الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باشلار و سبعة وستون عاماً على ميلاد النار

سوسن بشير

2004 / 12 / 10
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يلتهب عقلي بحب شاعر، فأفقد القدرة على التركيز مع العالم، وأعيش قصيدته الجديدة، التي تستحث رغبتي في كوب شاي بطعم الفانيليا، أتمتم بالقصيدة في طريقي للمطبخ لإعداد الشاي، في نهاية الأمر يخطئ الماء المغلي الكوب ويحرق يدي. ألم أتعلم بعد درس النار؟
أول درس خاص بالنار هو التحريم، فأول ما نعرفه عنها أطفالاً، هو ألا نلمسها، لكني لا أستطيع التوقف عن اللعب بالنار.....تُرى من منا يستطيع؟ النار حلوة، تتصل بنا إنسانياً عبر حلوى لذيذة المذاق، عبر تحميص الطعام لا إنضاجه فقط، وقد تهديك فطيرة ذهبية. وفي أعماق تاريخ البشرية تسبق قيمة التذوق القيمة الغذائية. الرغبة وليس الحاجة وراء الإنسان، وكماليات الحياة تحقق الإثارة الروحية لا الضروريات، وخلف هذه الكماليات تقف النار متوهجة. هذا ما يؤكده باشلار.....الفيلسوف جاستون باشلار(1884 – 1962) ابن العائلة الريفية بمقاطعة شامبانيا، حفيد صانع الأحذية الذي أصبح عام 1940 أستاذاً للفلسفة في السوربون.

جُن الفيلسوف بالعناصر الأساسية الأربعة: الهواء، والنار، و الماء، والتراب، فألف فيها خمسة كتب شهيرة. نصيب النار كان تحليلها النفسي، ففي الحادي عشر من ديسمبر عام 1937، انتهى باشلار من تأليف كتابه"التحليل النفسي للنار"، أي أننا نشهد هذه الأيام العيد السابع والستين لنار باشلار. علينا أن نترك شؤم العدد 67 علينا كعرب، وننظر لهذا الكتاب ونتساءل، من منا عرف نار باشلار؟

صدرت الطبعة الفرنسية عن جاليمار عام 1938، وعام 2003 صدرت في مصر ترجمة عربية للأستاذة الدكتورة زينب محمود الخضيري، أستاذة الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة، نعتمد على ترجمتها في هذا المقال.

ينتزع الضوء الساطع الفراشات الصغيرة البيضاء، من روتينها اليومي، وقد يسكرها ويحقق لها النشوة، وربما استقطبها تماماً عما عداه. ربما كان الضوء الساطع لحمم بركان، فتندفع إليه أسراب الفراشات لتحقق نشوتها الأخيرة وهي تشتعل. عبور ينتهي بتضحية عبر اللهب، وهذا هو أيضاً درس النار:" لابد لك، بعد أن تكون قد حصلت على كل شيء بفضل مهارتك، وبفضل الحب أو العنف، لابد لك أن تتنازل عن كل شيء وأن تفنى"

النار تأتي على مادة فتفنيها تماماً، تقتلها، وهذا ما يفعله المرضى مشعلو الحرائق، وأحياناً هم أكثر المجرمين تخفياً، فالنار تختبئ في النفس، فمريض خدوم للغاية في مستشفاه، يزعم أنه يستطيع تقديم أي عون لغيره، لكنه لا يعرف كيفية إشعال النار في المدفأة، لكنه وأمثاله قد يسكرون بنشوتهم كسرب الفراشات أمام غابة أشعلوها بكاملها.

النار في المدفأة أول موضوعات حلم اليقظة للإنسان، فتصورها محبوسة في المدفأة رمزاً ودعوة للراحة.ولا فلسفة للنار لدى باشلار بدون" حلم يقظة أمام الحطب المشتعل"، لأن فقدان هذا الحلم لإنسان يعني أن يفقد "الاستخدام الحقيقي والأول للنار".فارتباط السعادة بالنار هنا يتطلب أن ترتاح دون نوم أمام المدفأة، لا أن تكون من أنصار النفعية ولا تفكر سوى في كيفية إنضاج الحطب للحوم تنتظرها معدتك، في الحقيقة أنت تحتاج أن تفهم وتعي الفارق بين النارين.
يريد باشلار دفعنا لتأمل النار، فحلم يقظة بجوار النار يستدعي البركان واللهيب والمحرقة، لكن كعنصر من عناصر الفكر.....عنصر من عناصر الشعر.فالحمم الحارقة تصور عاشقاً ومعشوقته في صورة شعرية، يحتضن العاشق حبيبته بذراعين ناريتين، ويحيطها بحمم حارقة، ويفرغ ما في جوفه من قار وكبريت.

ويذهب باشلار لأبعد من ذلك وينقد التفسيرات العلمية لاكتشاف النار ما قبل التاريخ، وربما يصلح لفظ ينقض لما فعله باشلار، الذي تتبع التفسير العقلاني القائل بأن الإنسان الأول أوجد النار عبر حك قطعة خشب جافة بمثيلتها محاكاة للطبيعة، فيؤكد أن الاستنتاجات العقلية للعلماء التي تصدر بدون معايشة شروط الملاحظة البسيطة قد تخطئ، فكيف للإنسان الأول تتأتى فكرة الاحتكاك؟قد يفكر بالاصطدام، لكن لا يوجد في الطبيعة من حوله أي عملية تقوم على الاحتكاك.و يعتمد باشلار على تفسيرات "شليجل"، الذي وضع اكتشاف النار كحجر الزاوية لبناء الثقافة، ويتساءل كل منهما عن هذا الإنسان الأول:" أي تجربة سابقة كانت سترشده إلى تخمين أنهما – أي قطعتي الخشب – يمكنهما الاشتعال بفضل احتكاك سريع ومتصل"؟
ويكون تفسير التحليل النفسي، بالرغم من تأكيد باشلار أنه يبدو كمجازفة، إلا أنه يراه التفسير النفسي الصحيح بالضرورة، أن الاحتكاك هو "تجربة ذات طابع جنسي قوي"، وعبر أطروحة مميزة يثبت باشلار تحليله في النار المتجنسة، التي تمت ولادتها عبر وجهة النظر البدائية في ما أسماه بالانتصار الجنسي، واهبة للبشرية النفع وللفكر عالماً لا ينضب من الخيال والحلم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التعبئة الطلابية التضامنية مع الفلسطينيين تمتد إلى مزيد من ا


.. غزة لأول مرة بدون امتحانات ثانوية عامة بسبب استمرار الحرب ال




.. هرباً من واقع الحرب.. أطفال يتدربون على الدبكة الفلسطينية في


.. مراسل الجزيرة: إطلاق نار من المنزل المهدوم باتجاه جيش الاحتل




.. مديرة الاتصالات السابقة بالبيت الأبيض تبكي في محاكمة ترمب أث