الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أمي و شجرة النارنج و رشة كمون

إيمان البغدادي

2011 / 11 / 8
المجتمع المدني


شجرة النارنج المحمّلة بقناديلها البرتقالية مهملة و منسية هذا العام...تنظر إلى البحرة الدمشقية الممتلأة بأوراقها المتساقطة و تشكو لها، فتشكو لها البحرة إهمالاً أشد فلم يعد هناك من يملأها بالماء و لا بالزهور ... تتعب من شكوى الغير فتستمر بالنظر أمي التي تمر تحتها عشرات المرات في اليوم الواحد في محاولةٍ منها للفت انتبهاها علّها تلتقط هذه القناديل ليتاح لها ولادة قناديلها الجديدة تلك التي تخشى أن لا يكون لها مكان على هذه الأغصان المنسية، لكن حلم هذه الشجرة ما زال معلّقاً معها في الأعالي كما لو أنها لم تعد مدلّلة البيت الأولى!!

رائحة الكمون المطحون لم تملاً مطبخ بيتنا ولم تحاول الهيمنة على رائحة الفول الذي تسلقه أمي كل عيد ......كما لم تنضم للقوالب الخشبية القديمة قوالب جديدة بنقشات متعددة تشتريها أمي لتحضير المعمول وحلويات أخرى شهية.
هذا العيد لم تطبخ أمي "كشك الأمراء" لتزينه بالفستق واللوز...و لم تشتري الشوكولا و النوكا ولا الراحة بالفستق..
كما أنها لم تشتري الهدايا لأحفادها، ولم تذهب للمصرف لتسحب نقوداً جديدة الطباعة لتعطيها لأطفال الحي.


أمي الفاتنة لم تقص شعرها قصيراً كما تحبه دوماً..و لم تضع أحمر الشفاه الفاتح و لم تلبس فستاناً جميلاً من فساتينها الأنيقة التي تحتفظ بها للمناسبات و الأعياد...أمي لم تُزيّن شعرها بوردة حمراء تتسلل رائحتها لأنوفنا و هي توقظنا لنشرب معها القهوة التي تأبى إلا أن تطحنها بيديها الغاليتين في صباحات العيد.

أمي لم تتصل ببناتها االمتزوجات لتسألهن ماذا يشتهين من طعام لتضيفه لمائدتها التي كانت عامرة على الدوام بأطايب الأكولات... كما أنها لم تتصل بإخوتها لتدعوهم على الغداء الفاخر... هي تتصل فقط لتطمأن على سلامتهم وأنهم ما زالوا أحياء!!

دعاءات أمي الجميلة لم تعد مخصصة فقط لأبنائها الأربعة وأحفادها التسعة ففي هذا العام أصبح لأمي عشرات الأحفاد و الأبناء و البنات الذين باتت تتحدث عنهم وتعرف قصصهم و تقلق عليهم و تنشغل بهمومهم... حتى أنّها باتت تخلط بين أسمائهم وأسماءنا!

حلم أمي لهذا العام تبدّل كلياً فلم يعد يغريها الانضمام لقوافل الحجاج المهيبة ولم تجلس أمام التلفاز لتشاهد النقل المباشر لمناسك الحج و فضّلت على ذلك الانضمام لقوافل الأحرار في ساحات سوريا ليحجوا معاً حجهم الحقيقي و ليتوجهوا نحو قِبلة الحرية المهيبة.
اهتمامات أمي تبدّلت كلياً هذا العام فهي لم تعد تطرّز أغطية الأسرّة بخيوطها الملونة الجميلة ولم تصنع كنزات صوفية لأولاد إخوتي الصغار.. فهي على الدوام مشغولة بتضميض جراح المصابين وإعطائهم الدواء و إطعامهم و التأكد أنهم بأمان في منأى عن الرصاص المجنون الذي لا يفرّق بين بشر و حجر!

أخبرني جميع من رأى أمي أنها استبدلت الكحل الأسود الذي اعتادت أن تضعه في عينيها الجميلتين بدموعٍ لا تجف وعزيمة عملاقة قادرة على احتواء الملايين و معانقتهم بلحظة واحدة فقط.
أمي تجلس بين الجرحى هذا العيد تفكّر بهم و بنا ..نحن الذين بعضنا في بلاد الغربة و بعضنا ملاحق من قبل أجهزة الأمن وبقيتنا معرّضون للموت بين لحظة وأخرى كما هو حال بقية السوريين.

أمي التي فتحت قلبها و بيتها لإخوتنا الجدد لم تذهب هذا العيد لتزور موتاها و تضع الورود على قبورهم فلقد أقسمت أنها لن تغادر البيت و هناك من يتألم أو ينزف..

أمي لا تعترف بهذا العيد الذي لا تشعر به سوى أنه يوم جديد من أيام القتل و الدم و الخوف الممزوج بأمل بالنصر المؤكد.

أمي الجميلة هذه ليس لها حسابٌ على الفيسبوك و لن تجد عنها أي معلومة إذا بحثت عنها في محركات البحث العملاقة... أمي الرائعة لم تكتب يوماً رواية و لا قصة قصيرة ولا أبيات شعر... لكنها نحتت بشجاعتها و طيبتها ملحمة عملاقة من النبل و البطولة و أنقذت حياة الكثيرين وما زالت تعمل بصمتٍ مهيب و محبةٍ وأمل لا يموت.

أمي بروحها المخضرّة على الدوام تنتظر عودتنا إلى أحضانها لا إلى زنزانات المعتقلات العفنة وتنتظر معانقاتنا أحياء لا ملامسة توابيت خشبية تبتلعنا و تبتلع ضحكاتها.
أمي ما زالت هناك واقفة كسنديانة عتيقة وسط هذا الدمار ووسط الدماء النازفة... تقف بثبات و عنفوان مملوؤة بالأمل بأن هذا الكابوس سيتنهي وبأننا سنعود إلى حيّنا وإلى أحضانها..

قالت لي في أحد مكالماتنا الهاتفية : بأن هذه الثورة قلبت الموازين و غيرت الكثيريين وستغيير المزيد ..حتى أنها تعتقد بأنني سأغيّر رأي و أبدأ بأكل اللحم المسلوق الذي تعرف أنني لا أحبه على الإطلاق
ما أجملها أمي و ما أطيب روحها التي تضاهي نقاء ثلج هذا البلد المتطرف ببرده و جماله .
عهداً أقطعه على نفسي لأجلك يا أمي بأن نكنس هذا الزمن الكئيب ليشرق العيد و تشرق ابتسامتك العذبة على دنيانا المشتاقة لرؤية وجهك القمري.
عهداً بأن أمسح دموعك الغالية و أزور معك كل المدن والأزقة السورية و أعدك بأننا سنصبح قريباً على وطن حقيقي تسكنه المحبة و الأفراح وتصنع من كل يوم فيه عيداً ينبع من قلوبنا لا عيداً نقرأ عن مواعيده في الروزنامة المعلقة على جدران بيتنا العتيق.
قادمون نحن لأجلك يا أمي.
قادمون لنبني.. وعهداً علينا بأننا سنحاكمهم على كل قطرة دم و كل دمعة أم
قادمون لنقطف شجرة النارنج و نتراشق بالقبلات و الضحكات بينما نملأ بحرتنا الدمشقية لتسعد هي من جديد و نسعد نحن بقهقهاتها الأنيقة.

إيمان البغدادي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الشعور باحاسيس المراة شئ جميل ..
محمود هادي الجواري ( 2012 / 8 / 3 - 10:57 )
السيدة ايمان البغدادي تحية ود واحترما ، انني اشعر بالحزن لكل سيدة سورية كانت لهل احلام ولكنها رحلت الى زمن غير معلوم ، وكذلك الشباب الذين ينتظرون العيد فهو الذي يبعث فيهم النشوة والسعادة لاستقبال ايام جديدة اجمل من سابقتها .. كل ما كتبت هو في الواقع يثير الحزن والاسى ، ولكن من صنع كل هذا الحزن ، ومن كانت له احلام في تخريب سوريا ، اليس هناك من مخطط كان يفعل بالخفاء وخلسة ليكد عليك وعلى الاخرين حلة اعيادهم .. ما يجعلني اتأسى وليس ايام وقوع الاحداث ، لربما كانت تعتصرني لوعة في الماضي من الطارئ المفاجئ الذي سيطرق كل باب دون موعداو سابق انذار .. لم يحملها عقلي وانا ارى النساء هن من يبكين ويتالمن ،، الم تتالمين من زواج شامية جميلة الى سعودي بدوي اهوج .. الم تكن في سوريا مكاتب لبيع النساء الى السعوديين ،،والقطريين ،، هم ليسوا بحاجة الى النساء وهم يعلمون ان اهل الهلال الخصيب لا يطيقون اهل الجزيرة ، ام تأتي تلك المصاهرة اكلها ،، كيف اصبح ابناء سوريا من اهل السنة سلفيون ؟؟ فعلى ماذا البكاء كان المال جميل وكان المال القادم من وراء الحدود هو مهر الموت الذي يجب ان يعيشه السوريون ... ابناء الشاميات

اخر الافلام

.. إعلام إسرائيلى: إسرائيل أعطت الوسطاء المصريين الضوء الأخضر ل


.. كل يوم - خالد أبو بكر ينتقد تصريحات متحدثة البيت الأبيض عن د




.. خالد أبو بكر يعلق على اعتقال السلطات الأمريكية لـ 500 طالب ج


.. أردنيون يتظاهرون وسط العاصمة عمان تنديدا بالحرب الإسرائيلية




.. الأمم المتحدة تحذر من التصعيد في مدينة الفاشر في شمال دارفور