الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الله .. وأبى ... وأنا

أحمد عفيفى

2011 / 12 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


الله وأنا، ليست مقارنة.
الله وأنا، تاريخ من القرب والحميمية والصدق واليقين والثقة.
أنا لم أولد لا دينى، وكنت أحرص على لقاء الله يوميا، ربما أكثر وأسرع من أبى الطيب الجميل التقى، الذى أصبح يتندر بتلك العلاقة الحميمة التي نشأت بينى وبين الله ويردد أحيانا على مسامعى بصوته الهادئ الرخيم الرصين الضحوك : " علمناه الصلاة، فلما شب، سابقنا إلى المساجد ".
أنا كنت أؤمن بالله، ولكن ليس ذلك الله الذى أرسله محمد، ذلك الله الذى له يد وكرسى ويغضب ويلعن، وتطفئ الصدقة غضبه، الله لا يغضب، ولا ينبغى أن يفعل، وليس بحاجة لصدقات، لتطفىء ما لا ينبغى.
أنا كنت دائما أتصور الله كأبى، وربما تصورت أحيانا أن الله هو أبى، ورعا تقيا نقيا، وربما كنت أحب الله فى شخص أبى، ذلك الرجل القوى الذكى الحليم، الذى حرص على تعليمى وكنت لا أحب العلم وأهرب من الدراسة، فيصر على تعليمى رغما عنى، ويصاحبنى للمدرسة كل صباح، ليتأكد من ذهابى ودخولى.
ذلك الرجل الذى كنت أحبه وأرغب بتقبيل قدمه كل صباح، فيرفض حتى أن أقبل يده، ويخبرنى أن لا فضل لمخلوق على آخر.
ذلك الرجل الذى لم يكن يقنط من اسألتى اللحوحة الكثيرة ويجيب عنها كلها بأناة وسعة صدر، رغم أنها كانت لا تنتهى، ذلك الرجل الذى يعرف كل الإجابات رغم أن لا أحد يعرف كل الإجابات، حتى أننى ظننت أن الله يوحى له.
ذلك الرجل الذى كان يستوقفنى برفق، فيرفعنى عن الأرض ويضع يده على فمى حتى أتوقف عن الأسئلة ويضحك ويشترى لى حلوى حتى انشغل بها بعض الوقت، فأضحك فرحا بالحلوى واصمت من اجل ذكائه وطيبته.
أبى لم يؤدبنى فى حياتى سوى مرتين، ولأسباب تربوية بحته، وأحيانا أتمنى أن يعود، ويؤدبنى لأسباب دينية بحته.
أبى عندما كان يموت أخبرني ألا أبكى فهو لن يموت، هو فقط سوف ينام طويلا حتى نلتقى ثانية فى مكان آخر، انا كنت لا أقتنع بحرف واحد مما يقول، وأخفى عنه ذلك، وأومئ بالموافقة والاقتناع كرامة وإرضاء له، وأرغب أن أخبره أن يوم موته، ربما يكون يوم موت الله بالنسبة لى، فأنا دون العاشرة ودونه، وحاجة الله له لن تفوق حاجتى بالقطع، وأنا أستمد يقينى من وجوده وليس من قصص القرآن وسنة نبيه، فأنا لم أقتنع بهما يوما سوى لأنه هو من كان يؤمن ويقتنع بهما.
كنت استلقى بصدره العريض الطيب الساكن وهو نائم نومة الموت وأرغب أن أرحل معه، فلا حاجة لبقائى بأرض ليس بها أبى و إلهي ، ومصدر وجودى وسر يقينى.
بعد رحيل أبى، رحل الله أيضا، أو اختفى، أو صمت، لم يعد يكترث لصلاتى أو دعائى أو دموعى، وكأننى كنت أصلى للقمر وأدعو للنجوم وأبكى للسماء.
أبى كان حائط الصد القوى المتين، ذلك الذى يمنع عنى طوفان الشك والأسئلة الكثيرة، وغياب الله المتكرر عن حياتنا ومدينتنا.
أبى كان قلعتى الأخيرة التى كنت أتحصن بها من منجنيق قلب الأسد، وأبراج الصليبيين.
أبى كان ظل الله فى الأرض، ذلك الظل الذى يحمى ويتواجد ويهتم، ذلك الظل الذى يجيب على الأسئلة الكثيرة ولا يلتزم الصمت.
أبى كان يحب أمى فقط، تلك المرأة الهادئة الجميلة الذكية، أبى تزوج أمى فقط، ولم يتزوج عليها مثنى وثلاث، أبى كان يحترم ويكتفى بأمي، وكنت ومازلت مؤمن بأسوته وسنته فى الزواج بامرأة واحدة فقط وحبها واحترامها.
أبى كان قويا وذكيا ومتينا وبشوشا، وكان للنساء ميل له، كنت ألحظه بعينى رغم صغر سنى، ولم يكن يكترث له مطلقا.
أبى كان يعرف ماذا يريد من الحياة، وماذا يريد من المرأة، وماذا تعنى رابطة الزواج المقدسة، ومسئولية الإنجاب والتربية الأكثر قداسة.
أبى لم يكن موسرا، وأنجب ثمانية، أصر إصرار المقاتلين، على تعليمهم أجمعين، فخرج من جعبة ذلك الرجل الصادق الأمين، ثمانية أبناء للجامعة، ما بين طبيب ومهندس ومحاسب وضابط.
أبى كان حريصا على إرضاء أمى، زوجته وصاحبته وحبيبته الوحيدة، فتهرع الى صدره حين يعود من العمل، فيبتسم ويحتويها، ولا يزيحها أبدا حتى تكتفى وتطمئن.
أبى كان يقسط علينا فى الحب والمال والحلوى واللعب، فلا يميز أحدا لمهارته، ولا يزجر أحدا على طبيعته وجبلته.
أبى كان يطعمنا كما تطعم الصقور صغارها، وكان طعامه قليلا، لا ليوفر لنا، كما كنت اعتقد، ولكن لأنه لم يكن رجلا بطونا، تماما كما أصبحت أنا.
أبى كان يهذب لحيته، ويطيل جلبابه، ويعطر جسده كمن يذهب لعرس وهو ذاهب لقاء الله.
أبى كان يصادق قسا، وهو إمام المسجد، فيتحير العامة والمصلون، فلا يكترث ويجيب بهدوء: هم أهل كتاب.
أبى كان يسير بصحبه ذلك القس، فيتبادلان الحديث ويضحكان، فيختلط على الأمر، أيهما المؤمن وأيهما الصادق، أيهما المسلم وأيهما القبطى، أيهما أبى وأيهما القس!
أبى عندما مات، كنت أود لو أحتفظ بجسمانه، كما كان يحتفظ الأقدمون برموزهم، فالأقدمون لم يكونوا يعبدون رموزهم، كانوا يجسدونها ويحفظونها ويحبونها فقط ، ويتقربون منها وبها، وكأنها ذلك القارب الذى يصلهم بالبر الآخر، بر الأمان، بر الإله.
أبى كان صديقى وحبيبى وخليلى، وصوت الله وعقله وحكمته فى الأرض وفى حياتى.
أبى يزورنى وأنا اكتب، ويشاركنى فنجانا من الشاى، ويرحل مبتسما مردفا: تبا لك من زنديق.
أبى يدعو لى كل يوم، ولا ييأس ولا يقنط، ولا يرجم ولا يسخط.
أبى مطمئن، فقد ترك فرسان المائدة المستديرة، ويدرك أنهم فرسان أقوياء مخلصون، عن الحق باحثون، عن العقل باحثون، فقط أحيانا ثابتون، وأحيانا جامحون، كعادة كل الفرسان الجيدون.
أبى يقرؤني السلام، ويرسل لى السلام، ويرقد فى سلام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ممكن ان اقول قصة واقعية للكثيير منا !
سنان سعيد منصور ( 2011 / 12 / 8 - 18:12 )
أحُيك استاذ أحمد, على قصتك الواقعية التي من الممكن ان تكون مشابهة من هنا او هناك, لقصص لملايين الناس من الذين لديهم تشابه من هذا الدين او ذاك .

تقبل أحترامي وتقديري لصراحتك ومنهجك الراقي قي الكتابة.

سنان


2 - تألقت يا ابن العفة
شاكر شكور ( 2011 / 12 / 8 - 18:19 )
بعد السطور الرائعة والأنسانية التي سطرها قلمك النقي النظيف لم تبقي لنا اي كلام جميل لنقوله يا استاذ أحمد ، الرحمة على روح والدك الحكيم لأن جهوده لم تذهب سدا في بناء اسرة مثقفة وحكيمة ، فهو بلا شك حي بروحه بينكم ، سقطت الدمعة من عيني حين قلت (أنا كنت دائما أتصور الله كأبى) وتذكرت الصلاة الربانيه المسيحية التي تبدأ بأبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك ، عزيزي أحمد صدقني انك قريب جدا من الله الخالق الحقيقي الذي يحب الجميع ولا يكره او يميز بين البشر وصدقني لن يتركك هذا الأله ما دمت سميته أبي ليس خوفا منه بل قناعة ، تحياتي


3 - الأستاذ سنان سعيد
أحمد عفيفى ( 2011 / 12 / 8 - 18:19 )
كلنا هذا الرجل يا عزيزى
شذره من هنا وشذره من هناك
سواء كان الخالق الله أو الآب

تقبل احترامى وشكرى على إطراءك


4 - الأستاذ شاكر شكور
أحمد عفيفى ( 2011 / 12 / 8 - 18:33 )
عزيزى
أنا لست قريبا من الله الخالق الحقيقى
أنا من روح الله الخالق الحقيقى
أنا لا زلت أحبه ولا أخاف منه
فالخوف لا يليق بالله
والخوف والحب لا يجتمعان
وأن اخر دعائى
الهى الذى فى السماء وفى ضميرى
فليتقدس اسمك ولتكن رحمتك
للجميع

وتحياتى


5 - رحمة الله على الوالِد المؤمن
سامى غطاس ( 2011 / 12 / 8 - 22:42 )
الأخ الحبيب أحمد
أبانا الذي فى السموات .ليتقدس إسمك لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك عل الأرض ..............
تلك كانت كلمات نطقت أنت بها و إن لم يكن حرفياً . دعنى أتطفل عليك قليلاً و أطالبك بمواصلة البحث و عدم التوقف لعلك تصل يوماَ ما للتعرف على اأصحاب تلك الكلمات , وإن إستطعت الوصول اليهم فستجد إنك ليس الوحيد الذي يرى الله بهذا الجمال الذى تخيلته فى مقالك سابق لك بعنوان - لو كنت الله - و ستعلم حتماً إنهم يعبدون الهاً يرى فيهم أبناء له وليس عبيد .
إله شعلة من الحب و الحنان وليس ماكراُ ,جباراُ و منتقم
تمنياتى لك بالتوفيق و الوصول الى سلامك الداخلى


6 - الأستاذ سامى غطاس
أحمد عفيفى ( 2011 / 12 / 8 - 23:11 )
انا انعم بسلام دخلى
لا يعكره فقط سوى اصرار البعض على تكديره
لو فقط يتركونى اتصل بالله كما احب وكما هو يحب

سلامى لك


7 - تعليق على رد
سامى غطاس ( 2011 / 12 / 8 - 23:37 )
اشكرك على الرد متمنياُ فى ذات الوقت الا أكون من ضمن هؤلاء البعض الذين يكدرون سلامك الداخلى.
تحياتى الحارة


8 - الأستاذ سامى غطاس
أحمد عفيفى ( 2011 / 12 / 8 - 23:48 )
لست بالقطع احدهم يا صديقى
تحياتى الحارة


9 - الفرق الكبير فى شكل الوجه بين الانسان
حكيم العارف ( 2011 / 12 / 9 - 00:17 )
انت كنت تشعر ان الله هو ابوك .... ونحن نؤكد ان الله هو من دعانا اولاده. لذلك حق لنا ان ندعوه كل يوم -ابانا الذى فى السموات-.


المشكله فى الاسلام هو تصوير الله كمنتقم جبار يكتب على الانسان عذاب القبر وكل هذا السخف الذى من خلاله لايشعر المسلم بحنان ورقة وعذوبه حب الله للانسان ... والذى يؤكد هذا الفرق الكبير فى شكل الوجه بين الانسان الذى يحب الله (محبه قلبيه ) ويحب خليقته وبين الانسان المتدين الذى يؤدى الفروض خوفا ورغما ...


10 - الخيال
كاوه كردي ( 2011 / 12 / 9 - 10:34 )
ان العلاقة ب الاب والله علاقة سيكولوجية يعتمد على مقدار احتلال كل منهما او سيطرتهما على خيالنا وبالتالي في تفكيرنا وماينتج عنه من سلوكيات في المسيحية عندما من الصعب على الفرد ان يصبح ملحدا لانه يحس باليتم كانه فقد والده لذلك عندما يلحدون يقولون لقد فقدت ايماني كانه اصبح تائها ووحيدا في الصحرءلكن بالنسبة لنا كمسلمين مسالة الايمان والالحاد يعتمد على ما زرعه الوالد من ذكريات فاختيارنا لاي منهما يعتمد على الخيال المحتل من تفكيرنا من قبل الوالد فاي اتجاه معاكس يولد في داخلنا جرحا سيكولوجيا لانناسنفقد الوالد المحتل لخيالنا اكثر من الرب ...يتبع


11 - تكملة
كاوه كردي ( 2011 / 12 / 9 - 10:37 )
...تجربتي ربما هو مشابه لتجربتك لكن بصورة مغايرة فانا فقدت الوالد الملحد وانا في سن المراهقة وعمي اعدم من قبل نظام البعث وكان احد مؤسسي الحزب الشيوعي العراقي ولم اراه في حياتي لكنه يحتل حيزا كبيرا في خيالي ...وانا في بعض المرات عندما ارجع للصلاة ,وانا عندما اصلي اشعر بابي وعمي كانهما واقفان خلفي ويسخرون مني بل ويتبراؤن مني ...اتصور يا استاد احمد انك تشعر بنفس الشعور لكن بصورة مختلفة...انا وانت مدعوان للتحرر من عذاب الضمير فكل مانفعله يجب ان لايفهم بانه اساءة للوالد وكل من يشبه في صفاته الوالد...تحياتي


12 - تكملة
كاوه كردي ( 2011 / 12 / 9 - 12:56 )
تجربتي الشخصية مشابه لتجربتك فالوالد رحل عنا وانا في سن المراهقة وعاش حياة الملحدين ولم يشجعنا على الالحاد على العكس كان يشجعنا على الصلاة بالاضافة الى والدي هناك عمي الذي اعدم على ايدي البعثيين وكان من الاعضاء المؤسسين للحزب الشيوعي العراقي وهو يشغل حيزا كبيرا من خيالي رغم انه اعدم قبل مجيئي الى الحياة..اقول عندما يتوقد شعلة الايمان في داخلي في بعض المرات اتوجه للصلاة ,وانا اصلي احس بوالدي وعمي واقفين وراءي ويسخرون مني ,فسرعان ما يزول تلك الشعلة وارجع الى الافكار الذي يجعلهما يرقدون بسلام في قبرهما طالما اني لم اخالفهما الراي والفكرة التي اصبحت اسيرا لها ...نحن لانبحث عن الرب نحن نبحث عن راحة الضمير نبتعدعن كل ما يسبب لنا جرحا سيكولوجيا ,ننتهج منهج الوالد وليس الرب,


13 - الاستاذ حكيم العارف
أحمد عفيفى ( 2011 / 12 / 9 - 22:29 )
الله محبه :)


14 - الاستاذ كاوه كردى
أحمد عفيفى ( 2011 / 12 / 9 - 22:34 )
انا تحررت من عذاب الضمير
ومن عقد النقص والذنب
منذ غاب الله عن مدينتنا
وذكرى والدى تسعدنى

تحياتى لك يا صديقى الطيب


15 - رائع
حنان بديع ( 2012 / 2 / 2 - 07:06 )
انت كاتب رائع يا احمد
تحياتي

اخر الافلام

.. البابا فرانسيس يعانق فلسطينياً وإسرائيلياً فقدا أقاربهما على


.. 174-Al-Baqarah




.. 176--Al-Baqarah


.. 177-Al-Baqarah




.. 178--Al-Baqarah