الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قبل الدخول إلى مستنقع الدولة الدينية

نبيل هلال هلال

2011 / 12 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


السياسة والدبلوماسية وفنون الإدارة علوم أكاديمية تُدرَّس في الجامعات , ويمارسها رجال يتمتعون بقدرات خاصة وخبرات رفيعة تختلف تماما عما يدرسه المشايخ من علوم دينية لا يتاح لهم غيرها وتراثيات محنطة ثبتت سذاجتها وباطلها . فإذا أقحم رجل الدين نفسه في أمور السياسة والدبلوماسية والحرب , يكون قد أوتر غير قوسه , ورمى غير غرضه , وتؤول معه أمور الناس إلى بوار وخسران . وإذا كان فقيه السلطان قديما قد أقحم نفسه في تلك الأمور فلأن ذلك كان ضروريا للسلطان وبناء على طلبه , فهو من يبرر للناس سلوكيات سيده , فضلا عن أن أمور السياسة والحرب قديما لم تكن بمثل ما هي عليه الآن من تعقيد لا يصح معه إقحام المشايخ فيها , وإن قيل إن دورهم سيقتصر على تقديم المشورة والرأي , نرد بأن لا رأي لمن لا يعرف ما يقول فيه برأي .
واسمع الرأي الذي أفتى به فقيه الديار عَلِي جمالي أفندي للسلطان سليم الأول العثماني لما أراد غزو مصرسنة 1516 , سأل السلطانُ فقيهَه قائلا:
"إذا كانت أمة من الأمم التي تدين بالإسلام (أي المصريون) تؤثر تزويج أبنائها من الكفار (أي الشراكسة)بدلا من تزويجهم بالمسلمين فهل يجوز مقاتلة هذه الأمة ؟ فأجاب جمالي أفندي جوابا موجزا بقوله: "بلا مبالاة ولا مقاضاة" , وأضاف السلطان قائلا :
وإذا كانت أُمة تنافق في احتجاجها برفع كلمة الإسلام فتنقش آيات كريمة على الدراهم والدنانير مع علمها بأن النصارى واليهود يتداولونها هم وبقية الملاحدة من أهل الأهواء والنحل المنتمين إلى إحدى الفرق الاثنتين والسبعين أعاذنا الله منهم , فيدنسونها ويرتكبون أفظع الخطايا بحملها معهم إذا ذهبوا إلى محل الخلاء لقضاء حاجتهم فكيف ينبغي معاملة هذه الأمة ؟ فأجاب المفتي بأن هذه الأمة إذا رفضت الإقلاع عن ارتكاب هذا العار جاز إبادتها " .
والفتاوى التي تحيل الباطلَ حقا , جاهزة في جراب الفقيه السلطاني مادامت أكياس الدنانير هي المقابل . ولم يبال "الفقيه" الضِّلِّيل بألوف الأرواح التي أُزهقت في هذه الحرب والتي لم ير لها سببا غير أن الناس يحملون دنانيرهم وهم يتبرزون , ولأنهم يتزاوجون مع الشركس الذين وصفهم بالكفار في حين أنهم كانوا من المسلمين .
ومضى القول إن الأديان السماوية كلها تضمن حقوق الناس وتسوى بينهم , وترفع الظلم عنهم , واسمع قول الله وهو يحدد بجلاء سبب إرسال الرسل :" {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ } الحديد 25 , هكذا بوضوح تام : ليقوم الناس بالقسط , فالغاية القصوى من الدين السماوي هو قيام الناس بالعدل وفقا لما جاء في الكتاب ( التوراة والإنجيل المنزليْن والقرآن ) .
ويقول الله :
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ{44 المائدة}, .... ويقول :
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ{ 45 المائدة } ..., ويقول :
وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ{47 المائدة} ,
و"حُكم" الله - بمعنى القضاء والفصل بين حقوق الناس وليس بمعنى الإدارة والحكومة أو السلطة السياسية - لا يكون إلا بما سن الله من قواعد عادلة لا تحابي أحدا على حساب آخر, ولا طبقة على حساب أخرى , ولا تمنح سلطات مطلقة للحاكم على حساب المحكومين , فتلك أسس الحق التي سنها الله ليحكم بها الناس , ومن يعطل هذا "الحُكم" فهو "الكافر" الذي وصفته الآية 44 من سورة المائدة , وهو "الظالم" الذي وصفته الآية 45 من نفس السورة , وهو الفاسق الذي وصفته الآية 47 من نفس السورة وقد تشابهت ألفاظ الآيات تماما .
وكان فقيه السلطان قد فسر لفظ "حُكم" بأنه السلطة السياسة والإدارة ولم يفهمه على الوجه الصحيح من أنه "القضاء" بين الناس , ولم يتأمل الآية :{ وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ }النساء58 , فمعنى التقاضي والفصل بين الناس شديد الوضوح في الآية .
والله يقول : " إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ " الأنعام 57 , أي خير من يفصل ويقضي بحكمه . وإن قال قائل بأن المراد من الحكم هنا هو السلطة السياسية والإدارة , يكون مطالَبا بإيجاد تفسير معقول لقول الله تعالى :
{يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً } مريم 12 , فيحي لم يكن حاكما بالمعنى السياسي , وإنما أعطاه الله الحكم صبيا , أي أكسبه القدرة على الفصل بين المتقاضين وممارسة القضاء بين الناس , وكذلك النبي لوط يقول الله أنه آتاه حكما :" وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً " الأنبياء 74 .
وفي الآية 47 من سورة المائدة يقول الله تعالى :" وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " وفيها يطلب الله من النصارى القضاء بالأحكام التي أنزلها في الإنجيل , فعدم الحكم " القضاء" بها فسق .
ويقول : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ } آل عمران 3 , فالأصول والغايات واحدة , والمشرِّع واحد في كل الكتب وهو الله العالم بمصالح الناس جميعا, لا يظلم أحدا , ولا يسمح لأحد بظلم أحد , فكتبه المنزلة كلها تعدل بين الناس . والقرآن مصدق للتوراة والإنجيل , ومهيمن عليهما , أي جامعا شاملا لجميع الأقضية والأحوال بحسب الزمن اللاحق الأكثر تعقيدا , وعدل الله يصادم أحلام الصفوة والسلطة والكهنوت , وتحُول أهواؤهم - الرامية إلى الاستحواذ على المال والنفوذ - دون تحقيق غايات دين الله من المساواة بين الناس , إنها الأهواء , لذا يقول الله للنبي مرتين للتأكيد في آيتين متتاليتين 48 , 49 , (ولا تتبع أهواءهم) , وفي الآية 50 يقول :" أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" المائدة 50, فحكم" قضاء" الجاهلية لا يحقق العدل بين الناس , وإنما يحابي جماعات المصالح والملأ والأرستقراطية والطبقية .
ويعقّب اللهُ في نفس الآية مقررا حقيقة مطلقة ثابتة : " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ " , إنه الله الذي يُشرِّع , وأي مشرع سواه سيكون محابيا لطبقة مَّا , أو جماعة ما , أو أسرة ما , أو عرق ما , وحكم الله (قضاؤه) هو الوحيد الذي يعدل بين الناس , كل الناس : المؤمن والكافر, الأبيض والأسود , الحر والعبد , العربي والأعجمي ,الرجل والمرأة , الكبير والصغير .
وإذا أفسح الفرعون المجال للكهنة كي يشاركوا في أمور السياسة, فذلك يكون من باب تبادل المصالح , وسرعان ما يتحول رجل الدين المقدس إلى رجل بلا دين . (يُتبع)نبيل هلال هلال








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - للاسلام معنيان .عام وخاص
شاهر الشرقاوى ( 2011 / 12 / 12 - 21:13 )
كالعادة
مقال ولا اروع
لكن اسمح لى استاذ نبيل ان اختلف معك فى جزئية صغيرة
فالاسلام بمعناه الخاص وليس العام دين امة وجماعة تحكمها تشريعات وقوانين وشعائر وحقائق واحدة تختلف عن غيرها من الامم والجماعات الانسانية
هذا لا يعنى ان باقى الامم كلها على ضلال كامل فى كل شئ
لكن الاسلام هو الاقوم والاحسن والافضل ..فى كل شئ


قد يرى غيرنا غير هذا
وقد بتسائل البعض الاخر ..ولماذا انتم فى اسوء المقامات بين الامم الان طالما ان دينكم اقوم واحسن الاديان؟

طبعا الاجابة معروفة ومللنا ومل الاخرون من سماعها وتكرارها.وهى ان المسلمون ليسوا مسلمون كما يريدهم الله

الاسلام الحق كما يبينه الاستاذ نبيل فى مقالاته القيمة جدا والتى اتعجب كيف لا يعلق عليها احد على الاطلاق
ربما لانهم لا يجدوا ما يقولوه ابدا امام روعة التوضيح وفصل الخطاب ووضوح الحق فيها
سلمت وسلمت يمينك
وفى انتظار جديدك استاذنا الفاضل
والسلام عليكم


2 - شكر وتحية
نبيل هلال ( 2011 / 12 / 12 - 22:02 )
أشكرك أخي الكريم أستاذ شاهر الشرقاوي على تعليقك ,ولا تتعجب من ندرة التعليقات فربما يظن البعض أنه لا فائدة منها ,مع أنها ترشد خطوات الكاتب وتهدي خطاه ,يكفيني في هذا المقام أنكم علقتم وتعلقون على ما أكتب فشكرا لك ولكل من يفعل .


3 - فعلا مستنقع كبير والخارج منه مولود..
حكيم العارف ( 2011 / 12 / 13 - 00:35 )
والمستنقعات الدينيه هى اسواءالانواع لانها تستخدم سلاح بيلوجى شديد التأثير بين الشعوب المقموعه والتى لاتجد منفس لهاالا فى التدين الشكلى ..

وكل المفاهيم يتم ادلجتها لتناسب وجهة نظرهم ...

يعنى لامانع من تغيير اسم فؤائد البنوك من - ربا - الى -ارباح - بعد خصم المصروفات ... لتناسب المصطلحات غير الممنوعه اسلاميا ...

وهكذا ...

سيتم تغيير اسماء مثل -السرقه - الى انفال او لمم ...

وكلمة-الاغتصاب - ولو انها غير محرمة شرعا يتم تغييره الى -ملكات اليمين - او الادعاء بانها- وهبت نفسها - ...

لكى يتم التغاضى عن الافعال والحدود حتى لايتأذى المسلم ...

اخر الافلام

.. ندوة توعية للمزارعين ضمن مبادرة إزرع للهيئه القبطية الإنجيلي


.. د. حامد عبد الصمد: المؤسسات الدينية تخاف من الأسئلة والهرطقا




.. يهود متشددون يهاجمون سيارة وزير إسرائيلي خلال مظاهرة ضد التج


.. مختلف عليه - الإلحاد في الأديان




.. الكشف عن قنابل داعش في المسجد النوري بالموصل