الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الليل و القمر .. وبهاء

كفاح حسن

2011 / 11 / 20
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية


تحركت مفرزة الملتحقين الجدد تاركة خلفها القرية الكردية السورية متجه صوب الأراضي التركية، لتخترقها نحو الحدود العراقية إلى حيث مقرات البيشمه ركه و الأنصار.
كان الوقت في نهاية أيلول ١٩٨٢ مساءا، حيث كانت المفرزة تنتظر إفول القمر، لتتمكن من إستغلال ظلام الليل لدخول الأراضي المحروثة التركية، بعيدا عن عيون الجندرمة التركية.
ضمت المفرزة شبيبة تركت مقاعدها الدراسية في أوربا الشرقية، لتلتحق بقوات الأنصار. فبعد الهجمة الشرسة المنظمة التي شنها النظام ضد قواعد الحزب الشيوعي في ١٩٧٨، و التي رافقتها جريمة إعدام كوكبة من رفاق و أصدقاء الحزب بحجة قيامهم ببناء منظمات حزبية في الجيش، تعرضت شبيبة الحزب لإمتحان عسير. فقد وضعها النظام أمام خيارين صعبين، أحدهما ترك العمل الحزبي و الإرتماء في أحضان البعث، و الأخر ترك العمل أو الوظيفة أو الدراسة و الدخول في متاهات فكرية و عائلية.
و ركز النظام هجمته على قواعد الحزب و ليس قيادته، ليخلق هوة مابين قيادة و قاعدة الحزب، ليتمكن من ذلك تسقيط أعضاء و كوادر الحزب. و رافق الهجمة الشرسة هذه إنقطاع الصلات مابين المنظمات الحزبية و قيادة الحزب.
و لجأ عدد كبير من الرفاق و الرفيقات إلى ترك الوطن و اللجوء إلى دول أوربا الشرقية أو الإلتحاق بفصائل المقاومة الفلسطينية في سوريا و لبنان. بينما إستطاعت مجموعة من رفاق الحزب الإلتحاق بمقرات الأحزاب الكردية في المناطق الحدودية لتتمكن من وضع اللمسات الأولى لإعادة بناء قوات أنصار الحزب الشيوعي.
وفي ظروف بالغة الصعوبة و التعقيد، تمكن معظم ممن ترك العراق الوصول إلى منظمات الحزب في الخارج، و من خلالها أو من خلال المقاومة الفلسطينية أو الأحزاب الشيوعية الشقيقة، تمكنوا من توفير فرصة دراسة أو عمل في الدول العربية أو في دول أوربا الشرقية.
لقد كان حماس الرفاق و الرفيقات الفارين من إرهاب النظام شديدا و رغبتهم ملحة في العودة للوطن، و مواصلة العمل السياسي. و مما شجعهم على ذلك، إعادة بناء منظمات أنصار الحزب في شمال العراق، و الدعاية الحزبية المبالغة بدور و إمكانية هذه المنظمات، و الحديث عن أزمة النظام الشديدة التي ستؤدي إلى إنهياره القريب!
و كانت محطتي الأولى في الغربة بيروت، ومن هناك أبلغت بالإلتحاق بالدراسة في براغ. حيث وصلتها في خريف ١٩٧٩، و من هناك إلى قرية صغيرة خارج براغ إسمها زهراتكي، لألتقي برفيق زاملني الدراسة في بغداد، لألتقي ببهاء الأسدي، حيث تعانقنا بعيون مغرورقة بالدموع. و بقينا سوية في المعهد الإقتصادي في براغ. و لكننا إنغمرنا في العمل الحزبي و الدعائي، و كان إشتياقنا للوطن يزداد و لا يخفت. و قد سبقت بهاء في ترك مقاعد الدراسة و العودة للوطن. لقد تحولت غرفة بهاء في القسم الداخلي في براغ إلى خلية نحل تدار فيها نشاطاتنا الحزبية و الجماهيرية. و قد إعتاد بهاء في حفلاتنا الطلابية أن يعتلي خشبة المسرح مع زميلة بدينة ليغنوا دائما أغنية سيتا هاكوبيان:
"مثل نجمة و القمر كبر حبنه و إزدهر"
و كان يدندن بها دائما في غرفته أو أمسياتنا حتى إنطبعت هذه الأغنية في ذاكرتي بسبب كثرة تردادها من قبل بهاء.
لقد طلب بهاء بإصرار ترك مقعده الدراسي و الإلتحاق بفصائل الأنصار. و كنت دائما أقف ضد طلبه هذا بشدة. فلقد كانت الحاجة لبهاء كبيرة في براغ. كما إن وضعه الصحي لايساعده على تحمل مشاق عمل الأنصار. و هذا الأمر يقودني للتطرق إلى معضلة كنا نعانيها في منظمات الخارج في مطلع الثمانينيات. حيث كانت هناك هوة كبيرة مابين كادر و أعضاء هذه المنظمات القديمين و بين الملتحقين الجدد بها بعد الهجمة الشرسة للنظام على الحزب. فالكادر القديم إعتاد العيش في الغربة مع إمتيازات لا تعد و لاتحصي. بينما الرفاق الجدد عينهم و قلوبهم على الوطن، و تواقون للعودة إليه بأسرع مايمكن. و بشكل مزاجي أجبر الرفاق الجدد على ترك مقاعد الدراسة و العودة للوطن، بدلا من إبقائهم في معاهد العلم للتعلم ليفيدوا وطنهم و حزبهم بكفاءات و خبرات جديدة. و كان هذا الإجراء مفيدا للكادر القديم و لبعض ضعاف النفوس من الذين إستغلوا ظروف هجمة النظام الشرسة ليحصلوا على مكاسب و محسوبيات حزبية.
و كلما جلست مع رفيقي بهاء يجبرني على سماع أغنيته المفضلة، و معها يحدثني عن حبه لليل و القمر. و تقودنا الذاكرة الى الجامعة المستنصرية في بغداد. حيث دخلناها سوية كطلبه في منتصف سبعينيات القرن الماضي. لقد كانت ايام جميلة شهدت مد يساري عارم. حيث كان الحزب الشيوعي موجودا وسط الجماهير وينال ثقتها. وكان اول نشاط جماهيري مشترك خضناه انا وبهاء هو المشاركة في مسيرة كبيرة انطلقت من وسط بغداد نحو ملعب الشعب لتأييد اليسار اللبناني في معركته التي اندلعت في منتصف سبعينيات القرن الماضي. لقد كانت مسيرة حاشده بالشبيبه الشيوعية التي بيبنت قوت الحزب الحقيقية والمشرفة.
ولقد امتاز الوسط الطلابي في الجامعة المستنصرية بنفوذ واضح للشبيبه الشيوعية رغم اجواء الجامعة الارستقراطية ، والتي كانت قبل تأمينها محصورة على اولاد الذوات. كان لقائنا- كما هو في براغ- يوميا في الجامعة ما بين دهاليز بناياتها الشاهقه. ثم نتحين الفرصة للذهاب الى نادي الجامعة بعمارته الفارهة ، والتي كانت تحفة من تحف البناء الهندسي في وقتها ، وسط صخيب الطلبة ومشاكسات الطالبات.
ورغم الشعبية الواسعة للافكار اليسارية ما بين طلبة الجامعة ، الا ان التنظيم الحزبي لم يستوعب هذا الزخم. بسبب من ضعف في قيادة منظمة الحزب في الجامعة. لقد التحقت بالعمل في اللجنة الحزبية للمنظمة في منتصف عام 1978 ، وجلب انتباهي طريقة العمل في اللجنة التي ذكرتني بتصرفات ساسون دلال الذي قاد فترة منظمات الحزب في خمسينيات القرن الماضي باسلوب يثير السخرية. ويبدو ان لجنة الحزب في الجامعة حاولت تقليد اسلوب ساسون ولكن بمهزلة اكبر ، انعكس على دور المنظمة وسط الجماهير ، وما لحق بها من ضرر كبير خاصة بعد الهجمة العنيفة للنظام ضد الحزب. ولحسن الحظ لم اعمل لدى هذه اللجنة الا ثلاث او اربع اشهر ، وبعدها انقطعت صلتي بها ، وتفرغت للعمل في مقرات الحزب العلنية في بغداد
لقد عانى الحزب في السبعينيات من مشكلة الزخم الجماهيري الكبير المتوجه نحوه ، وعدم قدرة منظمات الحزب على استيعاب ذلك لسببين :-
- الاول ضعف وحداثة الكادر الحزبي ، والتوسع الانشطاري الكبير داخل منظمات الحزب. وكنا نشعر في المنظمات الطلابية بهذه المشكلة عندما تلتحق بنا كوادر حزبية للعمل في منظماتنا فنجد لديهم ضعف فكري وتنظيمي كبيرين ، وهم بحاجة ماسه لصقل قدراتها ومواهبها القيادية.
- اما السبب الثاني فيعود لقرار الحزب بتجميد عمل المنظمات المهنية ، والتي كانت منفذا جماهيريا لا يعوض للحزب. فان تجميد عمل هذه المنظمات (والذي يحلو للبعض تسميتها اليوم بتسمية مزعجة وهي منظمات المجتمع المدني وكأننا نعيش مجتمعات غير مدنية وبفضل هذه المنظمات سنتمدن!) ادى الى ان الجمهرة واسعة من مناصري اليسار ابتعدوا عن الحزب. كما ان محاولة الحزب لتشكيل حلقات الاصدقاء كبديل عن عمل المنظمات المهنية باءت بالفشل لان عدد غير قليل لم يكن مستعدا للارتباط بالحزب ولكنهم كانوا مستعدون للعمل بتفاني داخل المنظمات المدنية.
وعودة لبهاء عند الاراضي المحروثة ، في ذلك المساء الايلولي في 1982 ، حيث هو ورفاقه مع الليل والقمر. ولكنه رغم عشقه للقمر كان ينتظر غيابه بفارغ الصبر لينطلق وسط الاراضي المحروثه نحو العراق (عبر تركيا) حيث ترك هناك احلامه ورفاقه واهله. وما ان حانت الفرصة حتى سارع بهاء خطاه نحو الحقول الموحلة ، لتلهمه رصاصات الجندرمه التركية ملقيتا به ارضا مع رفيقيه سلمان ونمير ، ليحتضنه الليل الذي عشقه طيلة حياته ، ونفتقد فيه قمرين ، قمر في السماء وقمر في الارض انه بهاء الاسدي.
يصعب علي ان اعزيك يا بهاء ، ويصعب علي ان انساك .. فانت الوطن والوطن انت.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكرا
خالد صبيح ( 2011 / 11 / 20 - 15:44 )
شكرا كفاح على هذه الصورة الجميلةوالتذكير بـواحد من( المنسيين )..
انت ذكرت بان ساسون دلال قاد الحزب في الخمسينات واظن،وانا اعتمد على الذاكرة، انه قاد الحزب فترة قصيرة جدا في عام 49 واستشهد وعمره 25 عاما. ولاادري لماذا التحفظ على اسمه في صفحات تاريخ الحزب..
تحياتي لك

اخر الافلام

.. تغطية خاصة | الشرطة الفرنسية تعتدي على المتظاهرين الداعمين ل


.. فلسطينيون في غزة يشكرون المتظاهرين في الجامعات الأميركية




.. لقاءات قناة الغد الاشتراكي مع المشاركين في مسيرة الاول من اي


.. بالغاز المسيل للدموع وخراطيم المياه..شرطة جورجيا تفرّق المتظ




.. الفيديو مجتزأ من سياقه الصحيح.. روبرت دي نيرو بريء من توبيخ