الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عيده المئوى .. نجيب محفوظ والمسيحيون

رفعت السعيد

2011 / 12 / 17
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



فى بادئ الأمر كان نجيب محفوظ يتجاهلنى، نلتقى دوماً فى طرقات الدور السادس بـ«الأهرام» أنا فى مجلة الطليعة، وهو فى غرف عظماء الأهرام حيث توفيق الحكيم والفنان الرائع صلاح طاهر وهو. وفجأة التقينا فى الأسانسير فإذا به يبتسم قائلاً: «إيه يا واد الحلاوة دى؟» ودهشت لكنه أكمل قائلاً: «كتابك عن النحاس أكثر من رائع».

وكنت قد تجاسرت- وربما دون حصافة- فاستجبت لطلب فؤاد مطر (دار القضايا) فكتبت كتابين دفعة واحدة، عن سعد زغلول والآخر عن مصطفى النحاس. ولم أهنأ بهما فقد اعتبر النظام الناصرى أن ذلك تحد لرؤية عبدالناصر عن الزعيمين، وتحد للميثاق. وصدرت تعليمات بسحب الكتابين من الأسواق، ولأنهما طُبعا فى «الأهرام» ووزعتهما «الأهرام» فقد تمت لملمة نسخ الكتابين من الأسواق وجرى فرمها بمعرفة «الأهرام».

لكن الزميل العزيز الراحل إبراهيم خلاف، وكان نائباً لمدير التوزيع بـ«الأهرام»، نجح فى إنقاذ مائة نسخة من كل منهما وتلقفتهما ممتناً. لكن الأهم عندى أن نجيب محفوظ قرأ الكتاب وأعجبه، وأصبحنا قريبين، أتلقى تحياته وابتساماته، وعندما نستمتع بجلسات مع توفيق بك الحكيم تجرى مناوشات يحسمها توفيق بك «مش انتو يسار زى بعض؟» وأدهش ويصمت «نجيب بك» متمتماً ذات مرة «يسار- يسار بس أعيش».

وذات مرة عندما تكاثرت حوادث الاعتداء على الكنائس والمصلين فيها، ثم يغلق الملف بزعم أن المعتدى مجنون، كتبت مقالاً فى «الأهالى» متسائلاً: أليس المجانين منهم مسلمون ومنهم مسيحيون، فماذا لو اعتدى مجنون مسيحى على مسجد وأعمل سكينه فى المصلين؟ وهاصت الدنيا وانقلبت على رأسى وتلقيت هجمات شديدة العنف. ضحك يومها نجيب بك وقال: «حظك وحش لأنك لا تكتب الرواية، ففى رواياتى أكثر من ذلك بكثير لكن لا أحد يتحرك، ربما لأنهم لا يفهمون، وربما لأن الغضب ينصب على شخص المتحدث فى الرواية ناسين أننى الذى كتبت».

وكان نجيب بك وفدياً متعصباً، وكتب ذات مرة فى رواية «قشتمر» «صاح إسماعيل قدرى: فى مصر أربعة أديان ثلاثة سماوية هى الإسلام والمسيحية واليهودية وواحد أرضى هو الوفد». لكن نجيب محفوظ ما لبث أن سخط على تحالف الوفد مع الإخوان، وصاح فى وجهى: «إيه علاقة ده بتراث النحاس؟»، ثم قال: «روح لسراج الدين وقول له عيب»، فقلت: «قول له أنت»، فرد ساخطاً: «مش حأكلمه لحد ما أموت». وفعلها.

وذات يوم قال لى: «تعرف يا واد أننى مدين للمسيحيين بدين لا أنساه، عندما تخرجت كنت الثانى على الدفعة، وكانت هناك بعثتان دراسيتان للخارج، الأول كان مسيحياً وأخطأ المسؤولون وظنوا أننى مسيحى فقالوا كفاية واحد مسيحى فتخطونى وأخذوا الثالث. ولو سافرت فى البعثة ربما كنت قد سرت فى طريق آخر غير طريق الكتابة.

وفى كتاب أكثر من رائع أعده الباحث الدؤوب الأستاذ مصطفى بيومى بعنوان «وصف مصر فى أدب نجيب محفوظ- المسيحية والمسيحيون» نقرأ كل الإشارات الذكية التى تتخذ من حوارات الأبطال دلالات وإرشادات تمنح الجميع ربما دون أن ينتبهوا وعياً بالمساواة واحترام الأديان الأخرى.

ونقرأ فى «السكرية» على لسان رياض قلدس: «مشكلة الأقباط اليوم هى مشكلة الشعب، إذا اضطهد اضطهدنا وإذا تحرر تحررنا».

والمسلمون عند نجيب محفوظ قد يتعصبون ويتفجرون عداءً للآخر دون أن يتفهموا ديانته أو حتى ديانتهم. فأمينة فى «السكرية» تعلق على اعتقال حفيدها إبراهيم شوكت بتهمة الشيوعية فتقول: «الشيوعيون أتباع سيدنا على». وهو يقول لك دون أن تدرى أن «أمينة» المؤمنة بالإسلام والتى لا تحب المسيحيين، لا تعرف حقيقة دينها ولا الفارق بين الشيعة والشيوعيين.

وفى مجموعة «خمارة القط الأسود» يدور حوار مرهق بين طفلة مسلمة وأبيها. البنت لها صديقة مسيحية لا تفترق عنها إلا فى حصة الدين، وتسأل: «مين أحسن البنت المسلمة أم المسيحية، فيقول الأب المستنير دى حسنة ودى حسنة، فالمسلمة تعبد الله والمسيحية، تعبد الله»، وتلحّ البنت متسائلة: لماذا لا تذهب وتصلى مع صديقتها؟ ويدرك الأب أن تعددية الأديان تحول دون الذوبان الكامل. ولكن الأهم فى هذه القصة القصيرة أن نجيب سماها «جنة الأطفال»، وأن الأم إذا أدركت حيرة الأب قالت: «ستكبر البنت وتستطيع أن تدلى لها بما عندك من حقائق»، ويلتفت الأب ليرى هل الأم صادقة أم ساخرة فيجدها وقد انهمكت فى التطريز.

وفى رواية «أمام العرش» حيث مجموعة حوارات مع رجال مصر من مينا حتى السادات، يقول المقوقس: «رغم أصلى اليونانى فقد اعتنقت المذهب اليعقوبى المصرى فرضى الأقباط عنى واعتبرونى واحداً منهم، وقد رأيت الاتفاق مع العرب تخلصاً من الرومان وحصلت على شروط حسنة». فسأله أبنوم: «وكيف أمنت للاتفاق مع الغزاة؟» فيجيب: «غزاة شرفاء، قسم قائدهم القطر إلى أعمال، ووضع على رأس كل منها حاكماً قبطياً فشعر الأهالى براحة.

وكانوا يدعون إلى دينهم دون إكراه ومن يشأ الثبات على دينه يدفع الجزية، وكانت الجزية أقل كثيراً مما كان ينهبه الرومان». ثم «وبعد غياب عمرو بن العاص تراجعت الأمور» ونقرأ شهادات أخرى «لقد كان حيان بن شريح يطلب الجزية حتى ممن أشهروا إسلامهم»، ومع وجود استثناءات عادلة كانت القاعدة السائدة هى الظلم. ويقول حليم الأسوانى: «المسلمون عانوا مثلنا وبلغ بهم السخط غايته واتهموا الولاة بالخروج على الشريعة، واتحدت مشاعرنا رغم اختلاف الدين، لكن القوة الحاكمة كانت أقوى من الجميع».

وفى رواية «قصر الشوق» يقول أحمد عبدالجواد ساخطاً على داروين: «إذا كان أصل الإنسان قردا فأين آدم، أنا شخصياً أعرف أقباطاً ويهوداً فى الصاغة وكلهم يؤمنون بآدم؟، كل الأديان تؤمن بآدم». لكن نجيب محفوظ لا يتناسى الدور السلبى لجماعة الإخوان، ففى قصة «السيد س» مجموعة «التنظيم السرى» يتمرد أحد أبناء الأسرة ويطلق لحيته «قاذفاً الجميع بتهمة الكفر».

وفى رواية «المرايا» نجد الإخوانى عبدالوهاب إسماعيل وهو صحفى وناقد ويرتدى الملابس العصرية يتحدث مع صديق وهما جالسان فى «الفيشاوى» عن كاتب قبطى شاب أهداه كتاباً قائلاً: «إنه ذكى ومطلع وحساس وذو أصالة فى الأسلوب والتفكير» ويسأله الصديق: «ومتى ستكتب عنه؟ فيرد بدهاء: سيطول انتظارك»، ثم يقول: «لن أشترك فى بناء قلم سيعمل غداً على تجريح تراثنا الإسلامى بكل السبل الملتوية».

ولعل هذه الرؤية هى ما دفعت السلفيين إلى الهجوم الغاشم على محفوظ وأدبه وتلاميذه.

ويبقى بعد هذه العجالة أن نحنى رأسنا احتراماً لنجيب محفوظ، وأن نوجه الشكر للباحث المدقق والدؤوب مصطفى بيومى.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال اكثر من رائع
zoma ( 2011 / 12 / 17 - 14:58 )
شكرا دكتور رفعت


2 - د. رفعت السعيد هو مثقف مصرى أعتز به
أمجد المصرى ( 2011 / 12 / 17 - 20:00 )
هذه اللقطات السريعة الواعية من أدب أستاذنا الراحل نجيب محفوظ و التى استقطعت لتخدم أهداف المقال,تلقى ضوءاً على إستيعاب د.رفعت السعيد العميق لأدب محفوظ ,العجيب فى هذا الأمر أن معظم أقطاب النقد الأدبى من معاصرى نجيب محفوظ الذين تعرضوا بالنقد لأعماله قد فشلوا فشلاً ذريعاً فى فهم مستبصر لأعمال محفوظ العميقة.ما آخذه على المقال هو جملة واحدة قال فيها د.السعيد أن محفوظاً كان وفدياً [[[متعصباً]]],و أرى أن الأصح هو القول بأنه كان وفديا [[[متحمساً]]],فالتعصب جهل,و لا يجرؤ كائناً من كان أن يرمى عمنا محفوظ بالجهل-شكراً للمقال القيم...أما أقباط مصر,فلهم الله


3 - عمكم نجيب والتراث الدعارىواللادينى هايل
سلامة شومان ( 2011 / 12 / 18 - 13:19 )
المشكلة انه ليس جاهلا وهذه هى الطامة الكبرى
اما مصريين مصر مسلمين ونصارى
المسلمون لهم الله والنصارى لهم يسوع

يا واد كلامك حلو عن البشر سى زغلول وسى نجيب لكن عن الاله لاعمق له ولا العمق لم يصل اليكم

اخر الافلام

.. هل الأديان والأساطير موجودة في داخلنا قبل ظهورها في الواقع ؟


.. الأب الروحي لـAI جيفري هنتون يحذر: الذكاء الاصطناعي سيتغلب ع




.. استهداف المقاومة الإسلامية بمسيّرة موقع بياض بليدا التابع لل


.. 52-An-Nisa




.. 53-An-Nisa