الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من لغة التشرذم إلى لغة التعميم بفضل إصلاح التعليم

محمد الحمّار

2011 / 12 / 12
التربية والتعليم والبحث العلمي


شاهدنا في الأشهر الأخيرة في تونس تضاربا شرسا بين عقلية "دينية" وأخرى "حداثية" علمانية، أو بين تيار وتيار مقابل. ويتمثل الأول في حزب حركة النهضة الفائز بالأغلبية النسبية في الانتخابات، مع أطياف دينية بَحتة تدور في فلك هذا الحزب. ويتمثل الثاني إجمالا في سائر الأطياف غير الدينية.

ولئن اتكأ التيار "الديني" عموما على الاستحقاق السلطوي كمبرر لتعميم وجوده على واقع تونس الجديدة بأكمله، فإنّ التيار غير الديني هو بدوره لم ينفك عن السعي إلى تعميم مبررات وجوده على الواقع نفسه، سواء من داخل المجلس التأسيسي أومن خارجه. وقد أثر هذا التضارب وهذا الانقسام على سير فعاليات المجلس.

نستنتج مما سبق أنّ هذه الحالة في عموميتها تتسم بالتشرذم الفكري والسياسي. كما نفترض أنّ الذي يغذيها إنما هو التباين بين الديني والحداثي في عقلية كلا التيارين، وأنّ هذا التباين يشكل عُمق المشكلة: هشاشة الخلفية العقائدية "المشتركة" بين التيارين العريضين، وأيضا بين مختلف الأطياف، سواء تلك الممثلة في المجلس أو تلك المتفاعلة معه من خارجه. ونعني بالهشاشة النقص المفضوح في الانصهار العقائدي.

إنّ هذا غير مقبول منطقيا لأنّ الرقي الحضاري، لأي مجتمع، وبمنأى عن فكرة الديمقراطية، يستوجب حدا محترما من الانصهار العَقائدي. ناهيك لمّا يتعلق الأمر بالانتقال الديمقراطي، وهو بالتحديد انتقال وفاقي وائتلافي، ولو أنه يتضمن مبدأ قبول الاختلاف والتنوع بل يشترطهما. فالانصهار مطلوب ليتحقق بفضله ما ترنو إليه مختلف الأطراف السياسية من وفاق ومن ائتلاف. أمّا "اختلاف الرحمة"، والاختلاف الديمقراطي التعددي بلغة العصر، الذي نرنو إليه كلنا، فلا يمكن الحديث عنه وتناوله إلا بعد تحقيق الانصهار المبدئي.

إنّ هذه المعاينة لعدم توفر الحد المطلوب من الانصهار المبدئي، إلى الآن، في المجتمع العربي عموما وفي الحالة التونسية على الأخص تملي على الأطراف المَعنية التدخل السريع. فنحن شاهدون على مظاهر تُخبأ صراعات كامنة لم تُحسم بعدُ. وهي مظاهر تبدو غريبة لكنها منتظَرة من وجهة نظر الباحث.

وتأخذنا هذه المظاهر الدالة على فقر الانصهار، وبالتالي على التشرذم، إلى حيث يتكوّن الانصهار أم يتقلص من أساسه: الفضاء التربوي و التعليمي، أين أضحينا نستمع بين الفينة والأخرى إلى صيحات مفزعة. والنقاب أحدث صيحة حيث إنه صار يتبوأ مكانة لم تحضَ بها جدتي ولا حتى جدة جدتي. ومن أحدث الصيحات أيضا تُسجل المدرسة والجامعة ممارسات مثل التكفير الآلي والالتحاء العشوائي والمطالبة بالتفريق بين الجنسين في قاعات الدروس. إنّ حدوث كل هذا في الفضاء المدرسي والجامعي لَدليل على تصدع جدران البيت المعرفي. بل لقد اهتز هذا الهرم بصفة لامسَت منوال الزلازل والبراكين.

قبل فتح باب العلاج من علة الانقسام والتشرذم هذه، وهي المتسمة بأعراضٍ مثل المذهبية والانطواء على الذات والتحجر والتطرف، فلا بدّ من اعتبار أمرَين اثنين:

أولا، أن يعي الباحث في هذا الشأن أنّ العلة والأعراض جُلها مرتبطة وثيق الارتباط، حببنا أم كرهنا، بالجذع الديني للثقافة. فالأمر في الأصل يعود إلى رؤى مختلفة للدين. لكنّ الخطير أنّه اختلاف مولدٌ للخلاف. وذلك بالرغم من أنه ليس اختلافا في الثابت من الدين. إذن أفترض أن يكون اختلافا في المنهج.

ثانيا، ما من شك في أنّ المؤسسة التعليمية والتربوية عموما، بما فيها الجامعة، أفضل فضاء تُزرع فيه بذور الانصهار، وتُبنَى فيه الأعمدة لبنيان الوفاق، وتُشذبُ فيه، إن لم نقُل تُستأصل، جذور التجزئة.

ولنرَ بعدئذ كيف يمكن للدين أن يُتناول بأسلوب يصحح المنهج المُحقق للانصهار. في هذا السياق أعتقد أنه أصبح من الممكن الآن نَقل رؤيةٍ للدين إلى رؤيةٍ للعقل الغوي. ويتمّ ذلك عبر التوليد والتحويل وعبر سائر الأدوات التي يوفرها علم الألسنيات. وأكبر فائدة يسفرُ عنها هذا العمل هي ابتكار منهج عام للتديّن العقلي، إن صح التعبير، يشمل كافة نشاطات الإنسان.

من هذا المنطلق يتسنى بناء منظومة تربوية وتعليمية وأكاديمية متكاملة. ويكون التكامل على غرار تكامل الدين، لكنه تكامل لغوي. بالتالي سيمثل تعليم اللغات في هذه المنظومة، لا مادة دراسة فحسب وإنما مادة ذات ذات قيمة مضافة تتمثل في ثلاثة وظائف مستحدثة: عامل ترابط منهجي بين العقل والدين، بالاقتراب تارة وبالابتعاد طورا ("التناظر والتطابق")؛ وعامل ترابط بين العقل و مواد العلوم كافة ؛ وعامل تواصل مع الواقع، إن في داخل المدرسة والكلية أم خارجهما. ويمكن أن نسمي هذا "التعميم اللغوي".

بهذا المعنى ستلعب اللغة دور المُذَوّب لـ"المُركّز الديني" (ظاهرة التضخم الديني إحدى جناحَي التجاذب الإيديولوجي) فتستردّ مكانتها الأصلية كأداة تعبير طبيعية عن كل كبيرة وصغيرة في الحياة. حيث إنّ كل المشكلات اللغوية التي نعيشها اليوم، وهي عبارة على شراذم (الازدواجية، الصراع الأزلي بين اللغة العربية والعاميات، عدم مواكبة العربية الفصحى للعلم وللحداثة)، تنمّ عن تجزئة في التعبير اللغوي عن الحياة. وهي تجزئة موازية، بالتناظر تارة وبالتطابق طورا، للتجزئة العقائدية موضوع هذا البحث.

هكذا نكون قد وفرنا أسباب تحقيق المبدأ القرآني "مَن شاءَ فليُؤمنْ ومَن شاء فليكفُر" أين كان ينبغي أن يتوفر في كل زمان ومكان. إذ لم يعُد لمَن يؤمن مبررا لأن يجرّ إليه قسرا مَن لا يؤمن، ولم يعُد لمَن يكفر مبررا لأن يؤاخذ مَن يؤمن على عدم استطاعة إيمانه مواكبة العصر. لأنّ كلاهما مؤمن: مَن يؤمن آمن بالله وبرسوله، ومن يكفر آمن باللغة. لكنّ كلاهما مؤمن باللغة في بداية المطاف وفي نهايته. و تصبح اللغة آنذاك القاسم المشترك في توحيد الهوية.

من هذا المنظور سيكون التعميم اللغوي سندا لعامة الناس. إذ ستقترب الحياة المدرسية والجامعية والأكاديمية شيئا فشيئا من الحياة العامة، ممّا سيدعم الوظيفة الأكبر للمدرسة كهمزة وصل بين الفرد والمجتمع، بين الأسرة والشارع، بين التعليم والشغل، بين الذات والحياة، بين الدنيا والدين.

محمد الحمّار








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ماهو الهدف الحقيقي للحوثيين من استهداف السفن؟ فواز منصر يجيب


.. ترامب يعود إلى مبنى الكابيتول لتوحيد الصف الجمهوري | #أميركا




.. إطلاق صواريخ من غزة على جنوب إسرائيل وتفعيل القبة الحديدية


.. مراسلة الجزيرة ترصد تطورات التصعيد بين حزب الله وإسرائيل جنو




.. خليل العناني: قرار مجلس الأمن الدولي بوقف حرب غزة عقد مسار ا