الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تعالو نبتكر لغة جديدة للتحاور

فينوس فائق

2004 / 12 / 20
القضية الكردية


كثيراً ما يحتاج الكاتب إلى لحظات صدق يقف فيها أمام نفسه ، و أخرى يقف فيها مع قرائه، حتى يجدد أو يقوي مصداقيته مع نفسه وعند القراء ، فمن الطقوس المهمة التي يجب أن يمارسها الكاتب ، أو ربما يمارسها الكتاب فعلاً ، هو قراءته لكتاباته الماضية و مراجعتها قبل البدأ بكتابة موضوع جديد ، أنا كثيراً ما أفعل هذا ، و أعود كل مرة إلى نقطة البداية حيث كتبت أول مقال لي في حياتي ، و أشدد على نقطة مهمة و هي الصدق و الوضوح ، لكي أحتفظ على الأقل بالخيط الذي يربطني بالقراء على الدوام..
كقارئة كثيراً ما أمل من الكتابة الغامضة أو تلك التي تدخلني في متاهات ، إلى أن تضعني بعد طول عناء أمام لب الموضوع ، و كثيراً ما أصاب بالتشنج و سؤء الهضم الثقافي عندما أقرأ لكتاب ، ينافقون أنفسهم ، و يغالطون و يشوهون الحقائق ، متناسين أن الحقائق هي من الأشياء الثابتة ، لكن الآراء التي تحوم حول الحقائق هي من المتغيرات ، بالتالي فإن سعة صدر القاريء مع مثل هذه الكتابات لها حدود ..حين كتبت مقالتي التي صارحت فيها العراقيين بحلمي فيما يخص الدولة المستقلة ، كنت أكتبه و قلبي مفتوح على مصراعيه ، لم أشأ أن أخدع نفسي و لا أن أجرح أحد ، كنت أبحث عن اللغة المثلى للتحاور، كنت أحاول رسم حدود منطقة للتحاور الأسطوري و الساحري ، و بناء جسر يربطني بالآخر..
بغض النظر عن أنني أخفقت أو نجحت ، فإني فتحت باباً للنقاش ، لكن الذي حدث هو أنني إكتشفت أن لغة الحوار معدومة أو ربما وغير موجودة بيننا بالشكل الذي يتناسب مع المرحلة التي نحن فيها ، و بالتالي علينا نحن أن نكتشف أو نتخيل ملامح للغة الحوار التي نتمناها ، و الدليل هو ردود الفعل التي وردتني بعد ذلك ، لكن ما أحمد الله عليه أن ردود الفعل الإيجابية كلها جاءت من أسماء لامعة في سماء الفكر و الأدب و الثقافة و الكتابة ، و ردود الفعل السلبية جاءت من إمعات و أقزام لا أسماء و لا ملامح لهم ، و لا يظهرون سوى في ظلام الليل الدامس ..
لذا لا أخفيكم بأنه جائني كم هائل لا يصدق من الرسائل الألكترونية ، من العرب على وجه الخصوص ، و من الكورد طبعاً أيضاً ، الكثير منها كانت عبارة عن كلام بذيء أخجل حتى أن أتذكره ، و البعض الآخر كان كلاماً منمقاً يسيء إلى المشاعر و بأسلوب فظ ، و البعض أعلن عن إستياءه و أعطى لنفسه الحق بأن يمسك بالمشرط و يقطع كلماتي و حلمي إرباً إرباً دون أن يفكر و لو للحظة بأننا نعيش في زمن مختلف تماماً عن الزمن الذي كان الطاغية صدام و أعوانه يقيمون لنا فيه جحيماً ، و البعض الآخر كان يتعارض لكن بلطف و دون المس بالمشاعر.. تلك كانت بمثابة التجربة الغنية لي ، جعلتني أقيم القراء من مختلف الزوايا ، و أحسب لهم ألف حساب قبل أن أمسك بالقلم و أكتب لهم بكلمة ..
لذلك قررت في قناعتي أن أكتب من الآن فصاعداً لكن بقدر أكثر من الوضوح و الشفافية ، لا لشيء و إنما لكي نجرب أسلوباً آخر للتحاور بيننا ، أو لنبتكر نحن أيضاً اسلوباً للحوار بيننا ، لماذا كل شيء نكتسبه من الغرب ، ألسنا نحن أيضاً بشر و لنا عقول و بإمكاننا أن نبتكر و نبدع في إبتكارنا؟.
تعالو نبتكر لغة جدية للتحاور ، لغة تحمل أبجديات جديدة ، أبجديات من التسامح و التفاهم و الإتفاق ، لغة تقتصر مسافات من الخطابات و الشعارات الطويلة التي أثبتت مع مرور الزمن عدم صلاحيتها ، و من الأجدر أن ندخلها المتحف اللغوي ، و نعلن عن لغتنا الجديدة ...
و ليكون إبتكارنا هذه المرة له علاقة بأعماق هذا الكائن الذي يسمى بالبشر ، الذي يمتلك نعمة النطق والكتابة و القراءة ، على عكس كل مخلوقات الأرض أجمعين ، و يمتلك نعمة التعبير عن عواطفه و أحاسيسه بالكلام و بمقدوره أن يدونها على الورق ..
عن نفسي أقرأ كل ما يقع تحت يدي من مقالات خصوصاً لأسماء أعرفها ، و حتى لأسماء لا أعرفها ، لكن أحبذ تلك المقالات و الكتابات التي تفتح أبواباً على الأعماق البشرية و تلك التي تطرق باب النفس البشرية من خلال الطرح ، أي طرح كان ، فربما بإمكاننا أن نبتكر أيضاً أسلوباً آخر لطرح أفكارنا السياسية بعيداً عن الخطابات الجافة التي يجف الحلق مع قرائتها ، و يمتليء وجهي بالتجاعيد عندما أفرغ من قراءتها ، مع إحترامي الشديد لأصحابها ..
فمثلاً لو جربنا أن نتحدث عن أمور سياسية مثل الوضع القائم في العراق بأسلوب أكثر مطاطية و مرونة و من عمق إحساسنا بالمسؤولية الإنسانية و الأخلاقية تجاه أنفسنا و تجاه الآخرين ، وليس من خلال واجب ممارستنا للكتابة كسياسيين أو كمفكرين نضع المشاعر الإنسانية على الرف ، لدرجة أن نتعامل مع تلك القضايا من المنظور السياسي البحت و نقيسها بمقاييس سياسية جامدة فقط ، لماذا لا نتعاطى مع المفاهيم و المعطيات السياسية بطريقة العشاق ، فلو كل منا تجرأ على أن يعلن عن عشقه لقضيته لكن شرط أن يلقى الترحاب من الآخر ، لجائت الحلول من تلقاء نفسها بشكل سلمي ، ربما يكون ذلك أجدى و ذو نتيجة نافعة مما لو كنا نردد طول الوقت فقط شعارات تنسجم مع كل الأزمنة و كل العصور و تتناسب مع كل الأنظمة ، و نكتب سطوراً كتبناها في مقالات قبل عشرين أو خمسين عام ، و نعود اليوم نغير التأريخ المدون في أعلى الصفحة و إسم الحكومة التي قامت و الرئيس الجالس على الكورسي ، و المضمون المغلوب على أمره يبقى كماهو ، لكن ما يجعلها مختلفة هي الأقلام التي تعيد كتابتها و تلك الأفواه التي ترددها و التي تقرأها و الأصوات التي نسمعها بها..
النفس البشرية أعمق و أكبر مما نتصور ، فلابد لنا أن نغوص فيها حتى نكتشف أسرارها الأخرى ، فقد وصل الإنسان إلى الفضاء و وصل القمر و تغلغل إلى أعماق البحار و إكتشف عوالم في أعماق البحار ، حتى أن الإنسان في الكثير من بقاع العالم إبتكر فلسفة من علاقته بالحيوانات و الطيور و يطورها يوماً بعد يوم ، لكنه يفشل عن أن يوجد منطقاً سليماً يتعامل به مع إنسان آخر مثله ، له نفس الحقوق و نفس الواجبات ، ذلك لأنه يصعب عليه حتى إكتشاف أعماق نفسه ، و الأدهى من ذلك حين يتخاصم مع أعماقه يغلقها (بالترباس) و يرمي بالمفتاح في بئر.. نحن اليوم أحوج إلى أن نتصالح مع ذاتنا و أن نفتح قلوبنا و نعلن عن الحب على الأقل في المنطقة التي نعيش فيها ، لننعم بجنة نحلم بها ، ثم نخطو نحو الآخر و نغوص في أعماقه و نحاوره بلغة يرتاح منها و يفرح بها..
نحن اليوم أحوج إلى لغة تحاور مثلى على خارطة الفكر البشري ، لكي نقترب من بعضنا البعض ، حتى و إن كنا مختلفين في اللون و العقيدة و الدين و الإنتماء العرقي ، حتى و إن كنا نتخاطب كل من داخل حدوده السياسية و الجغرافية المستقلة ، فكوننا لا يجمعنا بلد واحد لا يعني بالضرورة أنه يجب أن نكره بعضنا البعض و أن نتقاتل..كيف سنفلح في بناء مجتمع قائم على مباديء الفضيلة و أسس من التسامح إن لم نبتكر لغة جديدة للتحاور أكثر جدوى..
كتب لي أحدهم قبل فترة رسالة ألكترونية طويلة متشنجة إلى حد ما ، يسألني فيها : لماذا آتي اليوم لأطالب بقيام دولة كوردية ، و يتهمني في الرسالة أنني أعمل من خلال كتاباتي على إفساد العملية الديمقراطية في العراق ، في الوقت الذي يكاد العالم كله اليوم أن يتحول إلى قرية صغيرة في ظل التكنلوجيا التي تلغي كل الحدود السياسية و الجغرافية بين الشعوب ، و المثال الحي أمامنا _و الكلام لصاحب الرسالة_ هو قيام الإتحاد الأوروبي و كيف أن الدول الأوروبية توصلو إلى إلغاء الحدود الإقتصادية بينهم..(مع مراعات أنني لم أطالب بدولة كوردية لسبب بسيط و هو أنني أحلم على وسادة الواقع ، و أنما تحدثت عن حلم قد يتحول يوماً إلى واقع) ..
لم أرد بطبيعة الحال على الرسالة ، لكي أتحدث عنها هنا للقراء ، و أنا أقول: صحيح لماذا نتحدث عن قيام دولة مستقلة في هذا الزمن؟ لكن ضميري يحتم علي أن أضيف أيضاً و هل كان الكورد يوماً مستقلاً و شبع من الإستقلال حتى يفكر في الإتحاد؟.. الجواب هو: قبل كل شيء لتعود كوردستان إلى ماكانت عليه قبل تقسيمها من قبل الإنكليز بين أربعة دول ، وتعلن الإتحاد بين أجزاءها الأربعة ، و تنعم بإستقلالها شأنها شأن باقي شعوب العالم ، من ثم نطلب منها أن تفسخ الإتحاد الكوردستاني و تتحد في بلد آخر ألحقت به قسراً ... ثم لماذا مطلوب من الشعب المحتل و المسلوب الحرية دائماً أن يتفهم مثل هذه الأمور، في حين أن القائم بالإحتلال ليس عليه سوى أن يحتل!! ثم متى و كيف وصل الغرب إلى هذه المرحلة التي وحدوا فيها سوقهم ؟ طبعاً بعد قيام دولهم و حكوماتهم و إستقلالها و قيامهم بثورات سياسية و إقتصادية و إجتماعية و علمية ، ثم أن الإتحاد الأوروبي ، ليس إتحاداً بالمعنى السياسي أو إلغاء الحدود الجغرافية و السياسية بين الدول ، فتلك الحدود موجودة و كل دولة و حكومة لها إستقلاليتها التامة من كل النواحي ، و أظن أن كل متابع يعرف أن ما من دولة أوروبية ترضى أن تتنازل عن حدودها الجغرافية تحت أي ضرف ، و إلا لماذا هناك حكومة هولندية و أخرى ألمانية و أخرى بلجيكية و فرنسية و..و ..و...ألخ...
ثم إذا كان الحال كذلك فلماذا لا تتبع الدول العربية في الوطن العربي خطى دول الغرب و تفعل ما فعلت و توحد على الأقل السوق العربية ، و توحد عملتها كما وحدتها الدول الأوروبية ، و أن تعمل على إلغاء و إزالة الحدود الجغرافية و السياسية ، و أن تتحد فيما بينها في القرارات السياسية ؟ لماذا وقف العالم أجمع عندما حاول صدام قسراً إلحاق الكويت بالعراق ، و دافع عنها دول التحالف و شدوا أدن صدام على فعلته ، أليس كويت دولة عربية و ممنكن أن تكون جزأً من العراق تحت راية أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟ و العالم كله نادى بأن الكويت دولة مستقلة بذاتها و يجب إحترام سيادتها و أنا كنت أول الغاضبين على فعلة صدام التي أساءت ليس لنفسه و إنما للفكر القومي العربي كله..
أم أن الكورد فقط هم الذين يجب أن يضحوا و أن يبقوا منقسمين داخل كوردستان الكبرى و ملحقين بدول أخرى حتى يحافظوا على وحدة أراضي العراق في جنوبها و وحدة أراضي توركيا في شمالها و وحدة الأراضي السورية الشقيقة!!! ..
أنا أقر و أعترف أن القيادات الكوردية بحكمتها المعهودة ، إتخذت قراراً صائباً بإختيارهم الفيدرالية ، على إعتبار أن الفيدرالية هي أكثر أنواع الحكم المتقدمة في العالم و التي تنسجم حضارياً مع شعار لم شمل التنوع العرقي ضمن نظام حكمٍ لامركزي تعددي يحترم حقوق الأقليات ، و هذا النظام الفيدرالي بعكس الأنظمة الشمولية التي تمجد سلطة الفرد الواحد ، لأنه يقسم السلطة على الأقاليم ، على أساس نظام (اللادولة) و تحقيق المساواة بين الأفراد ، و نقطة أخرى و مهمة في نظري و هي أن النظام الفيدرالي هو أكثر النظم المتقدمة التي تمهد لإستقلال الشعوب و إقامة حكوماتها المستقلة في أجواء ديمقراطية و سلمية .
و أنا أتحدى أي كوردي في العالم و ليس فقط في كوردستان ، إبتداءاً بالقيادات العليا للأحزاب الحاكمة في كوردستان وصولاً إلى أبسط مواطن ، وحتى الطفل الرضيع الذي يجري في عروقه دم كوردي أن يقول أنه لا يحلم بالدولة الكوردية .
فما أود أن أقوله هو أن المشكلة ليست في أن الكوردي يحلم ، و إنما المشكلة أن الآخر يعطي نفسه الحق ليصادر الحلم ، و لا يتقبل النقاش و لا يلجأ إلى لغة الحوار ، و إن كانت اللغة معدومة لا يفكر في إبتكارها ، المشكلة هي أن هذا الآخر لا يتصور أن الكورد أمة شأنها شأن أمم العالم تحلم بحدودها السياسية و الجغرافية الخاصة بها و إستقلاليتها الخاصة ، و ربما الخلل في بعض الأحيان في كيفية الطرح السياسي الكوردي..
و أن كل ذلك لا يمنع أن نتحاور بإنفتاح و بشفافية ، فحق تقرير المصير بما فيه خيار الدولة الكوردية ، كأي مشروع شرعي يتطلع إليه أي شعب في الدنيا.. فلو فرضنا أن العملية الديمقراطية لم تنحج في العراق ، و عجزت القوميات و الأقليات أن تتعايش فيما بينها سلمياً في عراق موحد!!. ماذا يمكن أن يكون البديل؟. لو فكرنا بشكل واقعي ، يكون الخيار ببساطة هو الإنفصال ، فالحالة هنا أشبه بحالة زوجين ، إما أن ينسجما و يتفقا على التعايش معاً على أسس من الإحترام و حفظ الكرامة و أن يستمرا في الحياة الزوجية في جو صحي و آمن ، إما أن ينفصلا بالمعروف ودياً لكي يؤمن كل واحد منهما جوه الصحي و الآمن المسقل و الحر بعيداً عن النزاعات التي لا تُنتج سوى النزاعات ، و يبقى التحاور هو مفتاح اللغز كله..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. متى تلقى استغاثات الأمم المتحدة عن الوضع في غزة آذان مُصْغِي


.. ما هي التحديات الأساسية التي تواجه جهود الإغاثة في الفاشر؟




.. إحصاء حكومي يظهر أن ثلث الأسرى الإسرائيليين بغزة لقوا حتفهم


.. موجز أخبار السابعة مساءً - الأمم المتحدة: يجب التحرك العاجل




.. البلاستيك وقود النازحين لإعداد الطعام في غزة