الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


(( سلطان الغلابة )) ملامسة حية للوضع السياسى الراهن

محمدعبدالمنعم

2011 / 11 / 20
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


” سلطان الغلابة ... هي المسرحية التراثية المستلهمة من حكايات ألف ليلة وليلة، والتي تقدمها فرقة الغد القومية للعروض التراثية على مسرح ليسيه الحرية بالإسكندرية هذه الأيام، تأليف وأشعار د. مصطفى سليم، ألحان باهر الحريري، غناء أحمد سعد وفارس، ديكور وأزياء ناصر عبد الحافظ، بطولة أحمد راتب، حنان سليمان، أحمد نبيل، شريهان شرابي، شريف عواد، محمد صلاح، محمد نجم، أحمد الشريف، محمد عابدين، مخرج منفذ داليا حافظ، وإخراج محمد متولي “

تنجح المسرحية كل ليلة من ليالي عرضها مع جمهور الثغر، وتحظى بالتصفيق الحار، والإعجاب، والمديح الزائد، حيث وجد فيها الجمهور السكندري ضالته المفقودة في ظل فورة الغليان السياسي هذه الأيام، فاختيار تقديم هذا العرض المسرحي في هذه الآونة التي يموج فيها واقعنا السياسي المصري والعربي، وتنتابه صحوة عربية كبرى في الوعي السياسي سواء في مصر أو في الكثير من البلدان العربية، تمهيدا لاختيار الرئيس القادم المنتظر، لهو اختيار ذكي من مخرج العرض الواعي محمــد متولي والمخــرج الفطــن حمــدي أبو العلا مدير فرقة الغد، ذلك لأن العرض يتماس مع الواقع الآني والأحداث الراهنة، ويطرح قضية ملحة على ساحة واقعنا المصري والعربي ألا وهي كيفية اختيار القيادات، والسمات التي يجب توافرها في القيادة التي نختارها رئيساً لإحدى الدول في بلداننا العربية، فالقيادة في حد ذاتها قدرة لها مواصفات خاصة، ويتناول المخرج محمد متولي هذه الثيمة ليضع بين أيدينا تصوراً واضحاً عن مواصفات الحاكم الذي ننتظره في القريب العاجل، موضحاً ما يجب أن تكون عليه العلاقة المأمولة بين الحاكم العادل والشعب المحكوم، وذلك من خلال حكاية الملك معروف الذي يتقي ربه في شعبه ويحقق العدل والخير للجميع، وعندما يعي أنه تورط جبراً بفعل حاشيته التي خدعته، وحولت عهده إلى فساد وظلم، أبى أن يستمر في لعبة الحكم والسلطنة وقرر على الفور أن يتخلى عن وباء العرش ومرض السلطة، فترك عرشه بأعبائه وأخطاره وانضم إلى صفوف الشعب راضياً مرضياً، لقد رفض هذا الملك أن يبيع نفسه لحاشيته على حساب شعبه، فضحى بعرشه واختار شعبه. ويستثمر المخرج الذكي محمد متولي هذه الحكاية التراثية لينصح – عبر العرض المسرحي الشيق – كل من يرغب أن يكون رئيساً عادلاً مختاراً من الشعب لإحدى بلداننا العربية في الفترة الآنية، أن يدقق في اختيار حاشيته التي تعتبر عينه التي يرى بها شعبه.

وقد وفق المخرج في تجسيد هذه الثيمة وتوصيل مغزاها السياسي للجمهور اعتماداً على البساطة والإمتاع في مختلف عناصر العرض المسرحي، فقد اتسم الديكور مثلاً ببساطة التصميم والتنفيذ فكان مجرد موتيڨات خفيفة بسيطة ذات وجهين بحيث تُعبر في أحد وجوهها عن جو البذخ في السلطنة وذلك من خلال الألوان الساخنة والألوان المبهجة المتنوعة المطعمة بالشيفونات الملونة وذلك للإيحاء بجو الثراء، وعندما يستدير هذا الوجه يظهر الوجه الآخر الذي يلائم جو التقشف الذي فرضه الملك على السلطنة لذلك طُلي هذا الوجه بالألوان الترابية القاتمة وفي مقدمتها الألوان البنية بتدرجاتها والمطعمة بأقمشة الدبور والخيش.

وكانت هذه الموتيڨات ثمانية، اثنان ثابتتان في مقدمة المسرح يميناً ويساراً خارج فتحة الستارة للإيحاء بامتداد الديكور خارج المنصة في محاولة ذكية لوصل مساحة العرض بمساحة الجمهور وخلق حالة من الحوار والجدل بينهما بحيث يتم التأكيد على إشراك الجمهور في الحدث، للتعبير عن أن ما يدور فوق المنصة لا يتم في مملكة خيالية معزولة عن الناس وإنما هو ما يحدث بالضبط للناس في واقعهم المعاصر. وهناك موتيڨتان في يمين المنصة وموتيڨتان في يسارها كمداخل ومخارج للسلطنة.

وفي صدر المنصة نرى الموتيڨة السابعة التي تمثل عرش الملك، وعندما تستدير هذه الموتيڨة في مشاهد التقشف يختفي كرسي العرش معها، فتوضع الموتيڨة الثامنة في أعلى اليمين في وضع التروكار وهي عبارة عن كنبة خشبية فقيرة يجلس عليها الملك.

ومن الجدير بالذكر أن هذه الموتيڨات الديكورية تقف عمودية على المنصة في أشكال غير منظومة مرصعة بخطوط مستقيمة صنعتها الأقمشة المطعمة بها، ومرصعة أيضاً بتكوينات دائرية وخطوط مرنة للإيحاء بجو المؤامرات في إشارة ذكية إلى أن هذا الحاكم العادل لن يسلم من جو الدسائس الذي عادة ما نراه في القصور الملكية.

وعزفاً على نفس المعنى نرى الموتيڨة الخلفية التي تمثل كرسي العرش مرصعة بمجموعة من كفوف اليد - رمز العطاء - لترمز لعطاء هذا الحاكم الخير، لكن هذه الكفوف تنتشر حولها مجموعة من الجماجم والعظام رمز الخطر والشرور لترمز إلى شر حاشية الحاكم وخطورتها عليه، وهذه الكفوف والجماجم توحي في مجملها بأن هذا الحاكم المعطاء محاط بالمخاطر والشرور من بطانته وحاشيته.

ومن الملاحظ على الموتيڨات الديكورية الثمانية أن مصممها استلهم فيها صور الطيور بأشكالها المختلفة، فرأينا مثلاً الموتيڨات الجانبية التي تمثل مداخل السلطنة ومخارجها توحي للمتأمل فيها بأشكال متنوعة من الطيور كالصقور والببغاوات والحمام وغيرها، أما موتيڨة العرش جاءت على شكل عصفور أو كتكوت يرفع رأسه ومنقاره لأعلى وقدماه هما ذراعا كرسي العرش، وكان مصمم الديكور من الذكاء حين ابتكر من عالم الطيور جدلية المنظر الكلي لديكوره.؛ إذ خلق من هذه اللغة الرمزية تجسيداً استعارياً عن معنى الشخوص وعلاقتها ببعضها البعض داخل السلطنة ليصور خطورة علاقة الحاكم بحاشيته، ومدى هذه الخطورة على الحاكم وعلى مستقبل الحكم ومستقبل البلاد، لذلك جعل من العصفور في رقته ووداعته وتلقائيته رمزاً للملك معروف الحاكم الوديع الخيّر، ورمز برأسه ومنقاره المرفوعين لأعلى إلى طموح هذا الحاكم الخيّر في إقامة العدل وإسعاد الشعب ومدى إفراطه في هذا الطموح.

وجعل من الصقور الجارحة التي تتسم بالشراسة، والببغاوات التي تتميز بترديد الكلام والثرثرة الزائدة، والحمام الذي يتميز بحركته الدائبة غير المستقرة وتحليقه الدائب، ببطانة الحاكم وحاشيته التي لا ترضى بحالها، وتطلب كثيراً، وتتآمر بكثرة، والمفارقة واضحة بين العصفور بضآلة حجمه أمام الطيور السابقة بضخامة أحجامها بالنسبة للعصفور، وهي استعارة رمزية ذكية لتجسيد شراسة هذه الحاشية وخطورتها على الحاكم وأمور الحكم.

أما الأزياء فجاءت بعيدة كل البعد عن الأزياء العصرية التي لا تناسب طبيعة هذا العرض التراثي، والتزمت في طرازها وتفصيلاتها بالزي التراثي المناسب لشخوص ألف لية وليلة التي تأسس عليها هذا العمل، فجاءت الأزياء تعبر عن معاني الشخوص ومسارات الأحداث، ففي البداية عندما تسلم الحاكم السلطنة بفخامتها وثرائها ارتدت شخوص السلطنة أزياء ملكية مصنوعة من خامات ثرية غالية الثمن تدل على الفخامة والثراء، وعندما فرض الحاكم على نفسه وحاشيته وضع التقشف ارتدت الشخوص أزياء فقيرة لا تناسب الحال مصنوعة من خامات رديئة ورخيصة كالخيش والدبور بألوانها الترابية الرثة.

وأهم ما يلفت النظر في هذه الأزياء أن مصممها استخدم ألوانها وتفصيلاتها في خلق معادل رمزي للشخوص وتحولاتها، فعباءة الحاكم الملكية يغلب عليها اللون الأزرق الملوكي الذي يوحي بالأبهة والفخامة مع تطعيمه باللون الأحمر رمز الشرور للتأكيد على أن هذا الحاكم محاط بالخطر والشرور. وعباءة الوزير الشرير رغم تطريزها بالشرائط المذهــــــبة إلا أن لونها جاء قاتماً ليناسب طبيعة هذه الشخصية السوداوية، المتآمرة الشريرة.

وشريهان شرابي التي قامت بدور الراقصة جاءت أزياؤها مجسمة لتبرز مفاتنها الأنثوية، وقد خصها المصمم باللون الأحمر الساخن لما له من إثارة شديدة تلائم دلالها الزائد.

أما ريما العرة زوجة الملك فقد جاءت أزياؤها قبيحة مهدولة غير متناسقة في الجزء الأول من العرض عندما كانت امرأة قبيحة الوجه والمظهر لتناسب قبح الوجه وفجاجته، وعندما أضفى عليها الجني مسحة من الجمال الأنثوي الطاغي في الجزء الأخير من العرض تبدلت أزياؤها إلى أزياء أنيقة متناسقة مسدولة على الجسد بشكل يجسم أنوثتها ويبرز مفاتنها.

ومن الملفت للنظر أن مخرج العرض قد استثمر إمكانات الأزياء بحيث تلعب دورها في الكشف والتعرية، ساعياً بواسطتها نحو إفساد أي توجه للإيهام لتأكيد طقس التمسرح على نحو ملحمي، فجعل الممثلين يبدلون أزياءهم أمام الجمهور أكثر من مرة، حيث كانوا يرتدون أكثر من زي فوق بعضه البعض، وفي لحظات محددة ينزعون إحداها حسب مقتضيات الموقف الدرامي والدلالة التي يبعث بها، فيظهر الزي الآخر؛ فمثلاً عندما فرض الملك في بدايات العرض حالة التقشف على الحاشية وطلب من الجميع أن يخلع الثراء ويرتدي الخيش والدبور، فكان هو أول المبادرين فنزع عن نفسه عباءته الملكية فظهرت سترة أخرى يرتديها مصنوعة من الدبور.

وفي ختام العرض عندما قرر أن يترك العرش والسلطنة ليعود إلى صفوف الناس فقد نزع عن جسده أيضاً عباءته الملكية وتاجه وصولجانه وألقى بهم على أرضية المنصة ليظهر في سترته الفقيرة، وقد تم ذلك أمام أعين الجمهور. وبالرغم من توظيفه للحظات تغيير ملابس الممثلين أمام المشاهدين في نسيج الحدث الدرامي، إلا أنه قد استثمرها ليبث بعداً ملحمياً على الأحداث يسهم في كشف آليات اللعب المسرحي، وذلك اتساقاً مع أسلوب الإخراج اللاواقعي في العرض.

وبالنسبة للإضاءة المسرحية تنوع المخرج في استخداماتها لخلق صور جمالية بصرية متنوعة فوق منصة التمثيل؛ فاستخدم الإنارة العامة في معظم مشاهد العرض لتأكيد طقس التمسرح وكشف آليات اللعب المسرحي، وفي بعض اللحظات استخدم الأضواء الخافتة، فضلاً عن استعانته بالأضواء الملونة في لحظات أخرى لاسيما الضوء الأحمر الذي وظفه في مشاهد الجني، وفي مشهد رقصة التآمر التي قُدمت على موشح تراثي أثناء خداع ريما العرة لزوجها الملك ومحاولة إسكاره بكأس خمر مدسوس فيه مخدر حتى تسطو على الخاتم المسحور؛ أي إن المخرج استخدم إمكانات الضوء الأحمر في مشاهد الذعر والخداع والتآمر لما للون الأحمر من دلائل مثل الشر والدم والعدوان وغيرها.

وقد وفق كثيراً في استخدام عنصر الضوء بأسلوب يقترب من استخدامات الكاميرا السينمائية، متوسلاً في ذلك ببقعة ضوئية قوية محددة الحواف تحتضن الملك في غالبية مونولوجاته تقريباً أو في لحظات حواره مع ذاته، ووظفها تارة لخلق ما يشبه close – up اللقطة القريبة التي تقترب من البطل في حميمية شديدة في محاولة للتركيز على تعبيرات وجهه ونظرات عينيه وإيماءاته وغيرها لإيصال معنى محدد، وتارة أخرى لخلق لقطات تتبع (شاريو) Tracking Shot بحيث تلتقط البطل فوق المنصة وتتحرك معه لتتبعه في حركاته وتصرفاته وكأنها عين الكاميرا التي تتتبع الممثل لإظهار تفاصيل معينة أو لبلورة شعور ما.

ولم يغفل المخرج كذلك توظيف بعض المؤثرات الضوئية لخلق قدر من التنويع والتنوع في الصور البصرية مثل توظيفه لفلاشات ضوئية تضئ وتطفئ صادرة من جهاز الفلاشر عند مس الملك للخاتم المسحور، وذلك لصنع مؤثر بصري يمهد لظهور الجني.

مع تحياتى

د/محمدعبدالمنعم
مدرس التمثيل والاخراج
بقسم المسرح بكلية الاداب
جامعة الاسكندرية












التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الناخبون في تشاد يدلون بأصواتهم لاختيار رئيس للبلاد


.. مقتل 4 جنود إسرائيليين بقصف لحماس والجيش الإسرائيلي يبدأ قصف




.. الانتخابات الأوروبية: أكثر من نصف الفرنسيين غير مهتمين بها!!


.. تمهيدا لاجتياحها،الجيش الإسرائيلي يقصف رفح.. تفاصيل -عملية ا




.. تهديد الحوثي يطول «المتوسط».. خبراء يشرحون آلية التنفيذ والت