربعة عشر قرن
بالحكم الاسلامي فهذا يحدد ان المفاهيم الدينية الاسلامية لم ترتقي بعد الى السلم البشرى الحائز على
مفهوم الحرية وجب ان نناضل الا ندع الاستبداد ان يطال رقاب المثقفين شكرا استاذ نبيل على هذا
المقال الذى يصور الذاتية المنهزمة فى الحياة الاسلامية الدينية فى عالمنا اللاسلامى المتردى.
..مع التقدير.


4 - تحية للاستاذ صلاح عودة
نبيل هلال ( 2011 / 10 / 5 - 14:12 )
اشكرك أستاذ صلاح عودة على تعليقك على المقال

اخر الافلام

.. ندوة توعية للمزارعين ضمن مبادرة إزرع للهيئه القبطية الإنجيلي


.. د. حامد عبد الصمد: المؤسسات الدينية تخاف من الأسئلة والهرطقا




.. يهود متشددون يهاجمون سيارة وزير إسرائيلي خلال مظاهرة ضد التج


.. مختلف عليه - الإلحاد في الأديان




.. الكشف عن قنابل داعش في المسجد النوري بالموصل