الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


معاناة الأنبياء

امال رياض

2011 / 12 / 20
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نذكر بعضًا من قصص الأنبياء على سبيل الإجمال، حتّى يكون معلومًا ومثبوتًا أنّه قد ورد على مظاهر القدرة ومطالع العزّة في جميع الأعصار والقرون، ما يضطرب له القلم ويخجل من ذكره. لعلَّ تصير هذه الأذكار سببًا لعدم اضطراب بعض النّاس من إعراض العلماء واعتراض جُهّال العصر، بل ربّما يزيدهم هذا إيقانًا واطمئنانًا .

فمن جملة الأنبياء نوح عليه السّلام الّذي ناح تسعمائة
وخمسين سنة، ودعا العباد إلى وادي الرّوح الأيمن، وما استجاب له أحد، وفي كلّ يومٍ كان يرد منهم على هذا الوجود المبارك من الأذيّة والإيذاء ما كانوا به يوقنون أنّه قد هلك. وكثيرًا ما ورد على حضرته من أنواع السّخرية والاستهزاء والتّعريض. كما قال تعالى: ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) وبعد حين من الزّمن وعد أصحابه وعدًا معيّنًا عدّة مرّات بإنزال النّصر عليهم، وفي كلّ مرّةٍ منها كان يحصل البداء، فأعرض بسبب ظهور البداء بعضٌ من أصحابه المعدودين، كما هو مثبوت تفصيله في أكثر الكتب المشهورة مِمّا لا بدّ أنّكم قد اطّلعتم عليه أو ستطّلعون. حتّى أنّه لم يبق مع حضرته إلا أربعون نفسًا أو اثنان وسبعون، كما هو مذكور في الكتب والأخبار، إلى أن صرخ أخيرًا من أعماق قلبه بدعائه ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا .

والآن يجب التّأمّل قليلاً. ماذا كان سبب اعتراض

العباد واحترازهم إلى هذه الدّرجة في ذلك الزّمان، ولِمَ لم يخلعوا قميص النّفي، ويتحلّوا برداء الإثبات ويفوزوا به. وكذلك لماذا حصل البداء في الوعود الإلهيّة ممّا كان سببًا في إدبار بعض المقبلين. لذا يجب التأمّل كثيرًا، حتّى تقف على أسرار الأمور الغيبيّة، وتستنشق رائحة الطّيب المعنويّ من الفردوس الحقيقيّ، وتوقن بأنّ الامتحانات الإلهيّة لم تزل كانت بين العباد، ولا تزال تكون بينهم، حتّى يتبيّن ويتميّز النّور من الظّلمة، والصّدق من الكذب، والحقّ من الباطل، والهداية من الضّلالة، والسّعادة من الشّقاوة، والشّوك من الورد، كما قال تعالى: ﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾

ومن بعد نوح، أشرق جمال هود من مشرق الإبداع، ودعا النّاس إلى رضوان القرب من ذي الجلال نحوًا من سبعمائة سنة أو يزيد، على حسب اختلاف الأقوال. فكم من البلايا نزلت على حضرته كالغيث الهاطل، حتّى صارت كثرة الدّعوة سببًا لكثرة الإعراض، وشِدّة الاهتمام علّةً لشدّة الإغماض ﴿وَلا يَزِيدُ الكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَارًا﴾

ومن بعده طلع هيكل صالح من رضوان الغيب المعنويّ، ودعا العباد إلى شريعة القرب الباقية، وفي مائة سنة أو أزيد، أمرهم بالأوامر الإلهيّة ونهاهم عن المناهي الربّانيّة، فلم يأت ذلك بثمر، ولم يظهر منه أثر، فاختار الغيبة والعزلة عنهم مرّات عديدة، مع إنّ هذا الجمال الأزليّ، ما دعا النّاس إلاّ إلى مدينة الأحديّة، كما قال تعالى: ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ﴾. إلى قوله ﴿قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَـذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ وما أتى ذلك بفائدة ما، إلى أن أخذتهم الصّيحة جميعًا، وكان مرجعهم إلى النّار«

ومن بعده كشف الخليل النِّقاب عن جماله، ورفع علم الهدى، ودعا أهل الأرض إلى نور التُّقى، وكلَّما بالغ في النّصيحة لهم، لم يثمر ذلك غير الحسد، ولم ينتج غير الغفلة، إلاّ الّذين هم انقطعوا بكلّهم إلى الله، وعرجوا بجناحيّ الإيقان إلى مقام جعله الله عن الإدراك مرفوعًا« وقصّة حضرته مشهورة، فكم من الأعداء أحاطوا به إلى أن اشتعلت نار الحسد والإعراض. ومن بعد حكاية النّار أخرجوا ذلك السّراج الإلهيّ من بلده، كما هو مذكور في الكتب والرّسائل«

ولمّا انقضى زمانه أتت دورة موسى، فظهر حضرته من سيناء النّور إلى عرصة الظّهور بعصا الأمر وبيضاء المعرفة. وأتى من فاران المحبّة الإلهيّة، ومعه ثعبان القدرة والشّوكة الصّمدانيّة. ودعا جميع من في الملك الى ملكوت البقاء، وأثمار شجرة الوفاء. ولقد سمعت ما ورد عليه من فرعون وملأه من الاعتراضات، وكم أُلقي على تلك الشّجرة الطّيّبة من أحجار الظّنونات من الأنفس المشركة، وبلغ الاعتداء عليه إلى حدّ أن همّ فرعون وملأه بإخماد نار تلك السّدرة الرّبّانيّة وإطفائها بماء الإعراض والتّكذيب. وغفلوا عن أنّ نار الحكمة الإلهيّة لا يخمدها الماء العنصريّ، وسراج القدرة الرّبّانيّة لا تطفئه الأرياح المخالفة. بلّ إنّ الماء فى هذا المقام يصير سببًا للاشتعال، والرّيح علّةً للحفظ لو أنتم بالبصر الحديد تنظرون، وفي رضا الله تسلكون«

وما أحلى البيان الّذي فاه به مؤمن آل فرعون، كما أخبر ربّ العزّة حبيبه بحكايته قائلاً ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾

وأخيرًا وصل الأمر الى حدّ أن قتلوا هذا المؤمن، واستشهد بنهاية العذاب (ألا لعنةُ الله على القوم الظّالمين) فانظروا الآن وتأمّلوا قليلاً في هذه الأمور وماذا كان سبب أمثال هذه الاختلافات، إذْ كلّما ظهر ظهور حقّ في الإمكان من أفق اللاّمكان كان يظهر ويبدو في أطراف العالم أمثال هذا النّوع من الفساد والفتنة والظّلم والانقلاب، مع أنّ جميع الأنبياء كانوا يبشّرون النّاس في حين ظهورهم بالنّبيّ التّالي، ويذكرون لهم علامات الظّهور الآتي، كما هو مسطور في كلّ الكتب. ومع طلب النّاس وانتظارهم لظهور المظاهر القدسيَّة، وذكر العلامات في الكتب، لماذا تحدث هذه الأمور في العالم، ويرد على جميع الأنبياء والأصفياء في كلّ عهد وعصر أمثال هذا الظّلم والعسف و التعدِّي؟ كما قال تعالى: ﴿أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ﴾ أي أنّه كلّما جاءكم رسول من قبل الله بما لا تهوى أنفسكم في أيّ عهد وزمان استكبرتم، وما أيقنتم، ففريقًا من هؤلاء الأنبياء كذّبتم وفريقًا كنتم تقتلون«

تأمَّلوا حينئذٍ ماذا كان سبب هذه الأفعال، ولم كانوا يسلكون بهذه الكيفيّة مع طلعات جمال ذي الجلال؟ إذ كلّ ما كان سبب إعراض العباد وإغماضهم في تلك الأزمنة، قد أصبح اليوم أيضًا بعينه سبب غفلة هؤلاء العباد. فإذا قلنا أنّ الحجج الإلهيّة لم تكن كاملة ولا تامّة، ولذا كانت سببًا لاعتراض العباد، فإنّ هذا يكون كفرًا صراحًا. لأنّه بعيد جدًّا عن فيض الفيّاض، وبعيد عن واسع رحمته، أن يجتبي نفسًا من بين جميع العباد لهداية خلقه، ولا يؤتيها الحجّة الكافية الوافية، ومع ذلك يعذّب الخلق لعدم إقبالهم إليها. بل لم يزل جود سلطان الوجود محيطًا على كلّ الممكنات بظهور مظاهر نفسه، وما أتى على الإنسان حين من الدّهر انقطع فيه فيضه، أو منع نزول أمطار الرّحمة من غمام عنايته. إذًا فليست هذه الأمور المحدثة إلاّ من الأنفس ذات الإدراكات المحدودة، الّذين يهيمون في وادي الكبر والغرور، ويسيرون في بيداء البعد، ويتأسّون بظنوناتهم، وبما استمعوه من علمائهم. لهذا لم يكن عندهم أمور غير الإعراض، ولا بغية الاّ الإغماض، ومن المعلوم لدى كلّ ذي بصر، أنّه لو كان هؤلاء العباد في حين ظهور أيّ مظهر من مظاهر شمس الحقيقة، يقدّسون ويطّهرون السّمع والبصر والفؤاد من كلِّ ما سمعوه وأبصروه وأدركوه، لما حرموا البتَّة من الجمال الإلهيّ، ولا منعوا عن حرم القرب والوصال للمطالع القدسيّة« ولمّا كانوا يزنون الحجّة في كلّ زمان بمعرفتهم الّتي تلقّوها عن علمائهم، وكانوا يجدونها غير متّفقة مع عقولهم الضّعيفة، لذا كان يظهر منهم في عالم الظّهور أمثال هذه الأمور غير المرضيّة ,,,,,,

((((((( من كتاب الأيقان ))))))))








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي