الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أدونيس ناقدا ثقافيا

أحمد دلباني

2011 / 12 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


المنحى البروميثيوسي في الثقافة العربية:
1

تحدث، يوما ما، الفيلسوف والإبستيمولوجي الفرنسي غاستون باشلار G. Bachelard قائلا إن العلماء والمبدعين الكبار يكونون ثوريين ومفيدين في نصف حياتهم الأول ثم ينقلبون محافظين في النصف الثاني منها. وقد يصبح البعض منهم، إضافة إلى ذلك، معيقا لحركة تطور العلم والمعرفة. وقد كان باشلار يشير هنا، على ما أعتقد، إلى العالم الكبير آينشتاين ومجهوداته المهدورة في سني حياته الأخيرة من أجل إثبات نظرية تم تجاوزها. هل يمكن أن نقرأ تجربة أدونيس في ضوء هذه الملاحظة وقد ناهز الثمانين؟ هل يمكن أن نتبين ملامح المحافظة عند أدونيس الثوري؟ هل تم، فعلا، تجاوز الأدونيسية بوصفها سؤالا وقلقا معرفيا ومدونة إبداعية؟ هل ألقى أدونيس، أخيرا، عصا الترحال والمغامرة الكيانية ليلجأ إلى نوع من التشرنق والدفاع عن الذات في عالم شديد التغير؟

يجب أن نشير، أولا، إلى القيمة الكبرى لحضور الفكر النقدي العربي – ومنه الأدونيسية – على الساحة الثقافية العربية. إن هذا الفكر الطليعي حمل على عاتقه إعادة النظر في الموروث وتفكيك بنيات الهيمنة الرمزية في ظل ثقافة ما زالت تعاني من كساح كبير أمام إيقاع العصر وقضاياه ورهاناته. وحمل هذا الفكر، أيضا، مسؤولية إنتاج مشروع فكري يتيح دخول الحياة العربية فضاءات الحداثة الفعلية بوصفها عقلنة وأنسنة وانحسارا للتقليد وتأسيسا لمشروعية الإبداع خارج سلطة المعيارية الماضوية التي طال أمدها. إنه فكر أراد القذف بالحياة العربية في أتون تجربة المغامرة الحضارية بمعزل عن الخدر الذي مثلته ثقافة اليقين والتحجر المعرفي. إنه، في كلمة، فكر أراد فتح العقل العربي على السؤال. هذا الفكر، بالتالي، كان بيان أمتنا العربية وهي تتململ كجذوة حية داخل الرماد التاريخي الهائل. من لحظة تدخل العميد طه حسين إلى أدونيس نجد نفس النضال الفكري ونجد نفس المعركة تخاض ضد ثقافة التقليد وثقافة الماضي كما يعاد إنتاجه بوصفه سلطة لإلغاء العقل وإدانة الحرية والتشريع لهيمنة الأصولية الرمزية على الفضاء السوسيو- سياسي. هذا ما يمنح الفكر العربي النقدي – بكل أوجهه وممثليه – صفة الطليعية ويقظة الوعي التي تجعله يفيق على أسئلة الراهن الحضاري ويجابهها.

تنتمي الأدونيسية، تاريخيا، إلى النصف الثاني من القرن العشرين وهي تنخرط واثقة في فضاء المشكلات التي واجهها الوعي العربي في هذه الفترة. إنها أسئلة التحرر ومجابهة الأمبريالية والثورة على بنيات المجتمع التقليدي من أجل البناء القومي الحديث وتحقيق الاشتراكية؛ وهي أيضا أسئلة عتق الثقافة العربية من منحاها التقليدي المرتبط بنظام الفكر الديني وفتحها على الحداثة المرتبطة بالعقل والعلم ومغامرة الإبداع بعيدا عن معيارية الماضي. من هنا، نرى في الأدونيسية نتاجا طبيعيا لمرحلتها وفكرا متجذرا في مناخ الأسئلة التي طرحتها مشكلات النهوض والتحرر في عالمنا العربي المعاصر. ولكن وحدة المشكلات والتحديات لا تنتج، بالطبع، وحدة الإجابات والمواقف الفكرية. لقد ظل أدونيس، دائما، الأكثر جذرية والأكثر إصغاء إلى دبيب المرحلة من منظور تجاوزي يحسن قراءة موت الأشياء أو ميلادها في ثنايا التجربة التاريخية العاصفة التي عاشها العرب في النصف الثاني من القرن المنصرم. إنه ظل يتحسس المعنى الكامن وراء الظواهر بحدسه الشعري الذي هو حدس معرفي وضوء ينفذ في عمق اللحظة. فمنذ بداياته كان أدونيس يحاول اقتناص المعاني الرابضة وراء الأشياء وقراءة الدلالات التي يفصح عنها التاريخ دون الركون إلى الإدانة الجاهزة التي مارسها الأصوليون للقرن العشرين وانقلاباته الشاملة حين اعتبروا ذلك الأمر مجرد " جاهلية ". ومن جهة أخرى، لم يطمئن أدونيس إلى التحديث الشكلاني الذي عاشه العرب بوصفهم مستهلكين ولم يكن حداثة تجدد النظر والمجتمع وتثور على بنياته التقليدية في العمق. لقد أدرك، باكرا، أن الحداثة تمثل في عمقها معنى جديدا دشن عهد الإنسان المتخلص، شيئا فشيئا، من سطوة المرجعيات المتعالية وسلطة التقليد والأبوية بكل تجلياتها، وليست مجرد نزهة في أروقة العالم المعاصر واستهلاكا لمنجزه التقني. الحداثة رؤية لا آلة وعقل لا تقنية. ولكن المجتمع العربي، في عمومه، ما زال يعيش الحداثة على مستوى الاستهلاك لا الإسهام والإنجاز الحضاري كما لاحظ العديد من المفكرين العرب. العقل العربي ما زال خاضعا لمسبقات الوعي القروسطي وأسيرا للحساسية الدينية القديمة المرتبطة ببنية المجتمع البطريركي ومنظومة قيمه التقليدية ووعيه الأسطوري للأشياء والعالم.

لم ينس الكثيرون فاجعة الإفاقة على هزيمة حزيران 1967. وأنا أذكر هذا، هنا، لأشير إلى أن هذا الحدث رج في العمق الوعي العربي المتفائل نسيبا، آنذاك، بإمكان تحقيق النصر وتأمين خلاص الأمة العربية من الهيمنة الخارجية ومن سلطان الماضي البائد معا. لقد كشف هذا الحدث عن خواء المشاريع العربية في التقدم والتحرر، وكشف عن هشاشة العقل العربي الذي لم يتخلص بعد، آنذاك، من الحماسة الفروسية وظل – نظير دونكيشوت – يعيش الفانتازما على هامش العصر، كما كشف أيضا عن بنية الاستبداد السياسي التي لم يكن من الممكن معها أن ينبثق الفرد العربي بوصفه ذاتا حرة مبدعة تقرر مصيرها وتبني عالمها الجديد على أنقاض الماضي المتجاوز.

هذا هو مدلول الهزيمة الكبير الذي استخلصه أدونيس عام 1967 وهو يكتب بيانه الشهير " بيان حزيران " بنوع من المرارة البصيرة والغضب المنتفض ضد المرحلة وضد الموت العربي في عالم يحيا على إيقاع الإبداع والتجاوز وإرادة القوة وحس اللانهاية. لقد رأى أن لحظة المراجعة الكبيرة قد أذنت وحلت ساعتها: مراجعة الذات العربية التقليدية التي لم تعش الحداثة إلا استهلاكا، ومراجعة الخواء الحضاري العربي في أبعاده كلها. لقد كان الحدث مؤشرا على غياب الإنسان العربي واضمحلال تاريخ لم يعد لديه ما يقول أو يقدم؛ من هنا كان سؤال الحاضر، بالتالي، في قلب النقاش من أجل العمل على تدشين عهد جديد للإنسان العربي. لقد كان زمن النقد بامتياز: نقد الوعي ذي البنية التقليدية الذي لم يلج بعد العالم الحديث بوصفه روحا جديدة وموقفا جديدا لا مجرد منجز استهلاكي. " هل أستخدم السيارة حقا، أم أنني أستخدم فرسا من حديد؟ " يتساءل أدونيس ( فاتحة لنهايات القرن – دار العودة، بيروت. ط1- 1980. ص 11). هذا ما جعله يرى في الهزيمة العسكرية – السياسية هزيمة حضارة وهزيمة عقل يرفض المغامرة الإبداعية خارج ما تكرس في تاريخه السلطوي من قيم أمنت الخضوع والامتثال والقبول والتسليم، وعلمت مباركة الوضع لا الثورة عليه، ولم تستطع إنتاج إنسان المواجهة والمناعة الحضارية. العقل العربي السائد لا يعيش العصر على مستوى العمق بوصفه انقلابا غير دلالات الأشياء وأصبح معه العالم انبجاسا من الطاقة الخلاقة المغيرة، وإنما يعيشه على مستوى السطح الاستهلاكي. إن هناك مسافة ذهنية – إبستيمولوجية بينه وبين اللحظة التي يعيش. من هنا اغتراب العقل العربي عن واقعه وعن صيرورات العالم الكبرى كما لاحظ أدونيس.

انطلاقا من ذلك تحددت معالم المشروع النقدي / الثقافي الأدونيسي. إنه مشروع قام على محاولة ردم الهوة بين الذات الموروثة في شكلها الذي تنتجه المؤسسة السائدة، وشروط الحياة الجديدة التي تنهض على مركزية الذات المبدعة ومغامراتها في اقتحام مجاهيل العالم والسيطرة على الطبيعة وأنسنة القيم. هذا كان يتطلب نقدا جذريا للموروث كما تعيد إنتاجه السلطة الإيديولوجية، وتعرية أركيولوجية لنظام المعرفة والحقيقة الذي ظل يأسر المعنى في المرجعية ويكبح جماح الصبوة إلى الجديد والأجمل والأغنى. جسد أدونيس هذا الأمر في مقالاته النقدية الأولى وجذره أكثر، في ما بعد، في أطروحته الشهيرة " الثابت والمتحول ". كان هاجسه المركزي آنذاك يتمحور حول سؤال الخروج من زمن الاتباع إلى زمن الإبداع في الثقافة العربية، اعتمادا على قراءة تكشف عن أصول البنيات الذهنية والثقافية التي أبدت سلطة الماضوية والمرجعية – المعيارية في هذه الثقافة، رغم أشكال الممانعة الفكرية والإبداعية والسياسية البهية التي عرفتها عبر تاريخها الطويل.

ولكن هذا الأمر رغم أهميته العظيمة - بوصفه نقدا ثقافيا حاول اختراق البنيات العميقة التي جعلت زمن الثقافة العربية زمنا راكدا وآسنا وغير خلاق - لم يكن، برأينا، أهم ما قدم أدونيس من نقد طرحته أسئلة الراهن على المستويات الثقافية والإبداعية والحضارية. لقد كان ممارسة فكرية نقدية منخرطة في حمى السؤال العام عن معنى الأزمة وحمى البحث عن الخلاص التاريخي من شلل الذات التاريخية أمام هجمة الحداثة العاصفة. إن أهمية الأدونيسية تكمن إضافة إلى ذلك، على ما نرى، في استشرافها المبكر لآفاق النقد الحفري الأركيولوجي الذي يتجاوز المقول الفكري / المعرفي الجاهز في كل المنظومات الإيديولوجية المغلقة السائدة، آنذاك، بوصفها " أديانا علمانية " بتعبير ريمون آرون Aron. هذا الأمر نجده في تجاوز أدونيس لأنظمة الفكر المغلقة في الفكر العربي المعاصر أثناء الحقبة الإيديولوجية التي هيمنت فيها الرؤيتان الاشتراكية / الماركسية والقومية. لقد أدرك في معظم تأملاته النقدية ومراجعاته ومناقشاته أهمية الخروج من " السبات العقائدي " العربي كما سيعبر علي حرب بعد مدة طويلة. فرغم علمانية الفكر العربي المعاصر الذي حمل مشاريع الوحدة والتقدم إلا أنه بقي، في جوهره العميق، فكرا يقف مع الأصولية على الأرضية نفسها من حيث هو منظومات مذهبية مغلقة تتأسس على المسبق. إن " المنظومات المذهبية، في مختلف أنواعها، أصولية تحديدا " كما يعبر أدونيس ( موسيقى الحوت الأزرق – ص 385). هذا ما يجعل العمل النقدي حفرا في أسس نظام المعنى والحقيقة السائد في ثقافتنا والذي يبقيها أسيرة للجاهز وبعيدة عن اكتناه ليل العالم ومحاورة البرهة التاريخية بانفتاح. إن الفكر العربي الإيديولوجي لا يتورع - بحسب أدونيس – في تسمية العالم والأشياء " بتنزيل إيديولوجي " كما يعبر ( أنظر: مجلة الحرية – عدد 28- 04- 1985). من هنا نفهم اتفاق الفكر الإيديولوجي / العلماني مع الفكر الغيبي / الديني في قيامهما على المسبقات وفي استنادهما إلى نصية الحقيقة بعيدا عن جلبة التاريخ الفعلي. " هكذا ينطلق كلاهما من نص – مرجع، ومن إيمان به، قبلي ومسبق " يقول أدونيس ( الثابت والمتحول – ج3- ص 210). تكمن أزمة الفكر العربي، بالتالي، في بنيته المرجعية وفي قيامه على المسبق ونصية المعرفة. إنه تنزيل من علياء النظرية وليس انبثاقا من الواقع المتغير أبدا. من هنا كون هذا الفكر تشرنقا أمام صخب التاريخ وليل المعنى؛ ومن هنا، أيضا، وقوفه حائلا دون ارتياد آفاق البحث والإبداع خارج أسوار الممنوع والمسبق والجاهز. هذه هي مشكلة الفكر الإيديولوجي عموما.

هذه المواقف الأدونيسية التي عرضنا لها هنا ناهضت، باكرا، البنية الإيديولوجية للفكر العربي الطليعي ونبهت إلى كساحها المعرفي والسياسي، وإلى جرثومة الاستبداد التي تضمرها بوصفها أنظمة مغلقة تركن إلى الجواب الجاهز وإلى النصوص المرجعية ولا تفتح أفقا للتساؤل خارجها. من الحداثة / الرؤية الشمولية إلى الحداثة / التفكيك: هذا هو مسار أدونيس الفكري داخل المدونة الفكرية والإبداعية العربية المعاصرة. إنه مسار مفكر يدرك جيدا مهامه بوصفه شاعرا رؤيويا يقع عليه دائما دور مقاومة تحنيط المعنى في الجاهز واعتقال العالم والحياة في النظرية المتعالية. لقد ظل يقاوم الشمولية الفكرية والمذهبيات قبل تفتتها وانهيارها المدوي في نهاية القرن المنصرم. وما زال إلى اليوم يتصدى، نقديا، إلى الأصوليات والوحدانية في تجلياتها المختلفة بوصفها جذورا للنبذ والاستبعاد والتمركز حول الذات في عالم أفاق على سديم المعنى من جديد وأصبح منفتحا على الاختلاف والتعدد بعد هجر المرجعيات الشمولية التي بررت الهيمنة في الماضي القريب. هذا هو مكمن أهمية الأدونيسية برأينا وهذا، تحديدا، ما يمنحها أهميتها الاستثنائية في الساحة الثقافية العربية ونحن نشهد انهيار هذه الشموليات والعقائديات وتفكك أنظمة المعنى القائمة على المسبق. إن الأدونيسية – انطلاقا من ذلك – ما زالت تتمتع بحضورها وراهنيتها بوصفها سؤالا ونقدا لا يكل في خلخلة كل ما يحول دون اختراق الممنوع واكتناه المجهول. إنها حرب معلنة على الإيديولوجية باسم الإنسان والحياة وبكارة المعنى؛ وقد شكلت، بذلك، محاولة لاختراق السبات الإيديولوجي العربي.

هذا ما يجعلنا نعتقد أن أدونيس – رغم كونه يعتبر من أصحاب المشاريع الفكرية العربية – ينحاز أكثر إلى الفكر بوصفه فاعلية نقدية لا بوصفه مشروعا شاملا كما نرى عند الكثيرين. فبعد " الثابت والمتحول " بقي ينوع على أطروحته ويوسع مجالات تناوله النقدي انطلاقا من نواة مركزية تقوم على عدم الركون إلى المسبقات والقبليات وتقوم على المراجعة الدائمة لأسس الفكر. إن الفكر الأدونيسي موقف مبدئي أكثر منه نظرية. إنه فاعلية في نسف كل ما يشل العقل والروح والحساسية عن ارتياد عوالم البكارة. من هنا نفهم ميله الشديد أيضا – مثل سلفيه العظيمين نيتشه وجبران – إلى كتابة النبذ الفكرية القصيرة والشذرات النافذة على حساب الفكر النسقي المنظم. هذا هو الفكر الذي يرقص خفيفا مرحا على قبر مومياء الرؤى المستنفدة والكتابة المكرسة. إنه الفكر الذي يلبس عباءة الرائي حاملا قنديل الشعر للبحث عن آثار المعنى في متاهة العالم.

لقد وجدت الأدونيسية تحققها الإبداعي في الشعر مفهوما على أنه كشف وسفر في المجهول. الشعر هو البصيرة العليا وهو تلك الحدوس التي تمنح الفكر جناحا وتعلمه ارتياد الآفاق الوسيعة خارج أسوار المفاهيم والمقولات الجاهزة. الشعر، بالتالي، معرفة لا تعاني من آفة النسقية ومن نظام الحقيقة السائد. إنه فن تعليم اللغة كيفية الإفلات من مرجعية المعنى المكرس إلى المجاز الذي يكسر نظام الدلالة الأحادي ويتجاوز شيخوخة العالم إلى فضاءات البكارة، حيث المعرفة سفر وحيث الذات ابتكار وحيث الكلام بداية ومسارة مع المجهول في الذات والتاريخ والعالم. لقد واجه أدونيس شلل الفاعلية الفكرية العربية وانغلاقها داخل القبليات الإيديولوجية بالشعر، وهذا انطلاقا من اعتقاده الجازم بأهمية الشعر معرفيا بوصفه ضوءا يقود إلى الكشف عن العالم كيانيا وإلى احتضان أصوات الرغبات العميقة وأسئلة الكينونة. هذا ما جعله يعتبر الشعر، أيضا، نظاما معرفيا يمثل الشرود عن نظام القمع والطاعة، وصعلكة بهية تتربص بصنم العقل الاجتماعي لتجهز عليه في فعل طفولي مغتبط يستعيد حقوق البراءة الأصلية وفضيلة اللعب الخالق. الشعر / الفكر البصير طائر يشرب كل صباح من نهر النسيان قبل أن يسافر في غابة العالم: هذا هو فهم أدونيس لدور الشعر انطلاقا من رؤيته الخاصة لمهام الفكر بوصفه سؤالا وإعادة نظر لا بوصفه ظلا للمرجعية بكل أشكالها.




2

أحدد، شخصيا، الأدونيسية بوصفها رؤية ثقافية وإبداعية قامت على جذر أساس ونواة مركزية: هي محاولة الخروج من المسبق وعتق المعنى من الجاهز في ظل ثقافة قامت على اليقين والبنية المرجعية للفكر. من هنا تأصل الأدونيسية في مسار الإبداعية العربية الطويل وفي تاريخ إشكالاتها منذ لحظة ذلك الجدل الثقافي / السوسيو- سياسي بين " القديم " و " المحدث " في العهد العباسي. أراد أدونيس مناهضة بنية الثقافة السائدة بفتحها على مغامرة السؤال معرفيا ومغامرة التشكيل خارج النماذج إبداعيا. هذا مفهومه للحداثة بوصفها ترسيخا لعلاقة نقدية بالموروث تتجاوز أبوية الماضي وتحتضن أصوات الهامش موغلة في استراق السمع إلى الآتي. على العقل العربي الخروج من زمن الثبات إلى زمن التحول: هذا هو تعليم أدونيس الذي أراد تعرية بنية الثبات في الثقافة العربية السائدة والمهيمنة تاريخيا، مشيرا إلى عجزها عن احتضان العالم الحديث القائم على التغير والصيرورة والإبداع، ومشيرا إلى فقرها الإنساني كذلك من حيث هي ثقافة لم تتأسس فيها الذاتية بوصفها ينبوع المعرفة والفعل، ولم يحتل فيها الإنسان مركز دائرة القيم، بل بقي يدور فيها كجرم صغير على المركز الذي ظل يحتله المقدس المتعالي القديم. هذا ما جعل الأدونيسية رؤية ثقافية وإبداعية شاملة - كما رأينا - تجهر بضرورة التأسيس لثقافة تقتل الأب الثقافي / الرمزي وتنهي زمنه وزمن هيمنته، وتجعل المعنى في قلب هذه الثورة التي تمهد لنفخ الروح في مومياء الذات الحضارية المنتكسة منذ قرون. معرفيا: سيكون المعنى لاحقا لا سابقا؛ وإبداعيا: سيكون المعنى نتاجا للكتابة ولاختراقاتها لا معطى جاهزا يتم التنويع عليه. هذه هي نواة الأدونيسية وهذا جوهر دعوتها إلى تحرير الفاعلية العربية فكريا وإبداعيا على درب امتلاك أبجديات العالم الحديث ومحاورته والإسهام في مغامراته وفتوحاته الحضارية.

هذا ما يجعل الحديث عن الأدونيسية فتحا لأضابير تاريخ عربي إشكالي لم يعرف – رغم إنجازاته العديدة – رسوخا على أرض الحداثة الفعلية باعتبارها قطيعة مع بنيات التقليد والعوالم المنتهية، وباعتبارها انتصارا مشهديا لقيم الحرية والإبداع خارج سلطة المعيار والنموذج. إن ما تمكن ملاحظته هو أن الآلهة القديمة في الثقافة العربية لم تمت، وها هي تنتفض وتقوم من قبورها معلنة انتقام الماضي وعودة الحكمة البائسة بوصفها ملاذا في عالم أضاع بوصلة الاتجاه ولم يشهد النهاية السعيدة التي طالما بشرت بها الحداثة. لقد ارتفع صوت الفراديس الوهمية من جديد بعد اضمحلال يوتوبيا الفراديس الإيديولوجية الحداثية. ربما كان وراء ذلك كله فشل كبير في فهم الحداثة ذاتها التي سرعان ما غرقت – في نسختها العربية - في الشعارات فيما كانت تتشرنق أمام العالم وتتحول إلى نظام شمولي وبنية قمعية جديدة. هذا ما جعل أدونيس ينبه دائما إلى أن الحداثة الفعلية لا تفهم خارج مدارها الأساس: الإنسان. الحداثة، أساسا، أنسنة. وهذا يفترض أنها – بوصفها إنجازا حضاريا أسهمت فيه الرؤية العربية كذلك – تجد مرتكزاتها الصلبة في " الدنيوة " مقابل " الديننة " كما يعبر أدونيس، مع ما يتطلبه ذلك من تحرير الذات من أبوة المؤسسة السوسيو- سياسية التقليدية وتحرير العقل والنظر من المرجعيات المطلقة بقذفهما في المجهول الذي أصبح بعدا مؤسسا للحداثة كما رأينا.

هذه الرؤية الحضارية للحداثة كانت الأساس المكين في التنظير الأدونيسي للشعر الذي تتطلبه المرحلة. سيكون الشعر – في مبناه ومعناه معا – إعلانا مدويا لموت العالم / المومياء وميلاد العالم / الطائر المسافر في اللانهاية. سيكون ثورة في الرؤية وثورة في اللغة تجهز على منظومة القيم الفكرية والجمالية القديمة التي ارتبطت تاريخيا بمراحل استنفدت حضاريا. سيكون سفرا في مجهول الذات والعالم وضوءا يخترق الأزمنة ويقول التاريخ الإنساني المطموس تحت أثقال آلة الاغتراب الكبرى. هذا الشعر سيكتب نهاية الارتهان لثقافة العنف الرمزي لأنه سيكون التجسيد الأمثل لانفلات الرغبة وطاقة الخلق واللعب من قمقم بنيات القمع الثقافية. هذا الشعر سيكون لغة جديدة تربك نظام العلامات القديم وتخرج من علاقاته القسرية التي أبدت وحدانية الدلالة في الثقافة التي هيمن عليها اللوغوس الديني المتعالي.

من هنا نفهم، أيضا، اعتبار أدونيس الشعر حدسا معرفيا لا مجرد تعبير عن العالم. هذا ما جعله يعيد النظر في علاقة الشعر بالفكر وبقضايا الإنسان. لن يكون الشعر – في هذا المنظور – كلاما ثانيا ينوع على السائد المعرفي والإيديولوجي - نظير ما نجد في معظم الشعر العربي المعاصر- وإنما كلاما بادئا وحدسا أول بالعالم والأشياء؛ يوقظ الدلالات الكامنة وراء الأحداث ويسترق السمع إلى همهمات الحياة العميقة. أراد أدونيس في كل ذلك مناهضة تقليد ثقافي عربي – إسلامي قديم زحزح الشعر عن مركزه وجعله يدور في فلك العقيدة والمذهب ينوع عليهما ويقولهما؛ وأراد أيضا مناهضة امتدادات هذا الموقف في الثقافة العلمانية المعاصرة التي نادت بالالتزام في الأدب والشعر وضرورة التعبير عن القضايا الإنسانية والقومية الكبرى استنادا إلى مرجعية الإيديولوجية. رأى أدونيس في كل ذلك سلبا لهوية الشعر العميقة وترسيخا لسلطة المرجعية التي تسد المنافذ جميعها أمام مغامرة العقل والروح في اكتناه ليل العالم. هذا يعني – استنادا إلى ذلك الموقف - أن الكتابة الإبداعية ستكون شيئا نافلا وستكون وصفا لا كشفا. من هنا عارض أدونيس الشعر / الوصف بالشعر / الكشف. الإبداع رؤيا وكشف وهو حدس معرفي / جمالي يفتح آفاق الفكر والحساسية بلا حد، ويناهض العوالم المنتهية وثقافتها التي ظلت تؤبد سلطة الواحدية فكريا والنماذج الماضية إبداعيا.

الشعر، في هذا الضوء، فكر باعتباره بداية وإفاقة على فجر الأشياء وتسمية للعالم. وهو، أيضا، لغة مغايرة بوصفه مغامرة في خلخلة نظام الدلالة القائم على المرجعية المتعالية للعلامة. فالشعر، بالأساس، لغة تقول غبطتها ولعبها العالي الذي يبتكر العلاقات الجديدة بينها وبين الأشياء ويربك نظام الحساسية القائم على العادة والتكرار وأحادية المعنى الذي تكرسه الثقافة السائدة. من هنا نفهم أيضا كيف أن كل إبداع، والشعر بخاصة، هو في جوهره سياسي بالمعنى الحضاري العميق – كما يرى أدونيس – وهذا لأنه مناهضة لبنيات القمع ولاستبداد الحقل الدلالي المهيمن في الثقافة.

3

تقوم الأدونيسية – بوصفها انتفاضة بروميثيوسية - على الوعي الكامل بأن شجرة الحرية هي شجرة المعرفة. ولن تكون المعرفة المحررة إلا نقدا لكل ما يسحق الإنسان ويسلبه طاقاته ويدجنه داخل آلة الاغتراب الكبرى، أعني المؤسسة والتاريخ المنحرف عن مساره بوصفه مطهرا يقود إلى فراديس التحرر الشامل – أو كما ظل يعتقد الثوريون جميعا. ولكن ما هي المعرفة السائدة في العالم العربي اليوم؟ أين هو الفكر العربي القادر على مواجهة التحديات وطرح الأسئلة الأكثر جذرية على الذات والتاريخ؟ من المعروف أن أدونيس لا يرى في الفكر العربي السائد ما يمكن أن يشكل متنا من الأسئلة والاختراقات التي تطال بنية المسبق الكبير الجاثم على الوعي العربي منذ قرون. إنه يعتقد أن الفكر العربي لن يبلغ الأقاصي المنشودة في تحرير الذات العربية وخلخلة بنية الوعي المهيمن إلا إذا تم عتق المعنى من المسبق، وتمت مساءلة الأصول الأولى التي شكلت الثقافة العربية مساءلة حرة كاشفة بمعزل عن نظام الفكر الديني وامتداداته الإيديولوجية الحالية. على الفكر العربي أن يقترف مغامرة الذهاب بعيدا في النقد والتفكيك وفي محاورة الأصول والينابيع الأولى التي شكلت أساس الحضارة. عليه أن يجابه المحرم والممنوع والمكبوت وأن يفضح بنيات القمع المؤسس تاريخيا في علاقته بالمقدس من جهة أولى، وبالسياسي من جهة أخرى. انطلاقا من ذلك جهر أدونيس بأنه لا يرى " في المجتمع العربي، اليوم فكرا أصيلا متميزا وخلاقا، ويتعذر وجوده إذا لم يبدأ المفكر العربي بتفكيك المسبقات للخروج منها"( أدونيس – الثابت والمتحول، دار الساقي، بيروت. ج3- ط9- 2006- ص 215). إن التنطح للمسبق بوصفه بنية فكرية وذهنية قامت عليها الثقافة العربية يشكل، بالتالي، أولى المهام المطروحة على العقل العربي في محاولاته الخروج إلى زمن الإبداع واجتراح آفاق التحرر الشامل – عقليا وسياسيا وجسديا. لكن أدونيس يستدرك مشيرا إلى أن هناك هامشا إبداعيا عربيا نستطيع أن نعثر فيه على جذوة النقد الشامل، تاريخيا وحضاريا، هو المتن الإبداعي العربي المعاصر وبخاصة الشعري منه. ففي أساس بعض الإنجازات الإبداعية العربية الراهنة " إعادة اكتشاف الأصول- تساؤليا- حيث تحررت الكتابة الإبداعية من المعنى المسبق ومن المسبقات كلها"( نفسه – ص 224- 225).

هنا، نعود من جديد إلى الرؤية الأدونيسية التي ترى في الشعر كتابة اختراقية ومساءلة للذات والتاريخ والعالم في أفق تخييلي / جمالي. فالشاعر لا يرث العالم ناجزا كي يقوله، وإنما عليه أن يسافر إليه بوصفه استبصارا وفكرا لا تحده حدود المفاهيم المجردة والنظريات الجاهزة. والشعر الحقيقي، من هنا، لا يبارك الواقع وإنما يقاربه نقديا ويثور على مكوناته، كما يخلخل مضمرات الوعي والثقافة السائدة كاشفا عن المكبوت التاريخي الهائل. الشعر لغة جديدة متحررة من بنية القمع التي رسختها ثقافة السيد ولغته الآسنة؛ وهو شكل جديد يمثل – بانتفاضته ضد الشكل القديم واللغة القديمة - خروجا من أسر نظام ذهني ظل يعتقد بعصمة الماضي وكماله. هكذا تنظر الأدونيسية إلى الشعر بوصفه فكرا يطأ أرض الحرية البكر ويبشر بالقيامة: أي نهاية العوالم المستنفدة التي أصبحت صغيرة على الإنسان. هذا ما سميته شخصيا، يوما ما، بالإبداع الأبوكاليبتيكي.

الإبداع الشعري العربي الراهن في بعض ذراه – ومنه إنجاز أدونيس – أتيح له أن يجابه الذات الحضارية العربية - الإسلامية وأن يخلخل مكوناتها ويسائل تاريخها؛ كما أتيح له، أيضا، أن يسافر في دهاليزها مفصحا عن مكبوتها وعن بنيتها القمعية التي اعتقلت شرارة الإنسان داخل الرماد. من هنا كان هذا الشعر إعادة نظر في الذات الموروثة ومحاولة في تحرير المكبوت العقلي والجسدي والسياسي. إنه انتفاضة تجابه نظام تغييب الإنسان ونظام سحق الرغبة في ثقافة قامت على الاستبعاد والنبذ وعلى خنق الصبوة إلى تحقيق الإنسان الشامل. هذا الشعر، بالتالي، ثورة على نظام القيم الفكرية والجمالية التي جعلت الأرض أمة للسماء وجعلت الجسد شجرة محرمة في متاهة الحياة وجعلت التاريخ خيط عنكبوت ومعبرا هشا إلى الأبدية. نعثر في شعر أدونيس على تيمات جديدة حلت محل محددات منظومة القيم القديمة التي ارتبطت بنظام الفكر الديني. إنها تيمات الحداثة بامتياز: الجسد والأرض والتاريخ. حيث يحضر الجسد بوصفه حرية ورغبة ووشوشات، وبوصفه ضوءا يقود إلى المجهول وتوقا حارقا إلى عناق المطلق عبر فعل الحب، خلافا للثقافة التي عزلته عن المعرفة وامتهنته وزجت به في دركات العوالم السفلية. وتحضر الأرض والتاريخ لا بوصفهما ظلا للمطلق المتعالي أو انعكاسا للسماء الآفلة تاريخيا، وإنما باعتبارهما مسرح التغير والصيرورة وباعتبارهما بيت المعنى ومجال انعتاق الإنسان الشامل. الأرض والتاريخ مفهومان ثقافيان كانا في أساس الحداثة وهي تعلن موت مومياء السماء وميلاد الزمنية التي هي انخراط في مسيرة العمل من أجل التقدم والحرية، وسهر يرقب انبلاج ضوء المعنى من حجر الطريق في ليل الأزمنة.

هذه المحددات الكبرى للرؤية الأدونيسية تشكل نواة حداثتها وبعدها الإنساني والحضاري بوصفها مساءلة وخلخلة للموروث وفضحا لبنية القمع الراسخة في المؤسسة التاريخية. الشعر، هنا، ليس صلاة وليس قربانا يقدم لآلهة الواقع القمعي، وهو ليس مصالحة مع نظام القهر، بل هو عتق لشرارة الإنسان المطموسة من جهة أولى، وتحرير للمعنى من نظام الحقيقة القائم على حجب الزمنية والصيرورة من جهة ثانية.

4

" الوجه الأكثر عمقا للصراع داخل الثقافة العربية تمثل في الصراع بين الدين والشعر، أو على نحو أكثر دقة، بين البنية المعرفية الدينية والبنية المعرفية الشعرية " يقول أدونيس. ( محاضرات الإسكندرية – التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق. ط1- 2008- ص 75). هذه هي القراءة التي مثلت جوهر ما قاله أدونيس طيلة عقود من الزمن، وهو يحاول أن يحرر الفاعلية الإبداعية العربية من أسر نظام المعنى الديني القائم على المسبق. لم يعد الشعر، بمعنى ما، موزاييك ثقافية وإنما النتاج الأكثر أهمية في الثقافة بوصفه إبداعا يقوم على رؤية فكرية تخترق أسوار الممنوع والجاهز المكرس من جهة، وبوصفه لغة بكرا متحررة من ذاكرة القمع ومن نظام الدلالة الذي ظل يؤبد أحادية المعنى بين الأسماء والأشياء من جهة أخرى. الشعر عتق للمعنى من معنى القوة وعتق للعالم من سلطة القراءات التي هي، في الدلالة الأخيرة، قراءة السلطة. هذا هو المفهوم الحضاري للشعر الذي قدمه أدونيس في جل مؤلفاته الفكرية / النقدية، وأراد أن يفهم من خلاله ذلك الجدل الذي طبع مسار الثقافة العربية بين منحى الثبات ومنحى التحول.

إن الشعر، بالتالي، حدس معرفي أو هو – بتعبير أدونيس – " بنية معرفية" دخلت في صراع مع البنيات والأنظمة المعرفية الأخرى في ظل الصراع الدائم على احتكار الحقيقة والهيمنة على الفضاء السوسيو- سياسي. إنه بنية معرفية تتأسس على الذاتية وعلى مغامرة اكتناه المعنى خارج المسبق وعلى المجاز اللغوي الذي يعكس خصيصة المراسلات مع عالم لا ينتهي ولا يتحدد. هذا كله يفسر ذلك الصراع مع البنية المعرفية الدينية الذي ألغت الذاتية وفرضت متعالياتها بوصفها مسبقات ضرورية لكل عمل أو فكر وشككت في المجاز وقيمته لأنها ادعت احتكار الحقيقة النهائية للعالم والأشياء. علمت الحقيقة الدينية اليقين المطلق خلافا للشعر الذي علمنا الإقامة في الرمادي. رسمت الحقيقة الدينية حدود العالم وتخومه وحددت غاياته النهائية خلافا للشعر الذي ظل يوسع حدود العالم وآفاق النظر وسؤال المعنى. اعتقل النظام المعرفي الديني اللغة داخل بنية دلالية تبسط سلطة التعالي النصي والثبات الذي تستند إليه السلطة الإيديولوجية المهيمنة، بينما ظل هم الشعر الأول أن يجعل اللغة مجنحة وأن يجعلها تعلن تمردها البهي على سلطان الذاكرة والمعاني المشتركة لتقول حبها وجنونها وتعيد خلق العالم على مقاس أعمق الصبوات الإنسانية.

كأن الشعر، هنا، بداية مطلقة. أو كأنه ما يذكرنا، دوما، بفضيلة اقتراف البدايات كي لا تختنق الروح في ماء الثقافة الآسن. الشعر فاعلية في ابتكار الطفولة بوصفها لعبا، وهو حركية دائمة في الخروج من مؤسسة المعنى المستنفد إلى فضاء الدهشة ومغامرة السؤال. إن الشعر الحقيقي، بهذا المعنى، لا يمكنه أن يتفتح في ظل ثقافة تمجد النهايات وترفع النصب لآلهة الحكمة التي هي، في التحليل الأخير، لا تمثل إلا شيخوخة الذات وشيخوخة العالم. الثقافة - بوصفها مؤسسة ومنظومة قيم – هي ذاكرة مشتركة ونزوع إلى المحافظة على نظام الأشياء عكس الشعر الذي هو نضال دائم ضد المشترك والعام وضد الرؤى التي تدعي اعتقال العالم في الجاهز المعرفي. من هنا اعتبار أدونيس الشعر ثورة: أي إعادة نظر تنيط بها الروح المبدعة حراسة بكارة العالم من التعفن والسقوط في الابتذال. إنه ثورة على كل ما يجعل العالم منتهيا وعلى كل ما يسلب الإنسان طاقة الإفصاح عن كينونته الشاملة. أينما كان الشعر يجد السر له موطنا ويصبح العالم غابة ومحيطا بلا تخوم. أينما كان الشعر تولد لانهائية المعنى وتستيقظ حمحمات الرغبة ونداءات الحياة العميقة على أنقاض الإيديولوجية كأعشاب برية.

في كل ذلك، نلاحظ كيف أن الأدونيسية مثلت موقفا نقديا جذريا في قضايا التراث والإبداع انطلاقا من مفهوم للحداثة يجعلها إفاقة على جوهر العصور الحديثة التي امتلأت بقبور الآلهة. فالحداثة هي زمن الإنسان المنخرط في مغامرة السؤال المعرفي والإبداعي بمعزل عن المسبقات والأطر المرجعية الراسخة في ثقافة اليقين. هذا ما يجعل منها بداية لا تنتهي في اقتراف الدخول في المجهول: مجهول الذات والعالم على ما يرى أدونيس. إذ أن الإبداع تحديدا " دخول في المجهول لا في المعلوم " ( الثابت والمتحول – دار الساقي، بيروت. ج4- ط 9- 2006. ص 263)، ما يعني أن التأسيس للتحول في الثقافة العربية يبدأ برفض الأسس التي قام عليها المنحى العام الذي ساد وهيمن، أي يبدأ برفض الرؤية التي قامت على اعتبار العالم معلوما واعتبار المعرفة تأويلا وشرحا للنص/ المرجع لا مغامرة في الكشف عن المجهول أو إعادة النظر في أسس المعرفة السائدة ومبادئها. هذا ما يجعل من الإبداع ثورة دائمة ضد مؤسسة الثقافة ومعاييرها وقيمها. إنه الانفصال عن معنى السلطة من أجل فرض سلطة المعنى الذي يقول العالم في صيرورته وتحوله. إنه البدعة في ظل ثقافة قامت على تكريس السنن وإدانة الخروج عنها.

لكن هذا الأمر يفترض، مبدئيا، الخروج من النظام المعرفي السائد ومن مسبقاته التي كرست الرؤية الوحدانية للعالم وسلطة الأصل المتعالي ومرجعية الماضي - إلى فضاءات النظام المعرفي القائم على بكارة المعنى وغياب المرجعيات المتعالية. هذا برأينا، تقريبا، هو جذر الأدونيسية الأساس كما بيناه في دراسة سابقة ( أنظر: أحمد دلباني – مقام التحول – التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق - 2009). إن الأدونيسية، بهذا المعنى، تجد مرتكزها المكين في القول ببكارة العالم معرفيا وبكارة اللغة إبداعيا خارج نظام المرجعية. إنها ثورة أرادت أن تحدث انقلابها في مسألة المعنى بحيث تحرره من الجاهز المكرس وتقذف به في متاهة الآتي وقد أصبح انبجاسا من ينابيع التجربة التاريخية للإنسان. هذا ما جعل أدونيس يجهر، من جهة أولى، بأن " المعنى هو أمام الإنسان " وليس سابقا على تجربته التاريخية والمعرفية كما كانت تعلم الثقافات القائمة على اللوغوس الديني والميتافيزيقي ( موسيقى الحوت الأزرق – دار الآداب، بيروت. 2002- ص 387). وهذا ما جعله، من جهة أخرى أيضا، يجهر بأن " المعنى هو نتاج الكتابة " لا معطى جاهزا وقبليا يتم التنويع عليه في الكتابة الإبداعية ( الثابت والمتحول – ج4- ص 265).



أحمد دلباني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - و هــل أدونيس أصبح واحد منهم ؟
بن جبار محمد ( 2011 / 12 / 17 - 08:53 )
طرحت في بداية تساؤلاتك عن إمكانية -تحفظ- المبدعين و العلمــاء بعد بلوغهــم سن معينة بل و نكوصهم و تراجعهم عن بعض الأفكــار و النظريات التي ناظلوا لأجــلهــا !
السؤال هــل أدونيس واحد من هؤلاء ؟ و خــاصة و قد أصبح له دور سلبي تجاه الأحداث في سورية .

اخر الافلام

.. الناخبون العرب واليهود.. هل يغيرون نتيجة الانتخابات الآميركي


.. الرياض تستضيف اجتماعا لدعم حل الدولتين وتعلن عن قمة عربية إس




.. إقامة حفل تخريج لجنود الاحتلال عند حائط البراق بمحيط المسجد


.. 119-Al-Aanaam




.. تغطية خاصة | المقاومة الإسلامية في لبنان تكبح قدرات الاحتلال