الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


المُحاكاة ماذا بشأنها .

ناهده محمد علي

2011 / 10 / 27
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



لقد بدأت الحضارة الإنسانية كما هو معروف من الصفر حيث لا صناعة ولا زراعة ولا ثقافة ولا لغات .
تعلم الإنسان أن يتفاهم مع بعضه البعض بالإشارات والحركات التي تقلد حركات الطبيعة وأصواتها , كحركة الطير وصوته وصراخ الأطفال , والإحساس بالجوع , كل هذا كان يُعبَر عنه بالحركات والهمهمات وتقليد أصوات الطبيعة ومحاكاتها .
تناقلت الأجيال المعلومات عن كل شيء في الطبيعة وأصبح هناك موروث ثقافي , وتطورت اللغات من خلال المحاكاة , وأخذ الأطفال يقلدون أصوات الأمهات وحركاتهن في النطق والسلوك , وكانت الأم هي المدرسة الأُولى والأخيرة , ثم ظهرت المدرسة الثانية بعد توسع الموروث الثقافي , وأصبح هناك محاكاة من نوع آخر , فأخذ الطفل يُحاكي ما في الكتب من معلومات يحفظها ويرددها ويستعملها في حياته العملية . إنه يحاكي هذه المعلومات وهو غير مُخيَّر في تصديقها لأنها الموروث الوحيد الذي لديه عن نفسه وعن الطبيعة وثرواتها وقوانينها وعن مجتمعه في الماضي والحاضر والمستقبل , وأصبحت المدرسة هي المربي الثاني بعد الأُسرة , ثم ظهر مُربي ثالث للإنسان بدأ تأثيره ضعيفاً محدوداً ثم إمتد وتوسع تأثيره بعد توسع الموروث الثقافي والتكنولوجي ألا وهو وسائل الإعلام .
إن الموروث الثقافي الإعلامي هو موروث واسع لا يشمل القنوات التلفزيونية وإستخدامات الإنترنيت فقط , بل يشمل كل مجالات الفنون والآداب التي تظهرها وتحتويها وسائل الإعلام , وما يهمنا من هذا كله هو الإنسان , حيث كان هو البؤرة أو الثقب الأسود لكل الموروث الثقافي , يؤثر فيه ويتأثر منه , لكن المؤكد أنه كان يحاكي كل ما يراه ويقرأه ويسمعه وخاصة في المراحل العُمرية المبكرة قبل القولبة النهائية للشخصية , وإذا سألنا ماذا يُحاكي الفرد , هنا فالجواب طبعاً بأنه لن يحاكي صوت الريح والمطر , لكنه سيحاكي كل ما يراه ويسمعه لأن القطب المغناطيسي في دماغه سيمتص كل صغيرة وكبيرة , وسيمتص أيضاً نقاط الخير والشر فيها .
إن الصورة الإعلامية هي صورة مُبهرة من خلال مستوى الموسيقى وحبكة السيناريو تجعل من فئة الشباب وأحياناً البالغين

مُصدقين ومُقلدين خاصة إذا تكررت الصورة الإعلامية المُقنِعة وبعد أن تُطبع في الذاكرة ويمتصها الدماغ تنزل أحياناً الى حيز التنفيذ كلما يراه الطفل والشاب يمر بمرجلة التقمص لوضعية البطل أو لفحوى القصة , ولا بأس بهذا إذا كان البطل الجمبل ( سوياً ) , أما إذا كان لصاً أو قاتلاً أو منحرفاً أو مخرباً مجتمعيأً فسيكون هذا الطامة الكبرى لفئة واسعة من الشباب الجالسين أمام قنوات التلفزيون أو في دور السينما أو الباحثين في سايدات الإنترنيت .
لقد أخذت ( الميديا ) اليوم الدور الأول في التربية, وإنحدر دور الأُسرة والمدرسة الى الدور الثاني والثالث لأن الساعات المقضية بين أجهزة الإعلام أصبحت تفوق الساعات المقضية مع الوالدين , كما أن أُسلوب إقناع أجهزة الإعلام أصبح أكثر ذكاءً وخطراً من أي دور آخر , فأن الإنترنيت مثلاً يقدم المعلومات المجانية الخطرة عن الصناعات الكيمياوية الخاصة بالأسلحة والمتفجرات , كما تعرض فحوى الشذوذ الجنسي بشكل مثير وتقدم أساليب اللصوصية بشكل ذكي , وتخلق قيماً جديدة وفاسدة تنسف القيم السائدة للحضارة الإنسانية , كما أنها تكرس الأمراض النفسية المعروفة كألسادية والماسوشية والأمراض الغذائية النفسية وتربي ظاهرة العُنف في نفوس الشباب وتجعلها ظاهرة بطولية, وتظهر لنا وسائل الإعلام حالات كثيرة في المدارس الأُوربية يقوم الطالب فيها بإحتجاز وقتل معلميه وزملائه , وكان الكثير من هؤلاء الطلاب الممارسين للعُنف هم من المدمنين على أفلام ( الأكشن ) وأفلام الجريمة , كما لوحظ بأن الجنود المبعوثين الى الحروب يوضعون في قاعات تعرض أفلاماً سينمائية تُكرس العنف والشراسة ولساعات طويلة , ثم يتم نقلهم بعدها الى ساجات القتال .
إن معظم الأفلام السينمائية تعتمد على مفهوم الإنتقام مما يثير جانب الشر في النفس البشرية أحياناً يدعوى المعالجة الإنسانية لهذه المشكلة , وأحياناً كثيرة تكرس هذه الأفلام لأجل الربح التجاري وهي تظهر الشخص المُنتقِم على أنه نبيل ووسيم وطيب لكنه مضطر لسلوكه الإنتقامي , وهو المنتصر دائماً , وهو إذا ما ظهر على أنه بطل مرموق فسيجد الكثيرين من الشباب الراغبين في تقليده .
إن فكرة الإنتقام تسيطر على معظم صناعة السينما بكافة لغاتها , وتبدو هذه الفكرة مقنعة إذا ما ظهرت الصورة الجميلة والمؤثرة والسيناريو المُحبك , ومما يدل على إنتشار هذه الأفلام هو الأرباح المجنية منها حيث تصل إيراداتها أحياناً الى مئات الملايين من الدولارات , ويشمل هذا كل أنواع الدراما بجنسياتها المختلفة

الأمريكية والأُوربية والتركية وحتى العربية . إن العقل الإنساني ماكر ومخادع فإذا أعجبه شيء وقد يكون أحياناً هذا الشيء مخالف لقيمه لكنه ينتهجه أحياناً أما بدافع الفضول وحب الإستطلاع وأما بدافع حب الظهور والتميز أو الكسب المادي المغامر , وهكذا يقوم العقل الإنساني بإعطاء أوامره للتنفيذ , ولم تستطع العائلة أو المدرسة أن تقف بوجهه بل ستطير كل المعلومات والقيَّم الخيرة كأوراق في عاصفة , لأن الشاب وببساطة أحب ما شاهده وأعجبه كثيراً وحرك فيه مشاعر البطولة فتبدأ لديه رغبة شديدة بالمُحاكاة , فهو قد يُحاكي لص البنوك القوي والوسيم والذي لديه بعض السمات النبيلة , كمساعدة أُمه المريضة , أو قد يُبرَر فعل المنتقم بأنه قد ضُرب في طفولته كثيراً من قِبل أبيه , أو قد ينتقم من أُمه أو صديقته لأسباب أُخرى قد تبدو منطقية لكن فعله هو غير منطقي . وتنقسم النفس الإنسانية الى أحاسيس خيرة وشريرة , وقد تتوجه هذه النفس الى أحاسيس الشر وكلما تحتاجه هو مرة واحدة للتنفيذ , ثم تدخل بعدها في سلسلة لا نهاية لها .
إن موضوع التقمص هو موضوع خطر عالجه معظم كتاب علم النفس , لكن المشكلة ستبقى قائمة إلا بالإصلاح العقلاني والإنساني لبرامج ( الميديا ) .
إن الدراما العالمية وبضمنها العربية تستخدم جمال الصورة والصوت والتركيبة السينمائية المتقنة وحبكة السيناريو لتبرير السلوك العدواني والعُنفي وبإسلوب جميل وسلس يدخل بليونة وسهولة الى النفس الإنسانية ليستسهلها الفرد ويمارسها في حياته اليومية .
إن الصحافة العالمية تمتلأ بحوادث القتل وجرائم الشباب المدمنين على متابعة الأفلام الإجرامية و ( الأكشن ) , وقامت هذه الأفلام بتربيتهم . لقد قرأت ذات مره بأن أُم أُوربية ذكرت للطبيب النفسي
( أننا نربي في بيوتنا وحوشاً صغيرة نخاف التعامل معهم ) , ويقضي هؤلاء معظم الوقت أمام ألعاب الكومبيوتر القتالية أو
( البلاي ستيشن ) , وتقوم هذه الأجهزة بتربيتهم ولا تستطيع حيال ذلك شيئاً , كما تُبرز الصحافة العالمية حوادث قتل شنيعة ضمن محيط العائلة وخارجها يقوم بها الوالدين أو الأبناء لبعضهم البعض أو لصديقاتهم أو لزملائهم في المدرسة .
إن ما يراه الكثيرون من المثقفين هو مرعب للنفس الإنسانية وللأجيال القادمة إذ أن فكرة الشر وحب الإنتقام
وقيَّم العُنف أصبحت هي السائدة في معظم مجالات الفن وفي الأدب أيضاً وتلقى هذه الفكرة رواجاً كبيراً ومبيعات هائلة .
وأخيراً إن النفس الإنسانية كما هو معروف تحوي على جانبي الخير والشر ويتنامى كلا الجانبين إعتماداً على كمية الإمتصاص المعرفي الذي يدفعهما بإتجاه محدد وإذا لون الإعلام جانب الخير للنفس الإنسانية بألوان زاهية وإيحاءات مقنعة للشباب فسيقتنعون بها ويُحاكونها حتماً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تؤكد إصرارها على توسيع العملية البرية في رفح


.. شرطة نيويورك تعتدي على مناصرين لغزة خلال مظاهرة




.. مشاهد للدمار إثر قصف إسرائيلي على منزل عائلة خفاجة غرب رفح ب


.. أحمد الحيلة: قرار الجنائية الدولية بحق إسرائيل سيحرج الدول ا




.. في ظل تحذيرات من تداعيات عملية عسكرية.. مجلس الأمن يعقد جلسة