الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شخصية ومصير - الهجويري

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2011 / 10 / 16
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


"ضاع" الهجويري في رحلاته العديدة لينزوي آخر حياته في أطراف الهند النائية بعيدا عن مسقط رأسه في إيران. ولم يبق مما أنتجه غير أصداء عميقة في الذاكرة التاريخية عنه في الأوساط الشعبية الهندية، كما أن ذكراه ظلت خافتة نسبيا بسبب ضياع اغلب كتبه. ولم يبق إلا كتاب (كشف المحجوب لارباب القلوب) الذي لم يستطع منافسة أمثاله بسبب عدم كتابته إياه بلغة العلم والثقافة العالمية آنذاك (العربية). وهو السبب الذي جعل كتاب الهجويري ينتظر قرونا عديدة من اجل أن يلتحم في سلسلة الكتابات الصوفية بهذا الصدد.
فقد كانت كتاب (كشف المحجوب) حلقة في سلسلة الابداع الصوفي "المدرسي". لكنه يحتوي على اثر خاص وقيمة مستقلة كبيرة. ففي عنوانه إشارة مبطنة إلى وحدة العوالم الخفية للحقيقة وتربية الإرادة. بعبارة أخرى انه يضعنا أمام اختبار الكشف عما هو محجوب، لكنه اختبار يفترض بدوره معاناة القلب من اجل بلوغه. ولا يعني ذلك في لغة التصوف سوى السعي من اجل كشف حقيقة الحجاب وتنقية القلب بوصفها العملية الدائبة للتصوف من اجل بلوغ الحق.
فمن المعلوم أن المرء يتلذذ بالنظر إلى المحتجب. وذلك لما فيه من "إشاعة" أو "توجس" أو "غرابة" مثيرة للعقل والضمير. فالمحجوب يحتوي دوما على قدر من خفايا الأسرار. مما يجعله في الوقت نفسه مثيرا لحب الاطلاع والاستطلاع. غير أن ما يميز التصوف بهذا الصدد هو انه يثير حب الاستطلاع بوصفه فكرة، بمعنى انه يستثير النفس من اجل توجيهها نحو ذاتها. ولا يعني ذلك في الواقع سوى السعي من اجل الاطلاع على حقيقة النفس وكشف أسرارها وخباياها. فالإثارة هنا لا علاقة لها بالجسد، بقدر ما هي إثارة الروح، أي روحية. وحتى عندما يكون الجسد محط اهتمامها، فليس ذلك إلا بوصفه قناة الدخول إلى النفس ومنها إلى عالم الأرواح. وذلك لان مهمة الكشف الصوفي تقوم في كشف المحجوب عن النفس والعقل عبر استثارة الروح من اجل طلب الحق بوصفها حقيقة الإرادة. وقد شكلت هذه الفكرة جوهر التصوف العملي. فحقيقة الإرادة الصوفية هي استثارة القلب من اجل طلب الحق. والحق هو المطلق والله والقانون والعدالة، باختصار انه الكلّ القائم في الوجود والتجانس المتحكم بكل ما فيه بوصفه مصدر الجمال والجلال. والطالب لهذا كله هو المريد. فالمريد من الإرادة. وحقيقة الإرادة المتسامية ما صورها البسطامي مرة في حديث روحي بينه وبين الله، عندما كان الأخير يستفسر منه ماذا يريد، بينما كان البسطامي ساكتا صامتا، إلى أن استفسره الله أخيرا
- أبو يزيد؟ ماذا تريد؟
- أريد أن لا أريد!!
فقد شكلت هذه الفكرة صلب تربية الإرادة الصوفية بوصفها إرادة متسامية عن الخضوع لمتطلبات الجسد العابرة. وهي الفكرة التي تتخلل كتاب الهجويري، كما هو الحال بالنسبة لأمثاله من المؤلفات. إذ نعثر فيه على "تعميم" تقاليد الكتب الصوفية بهذا الصدد. وهو تعميم برمي في العراف الصوفي إلى استعادة القيمة المعنوية والفكرية للسلسلة الروحية في التصوف. وهو أمر جلي في التعريف العام الذي يقدمه الهجويري لمفاهيم المعرفة والفقر والتصوف وغيرها، إضافة إلى ترتيب وتاريخ الشخصيات الصوفية الكبرى بدأ من الصحابة والتابعين وانتهاء بالمتصوف وبعض مدارسهم الكبرى. مع إضافة ما هو "معاصر" له منهم. بعبارة أخرى، انه يحتوي بقدر واحد على تمثل تقاليد التصوف الكبرى والدراسة المنظمة والحية لما كان يعايشه الهجويري من أفكار ومدارس. وهو المضمون الذي عبر عنه في عنوان كتابه (كشف المحجوب لأرباب القلوب). ذلك يعني أن مهمة الكتاب نقوم في كشف المحجوب لأرباب القلوب. بعبارة أخرى انه يحتوي بقدر واحد على كشف أسرار التصوف للمريدين الجدد. وفي هذا تكمن قيمة الكتاب بالنسبة لدراسة التصوف أو خوض غماره الأول.
إن ما يشغل الهجويري ليس فكرة الحجاب بالصيغة التي وضعها النفري، وتوسع فيها لاحقا الغزالي، ورفعها ابن عربي إلى مصاف المنظومة المتكاملة، بل فكرة ما أطلقت عليه المتصوفة كلمة "السر". فقد كان همّ النفري هو كشف معنى وشكل ومضمون الحجاب بوصفه شكل ومضمون العائق الفعلي أمام تكامل المرء في العلم والعمل، أي أمام ارتقاءه صوب بلوغ حقيقة الكمال. ولهذا وجد الحجاب في كل شيء، في العلم والجهل والتقليد والله والدين، بحيث توصل إلى فكرته القائلة، بان "الحجاب واحد والأسباب التي يقع بها مختلفة وهي الحجب المتنوعة". ومنها توصل إلى أن "من عرف الحجاب اشرف على الكشف". أما الهجويري، فانه كان يقف بين ما كان يقول به النفري ولاحقا الغزالي وابن عربي وبين تقاليد التصوف الساعية إلى كشف مضمون ومعنى الكلمة والمصطلح والعبارة الصوفية العصية على الفهم والإفهام. لقد حاول الهجويري في كتابه (كشف المحجوب) أن يجمع بين شرح معاني المصطلحات وكشف أسرار الفكرة القائمة في بعض المفاهيم الضرورية للمريدين وغيرهم. من هنا منظومة "كشف" احد عشر "محجوبا" أدرج فيها كل من معرفة الله، والتوحيد، والإيمان، والطهارة، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وقواعد ومبادئ المعاشرة مع الناس، أي آداب العيش، ثم إزالة الحجاب عن معاني مختلف المفاهيم الصوفية مثل الحال والوقت والمقام والقبض والبسط وغيرها من المفاهيم، وأخيرا كشف معنى فكرة وممارسة السماع.
ذلك يعني أننا نقف أمام نموذج جديد في كشف ماهية ونوعية وكمية الحجاب. وهي مكونات مهمتها تنوير الطريق لأرباب القلوب، أي للمريدين وغيرهم ممن بحاجة إلى معرفة حقيقة التصوف، وليس إلى تنظيم ممارستهم العملية، كما نعثر عليه، على سبيل المثال لا الحصر عند المكي في (قوت القلوب) أو عند أبو النجيب السهروردي في (عوارف المعارف). إلا أن الغاية واحدة وهي تقديم صيغة معقولة لأولئك الذين بشكل تنقية القلب مضمون وأسلوب حياتهم الفعلية في إدراك حقائق الوجود والمطلق.
إن كتاب الهجويري (كشف المحجوب لأرباب القلوب) يهدف في آن واحد إلى الدفاع عن التصوف وكشف حقائقه وإرشاده العملي للمريدين الجدد. فهو كتاب مهمته كشف حقيقة التصوف عن الزائف لأنه لا يحتوي على نموذج طرائقي بقدر ما يحتوي على كشف ما يمكنه أن يكون ضروريا لأرباب القلوب من أي فئة كانوا. كما انه يحتوي على وحدة العلم والعمل عبر نماذج فردية ومفاهيم مفصلية وتصنيف للمدارس. وبهذا يقدم صورة عن نموذج للصوفية يجعلهم اقرب ما يكونوا إلى حقيقة الأرض، بسيطة في مظهرها معقدة في تضاريسها وأسرارها. انه أراد القول، بان حقيقة التصوف هي كالأرض تسكب عليها كل شيء ولا تنتج إلا الطيب والجميل. والمتصوف هو ارض الحقيقة. وهي حقيقة لها أسرارها الخاصة بها. ومن ثم لا معنى لصنع أساطير لتعظيمها. فالأسطورة لا تصنع عظمة، بل العظمة هي التي تصنع أسطورة!
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بايدن يسعى لتخطي صعوبات حملته الانتخابية بعد أدائه -الكارثي-


.. أوربان يجري محادثات مع بوتين بموسكو ندد بها واحتج عليها الات




.. القناةُ الثانيةَ عشْرةَ الإسرائيلية: أحد ضباط الوحدة 8200 أر


.. تعديلات حماس لتحريك المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي عبر الوسط




.. عبارات على جدران مركز ثقافي بريطاني في تونس تندد بالحرب الإس