الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


نَبِيُّ الكُردْ

فرياد إبراهيم

2011 / 10 / 8
القضية الكردية


نَبِيُّ الكُردْ

بقلم : فرياد إبراهيم


حرير - عام 1994

وبغتة انبرى من بين الحشد رجل قصير القامة رث الثياب اعرج نحيل ويرتدي معطفا ثخينا رغم الحر يواري كم بنطلونه الباهت المصفر في جواريبه الزيتونية المتهرأة رغم دفء الجو، وعيناه الصغيرتان تجولان في محجريهما بحركة سريعة لا إرادية أضفى الى هيئته رعبا وريبة . تقدم يقرع بعصاه الارض الى وسط الشارع وقال بصوت اجش:
- انا أعرفه تمام المعرفة.
- كيف؟سأله المدير متفحصا هيئته عن كثب.
جعل العجوز يتأمل وجه سامان تأمل الخبير العارف ثم هز منكبيه يقول بلا إكتراث:
- وما الفائدة من معرفته.
ثم عقب قائلا:
- أعتقد انني رأيته هناك يوما امام البيت الحجري والتي كان يوما مسكنا ومقاما لأعظم مدير مدرسة ظهر في هذه الربوع .
تبادل الناس النظرات المستفهمة. ووجهت الأنظار من على طرفي الشارع الى هذا القادم تتفحصه وتتبينه. وفجأة ضج المحتفلون من كل جانب في صخب ولغط والدهش والذهول يغمران الوجوه. وانهالت الأسئلة:
- ماموستا زه رده شت؟!
- ماموستا زه ر ده شت يتكلم ؟
- ألم يكن أخرس كما ادعى؟
- ما انطقك يا ماموستا؟!
- قل نبي الكرد ، زه رده شت.
جاء صوته باردا وهو يجيل عينيه الصغيرين النافذتين على الوجوه الذاهلة حوله. ثم كرر طلبه بثبات يخاطب الجمع:
- قل نبي الكرد ،زرادشت.
ثم تقدم أكثر يعرج بقامته الضئيلة متكأ على عصاه حتى وقف امام المدير مستأذنا. فواجه الجمهور ونطق بالجواب عاليا :
- انطقني خلو كردستان من رفاق الحزب الفاشي .
ثم اجال بعينيه الصغيرين على الوجوه الواجمة المترقبة، حمحم قليلا ، ثم تكلم متحدثا بصوت اجش:
- فرحت وفتحت فمي وتكلمت لكن ساغلق فمي من جديد.
- لماذا ماموستا زه ر ده شت؟
هدرت الأصوات المحتجة لا تخلو من هزء مبطن.
تجاهل السؤال ولوى فاه ورفع حاجبيه الكثين واخذ يدير بعينيه كالدعبلة على الوجوه وقد انكمشت اسارير وجهه ووجه سؤاله بتحدي :
- اتعرفون ان هناك معركة في المدينة بين البطيخ والرقي؟
ضج المكان بالضحك حتى كادت جنوبهم تنقد من شدتها.
ومن مكانه صاح مهددا يرعد:
- لا تضحكوا انها لحقا معركة (الرقي والبطيخ ) .
مرة اخرى انفجر الحشد بالضحك والهتاف.
اما هو فلم يأبه كثيرا. عدل بنيقته المغبرة الملطخة وهاب بهم بالأصغاء وصدح صوته في الأنحاء:
- اسمعوا ريثما اصف لكم المعركة الجديدة.
توقف لحظة ينظف حنجرته. ثم عاد يخاطبهم ببرودة من خاب أمله:
- انها معركة ليست بين الكورد واعداؤهم كما كان المأمول ، ولكن المعركة الآن هي بين الكورد والكورد ، فهناك في اطراف المدينة قد شرعوا بحفرالسواتر وتهيئة البنادق إستعدادا للقتال، قتال الأخوة.
ارتفعت الأصوات من جديد تطالب المزيد من الأيضاح.
اردف مصرّا:
- انها معركة البطيخ. والقصة هي : في الآونة منع الحزب الأخضر من دخول البطيخ الأصفر الى السوق ، ومن الطرف الآخر وبالمقابل اغار الحزب الاصفر على الرقي الأخضر في الاسواق فحدثت الأزمة المستعصية . وهكذا جردوا السلاح في وجه بعضهم البعض وهما على اهبة الاستعداد للمعركة القادمة : معرمة البطيخ ضد الرقي.
ساد سكوت شامل على المكان فجأة بعد أن وعى الناس انه قال الحقيقة المرّة.
تنفس عميقا حتى برز شريان خفي في عنقه الطويل والدقيق كرأس باذنجانة . ثم تواصل وافاض :
- والانكد ان معلما منتميا الى الحزب الاخضر لا يجد طباشيرا بلون اصفر في المدرسة الا يرميها على الارض ويسحقها بقدمه ، وبالمقابل فان هناك معلم آخر منتمي الى الحزب الاصفر يفعل الفعلة ذاتها بالطباشير الأخضر.
ثم تراجع ورفع عصاه في وجوه المعلمين خاصة يخاطبهم بمرارة العليم المغلوب على أمره:
- يقول آينشتاين اليهودي العظيم : الجنون هو أن تفعل الشيء مرة بعد مرة وتتوقع نتيجة مختلفة. هذا ما يفعله قادة الكرد اليوم ، يقومون بنفس الاخطاء السابقة ويتوقعون نتيجة مختلفة.
وبمرارة رفع يده يحمل عصاه يمدها الى اليمين مشيرا الى كهف خانزاد الذي لاح من بعيد على قمة الجبل الأسود وهو يصيح بحماس، ليعيد بذلك صدى صوته في الصف الى اذهان كاوه وزليخا :
- انظروا الى تلك الإمراة هناك ، انها تفوق كل قادة الكرد في هذا الزمان النكد شجاعة وغيرة وحرصا وكفاءة ونبلا .
ثم هدر صوته يمزق الفضاء:
- يحيى خانزاد ميري سوران ..اعيدوا..
فردد الجمهور المتحمسون منهم :
- عاشت الأميرة خانزاد.
ثم اعقبها بهتاف من نوع آخر:
- يحيى اهورامزدا إلاه الكرد.
فلم يفتح أحد فاه هذه المرة .
لم يأبه . وبدلا اشار الى رجل عرفه فسأله مستجوبا:
- اسمك محمد ، ولي أحد عشر ولدا وضعفهم من الاحفاد ولم اسم احدا منهم محمدا ولا شيئاً من مشتقات محمد: لا محمد لا حميد،لا محمود ولا حامد ولا حمدي ولاحمود ولا حمو ولاحمد ولا أحمد....أنا سميت ابنائي بأسماء كردية. فقط.
- هل تعرف لماذا؟
لم يجب الرجل بل تراجع خطوتين الى الوراء وهو يبتسم ابتسامة صفراء.
ورد هو والأحداق كلها مصوبة الى فيه المزموم:
- اتدري لماذا ؟
- اتدري لماذا؟
كرر السؤال وهو يصرر على أسنانه. لم يجب أحد. وأجاب بنفسه وهو ينقل بطرفه في الوجوه الواجمة:
- لأن محمدا مادة قابلة للاشتعال.
فانفجر الحشد الكبير في نوبة ضحك متواصل دامت دقيقة أو أكثر.
في أثناء ذلك ارتفع بعض الاصوات تنادي:
- ابعدوه أنه مجنون.
اما هو فقد اقترب من أحد هؤلاء حثيثا ووقف امامه بتحدي . برز صدره . كشر له كاشفا عن صف صغير من أسنان اصطناعية وحدق في وجهه بعيون ثاقبة نافذة تراجع على اثرها الشاب ثم أستدار وتوارى مذعورا وسط الزحام.
وبدون أن يحس أحد تسلل كاوه الى خارج الصف واندفع الى الشارع . وقف امامه باحترام . انحنى ، أمسك بيديه . قربهما من فيه . وقبل كلتا يديه.
- من أنت؟
تسائل العجوز وهو يتراجع بخوف ورجاء.
- أنا تلميذك. كاوه ، كاوه عمر أفندي.
رفع رأسه عاليا يتأمل وجهه مليا . يسترجع. يبحث في خزين ذاكرته الحادة. فوجدها.
- كاوه ابن مديرنا الغالي عمر افندي الأبي الكردي المخلص.
ثم واجه الناس مخاطبا:
- كان هذا منذ الطفولة طالبا نبيها مثابرا ،ابن ابيه بكل معنى الكلمة.
قال هذا واغرورقت عيناه بالدموع.
وبدون أن يرفع رأسه مضى في سبيله يضرب بعصاه اسفلت الشارع.
وحينها ارتفعت الأصوات من ورائه وقد لانت نبراتها:
- عاش المعلم زه رده شت نبي الكرد.
تبعه كاوه واستوقفه. امسك بيده يعاونه في شق الصفوف. العيون مصوبة عليهما من كل جانب. وفي الطريق وبعد الخروج من الزحمة التفت الى كاوه وقال له بصوت تخنقه العبرات:
- ابني كنت قد أزمعت أن أغلق فمي من جديد احتجاجا على معركة الرقي والبطيخ لكنني عدلت عن رأيي فلن أسده بوجودك. أنت كاوه الحداد في العصر الجديد.
عاد كاوه الى موضعه يشيعه بنظراته الحزينة المفعمة بالمشاعر الجياشة . حينها مال الى صاحبته يقول لها بوجه حديدية القسمات وبصوت سمعه من حوله :
- كل العظماء كانوا مجانين اولا قبل ان يكتشف المجانين انهم كانوا عظماء!

فرياد إبراهيم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. موجز أخبار السابعة مساءً- رئيس تشيلي: الوضع الإنساني في غزة


.. الأونروا: ملاجئنا في رفح أصبحت فارغة ونحذر من نفاد الوقود




.. بعد قصة مذكرات الاعتقال بحق صحفيين روس.. مدفيديف يهدد جورج ك


.. زعيم المعارضة الإسرائلية يحذر نتنياهو: التراجع عن الصفقة حكم




.. موجز أخبار الواحدة ظهرًا - مسؤول الأغذية العالمي في فلسطين: