الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


العلمانية والشجرة

صبحي حديدي

2004 / 12 / 21
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


القانون الفرنسي حول منع الرموز الدينية في المدارس الحكومية، والذي سُنّ مؤخراً وأثار الكثير من ردود الأفعال التي ظلّت في العموم أسيرة السطح والسطحية والتحزّب والتحزّب المضادّ للأسف، كاد قبل أيّام أن يُجْهز على رمز بريء يرتبط بعيد الميلاد، ولكنه أخذ يقترن بالأطفال خصوصاً، وبأطفال العالم بأسره أياً كانت ديانات ذويهم: شجرة عيد الميلاد!
والحكاية تقول إنّ مدير المدرسة الثانوية "فان دونجان"، في ضاحية لانيي ـ سور ـ مارن شرق العاصمة باريس، استقبل في مكتبه طالبتين (لا يبدو عليهما أيّ مظهر تديّن كما تروي صحيفة "لوموند"، ولا ديانة واضحة)، جاءتا للاحتجاج على نصب شجرة عيد الميلاد في مدخل المدرسة، لأنّ الشجرة رمز ديني مسيحي، وهي تالياً تتناقض مع القانون الأخير وتنتهك المدرسة الفرنسية، العلمانية والجمهورية. وأوضحت الطالبتان أنهما تمثّلان وفداً من الطلاب والطالبات، يحتشد للسبب ذاته في الممرّات.
للوهلة الأولى بوغت المدير، ثمّ حاول أن يشرح للطالبتين المغزى الاحتفالي الصرف الذي تمثّله الشجرة، وأنها ليست رمزاً دينياً، أو أنّ الإدارة على الأقلّ لا تقصد المعنى الديني. لكنه، في نهاية الأمر، اضطرّ إلى تقليب الأمر على وجوهه الأخرى التربوية والثقافية والدينية، ولكن الأمنية بصفة خاصة، وقرّر إزالة الشجرة. وفي اليوم التالي كان عدد من الأساتذة يعكف على إعداد نصّ تعليمي يستعرض تاريخ استخدام الشجرة كعنصر زينة في هذا الوقت بالذات من العام، وأنّ التقليد وثني في الأساس، ويرمز إلى الخصب والنماء بعد سبات الشتاء، ويعود إلى قرون سابقة على ميلاد المسيح وانتشار المسيحية.
لكنّ نوعاً آخر من السجال كان هو الذي انتصر في نهاية الأمر، لأنّ عدداً من الطلاب والطالبات المؤيدين لنصب الشجرة حضروا في اليوم التالي إلى المدرسة وقد تقصّدوا إبراز مظاهر الاحتفال بعيد الميلاد (مثل تعليق الكرات الصغيرة كأقراط في الآذان، وارتداء إكليل الميلاد على شكل وشاح حول العنق...)، وطالبوا المدير بإعادة الشجرة. وبالطبع، كادت المدرسة أن تنقسم إلى جبهتين، لا يدور الصراع بينهما حول الشجرة البريئة ذاتها بأيّ حال، فوجد المدير نفسه مضطرّاً ــ للأسباب الأمنية ذاتها، على الأرجح ــ إلى إعادة نصب الشجرة!
وحسناً فعل، في المحصّلة. صحيح تماماً أنّ القانون الفرنسي هذا حافل بالثغرات، وعاجز عن تغطية ما ينجم عن تلك الثغرات من تأويلات قصوى (وهذه الحكاية مجرّد مثال راهن)، إلا أنّ الطعن بالقانون أو تحدّيه أو حتى تبيان مثالبه ونواقصه شيء مختلف تماماً عن اتخاذه ذريعة لنسف تقليد إنساني بريء، جامع للعباد بدل تفريقهم، ورمز وئام وسلام، ومبعث فرح لأعذب أفراد العائلة البشرية: الأطفال. وأكاد أجزم أنّ الوفد المناوىء، أيّاً كانت عقائد أفراده، يحمل لشجرة عيد الميلاد المحبّة ذاتها التي في قلوب الوفد المؤيّد لنصب الشجرة. وهكذا فإنّ ما حرّك النفوس لم تكن شجيرة التنّوب الوديعة ذاتها، بل ما يمكن أن تشغله من موقع دلالي في معمعة صراع الرموز!
وهذا، بالطبع، لا يلغي الحقائق الثقافية والتاريخية والأنثروبولوجية التي تقول إنّ لتقليد نصب الشجرة في هذه الفترة من السنة جذوره الوثنية أو الرومانية، والتي في الآن ذاته لا تنفي عن شجرة عيد الميلاد صفتها كرمز مسيحي بامتياز. ففي "العهد القديم" يعيب إرميا، الإصحاح 01: 2ـ4، على اليهود اقتداءهم بـ "فرائض" الأمم الأخرى، وبينها تزيين الشجرة: "لأنّ فرائض الأمم باطلة. لأنها شجرة يقطعونها من الوعر. صنعة يدَيْ نجّار بالقدّوم. بالفضة والذهب يزينونها وبالمسامير والمطارق يشدّدونها فلا تتحرّك. هي كاللعين في مقثاة فلا تتكلّم...".
وثمة مَن ينسب إلى مارتن لوثر (مؤسس الكنيسة اللوثرية والعقيدة البروتستانتية) أمر انقلاب هذه الفريضة الوثنية إلى تقليد مسيحي أقرب إلى الفريضة الدينية في الواقع، ويتردد أنه أوّل مَن أضاء شمعة في شجرة ميلاد، أواخر القرن السادس عشر. وأمّا تقليد نصب هذه الشجرة تحديداً، أي شجرة التنوّب من فصيلة الصنوبريات، فقد جاء من ألمانيا. ولهذا فإنّ بلداً مثل جنوب أفريقيا شهد قبل سنوات نقاشاً طريفاً، ليس حول إلغاء أو إبقاء التقليد ذاته، بل حول حكمة نصب شجرة التنوب دون سواها. وترسّخ ميل شعبي عارم إلى استخدام شجرة وطنية، والبعض اقترح شجرة السرو، لكي يكتسب التقليد بُعده المحلّي الخاصّ، ولكي ينأى أكثر عن التأويل المسيحي الصرف.
ويجدر التذكير أنّ تقليد الشجرة لا يحظى بإجماع في الصفّ المسيحي ذاته. لقد اعترض عليه أوليفر كرومويل رائد الديمقراطية البريطانية؛ ورفضه الطهوريون الأمريكيون طيلة العقود الأولى من استيطانهم في الولايات المتحدة؛ وكان القسّ هنري شوان (كليفلاند، أوهايو) أوّل من نصب شجرة ميلاد في كنيسة أمريكية، ممّا تسبّب في سخط رعيّته، وكان هذا سنة 1851! وفي كلّ حال لم يكن طلاب ثانوية "فان دونجان" الفرنسية أوّل القائلين بتعارض شجرة عيد الميلاد مع المبدأ العلماني: في سنة 2000 رفض مجلس مدينة أوجين، ولاية أوريغون الأمريكية، نصب الشجرة في المؤسسات الحكومية لأنها، تحديداً... تتعارض مع مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. د. حسن حماد: التدين إذا ارتبط بالتعصب يصبح كارثيا | #حديث_ال


.. فوق السلطة 395 - دولة إسلامية تمنع الحجاب؟




.. صلاة الغائب على أرواح الشهداء بغزة في المسجد الأقصى


.. -فرنسا، نحبها ولكننا نغادرها- - لماذا يترك فرنسيون مسلمون مت




.. 143-An-Nisa