الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثورة وثقافة الديمقراطية في الفقه السياسي الإسلامي: جدلية التعاطي والممانعة (1)

مجدي عزالدين حسن

2011 / 12 / 25
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


هذا الموضوع عبارة عن ورقتي بحث، شاركت بالأولى في مؤتمر الجمعية الفلسفية المصرية: الفلسفة والثورة الذي انعقد في يوم 10/12/2011م في بني سويف بمصر، وقدمت فيه ورقة بحثية بعنوان: من فقه الطاعة والخضوع إلى فقه الثورة والخروج. وشاركت بالورقة الثانية في مؤتمر: الثقافة الديمقراطية والعملية السياسية في المنطقة العربية والذي أقامته كلية الحقوق ـ قسم العلوم السياسية بجامعة المسيلة بالجزائر والذي انعقد يوم 13/12/2011م، وقدمت فيه ورقة بعنوان: الفقه السياسي الإسلامي وثقافة الديمقراطية: جدلية التعاطي والممانعة. أثرت هنا الدمج بين الورقتين تحت العنوان أعلاه، وسأقوم بتنزيله تباعاً في شكل حلقات، سأكتفي في أولى هذه الحلقات بمقدمة توضح الإطار النظري للموضوع.
مقدمة:
في اللغة العربية، كلمة (الفقه) تعني الفهم العميق، ومطلق الفهم، وفهم غرض المتكلم من كلامه. وجولة سريعة في القواميس والمعاجم اللغوية العربية تجعلنا نلاحظ الرابط المعنوي ما بين الفقه والفهم: ففي الصحاح: الفقه الفهم، وفي القاموس المحيط: الفقه العلم بالشيء والفهم له، وفي المصباح المنير: الفقه فهم الشيء. وبهذا المعنى نفسه وردت كلمة الفقه في القرآن الكريم منها مثلاً: قوله تعالى: ( وجعلنا على قلوبهم أكنة ً أن يفقهوه وفي أذانهم وقرا...) الإسراء(46)/ ونصيحة شعيب عليه السلام لقومه الذين يغشون في الموازين، وردهم عليه: ( قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول) هود(91): أي لا نفهم ما تقول/ وقوله تعالى: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم)/ وقوله تعالى: ( أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون). أما الاصطلاح الشرعي لها: معرفة الأحكام الشرعية العمليةـ التي تتعلق بأفعال العباد ـ المستنبطة من أدلة التشريع الإسلامي التي أصلها الكتاب والسنة.
نحن نصدر في فهمنا للفقه الإسلامي من منظور يرى فيه اجتهاداً بشرياً ـ ليس إلا ـ في إدراك الأحكام المنزلة، وفي وصل تلك الأحكام بأحوال المسلمين في كل عصر من العصور، وعلى ذلك فإن (فقه) الفقيه هو في محصلة التحليل النهائي ليس سوى (فهم) بشري وفقه إنساني يحتمل القبول والرفض، الصواب والخطأ، الحذف والإضافة، التعديل والتحوير، التبديل والتغيير، بكلمة واحدة يحتمل النقد. وهو المعنى عينه الذي يؤكده مفكر إسلامي معاصر بقوله: " الفقه هو كسب المسلمين في فهم الإسلام وتطبيقه وتنزيله في كل واقع معين، ولا حظ له من الخلود، لا سيما أن أطر الحياة وظروفها قد تبدلت بابتلاءات التاريخ" وعلى ذلك، فإن مدونة الفقه السياسي الإسلامي ما هي إلا تعبير عن (فهم) فقهاء المسلمين في مرحلة تاريخية ما للنص الديني الإسلامي، ومحاولة تنزيل هذا الفهم وتطبيقه على واقع المسلمين، مستنبطين بذلك لمجموعة من الأحكام الشرعية التي تتناول قضايا سياسية متعلقة بالحكم وإدارة الدولة. وعلى ذلك بوسعنا النظر إلى الفقه السياسي الإسلامي بوصفه منظومة من الأحكام والمبادئ التي على أساسها يقوم البناء النظري لنظام الحكم في الإسلام.
موضوع هذه الورقة البحثية يتعلق في الأساس بفقه (الفقه السياسي الإسلامي) أي ب(فهم) الطريقة التي يفكر بها العقل الفقهي السياسي الإسلامي وتحديداً فيما يختص بموضوع (الثورة) و(ثقافة الديمقراطية). وطرح التساؤل بصدد صيغة التفكير هذه: وإلى أي مدى قد أسهمت فعلياً ـ سلباً أو إيجاباً ـ في الثوران العربي المعاصر؟ سواء من خلال إضفاء الشرعية الدينية عليه أو خلعها منه. وهل ثمة أي دور مارسه فقهاء اليوم ـ سلباً كان أو إيجاباًـ في ظل الثورات العربية المعاصرة؟ وما هو موقف الفقه السياسي الإسلامي اتجاه مستقبل البلدان التي ما زالت تحت هيمنة الأنظمة الشمولية؟ واتجاه تطلعات الشعوب العربية إلى الحريات وحقوق الإنسان؟ وما الموقف من التطورات الجديدة في الوطن العربي وهل يدعم الفقه التغيير والحراك الثوري؟ أم أن التراث الذي خلفه لنا الفقه السياسي الإسلامي لا يدعم إلا إيديولوجيا التراجع والتضييق على الحريات؟ وما هي الرؤى الفاعلة التي يمكن أن يمدنا بها الفقه السياسي الإسلامي فيما يخص الحراك الثوري في البلدان العربية؟ هل استطاع الفقه السياسي الإسلامي طوال تاريخه الطويل أن ينتج لنا أو يساعد في بلورة خطاب سياسي حديث في المسألة السياسية بعامة ونقد الاستبداد السياسي بخاصة؟ أم أنه لم يراوح مكانه القديم؟ وأخيراً: هل نلمس حاجة ضرورية للتجديد في الطرح والمعالجة والرؤية؟ هل يجب القطع مع ما كُتب سابقاً؟ هل ثمة مساهمة أنجزها الفقه السياسي الإسلامي في الماضي يمكن استلهامها وعدها تراثاً لنا في مواصلة الاجتهاد في قضايا الثورة والديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان؟
بادئ ذي بدء، قدم الفقه السياسي الإسلامي خلال مسيرته التاريخية مجموعة من المبادئ والمعايير التي أسهمت في تشكيل الثقافة السياسية للمجتمعات العربية عبر التاريخ، والتي شيدت بناءاً على هذه المبادئ تصوراتها ومعتقداتها وقيمها فيما يتعلق بالحياة السياسية العربية، وبظاهرة السلطة وبالنظام السياسي وبالصيغة التنظيمية للعلاقة التي تجمع بين الحاكم والمحكومين وبالكيفية التي (يفسر) بها المحكومين الدور المنوط بالحاكم القيام به..الخ. وهو الأمر الذي يعني أن الفقه السياسي الإسلامي يمثل أحد أهم محددات النظرة العربية الإسلامية والتي بموجبه تتحدد طرائق تفكيرها وآليات عملها ومنهجيات تناولها لكثير من القضايا المتصلة بواقع العملية السياسية في العالم العربي الإسلامي.
تأسيساً على ما سبق، تهدف هذه الورقة البحثية إلى تفحص تلك المبادئ والمعايير التي قدمها لنا (فقه السياسة الشرعية) وطوّر على أساسها العقل الفقهي السياسي الإسلامي مقولاته ومفاهيمه ورؤاه، وتبيان مدى ملاءمتها وموافقتها لقيم ولمتطلبات الفكر الديمقراطي الحديث، ومعرفة إلى أي مدى يمكن أن يُسهم الفقه السياسي الإسلامي في الجهود الرامية إلى تجذير وترسيخ ثقافة الديمقراطية في بلداننا العربية. ومعرفة إلى أي مدى يمكن أن يُسهم الفقه السياسي الإسلامي سلباً أو إيجاباً في دعم الانتفاضات الجماهيرية والثورات الشعبية وفي دعم الجهود الرامية إلى محاربة الظلم والطغيان واستبداد الأنظمة العربية الحاكمة.
إن اهتمامنا في هذه الورقة البحثية إنما هو موجه بالدرجة الأولى إلى إبراز المعوقات على صعيد طرائق تفكيرنا المكتسبة ـ وتحديداً بواسطة العقل الفقهي الإسلامي ـ والتي تحول دون إنجاز التحول الثوري المنشود نحو الديمقراطية ليس كنظام سياسي فحسب، بل كنظام اجتماعي قيمي وأخلاقي. فمن دون تجاوز هذه المعوقات لن يكون بمقدور الفقه السياسي الإسلامي التجذير للثورة والديمقراطية فكراً وممارسةً. على ذلك فإن جزء من انشغالنا النظري في هذا البحث سيكون موجهاً بمهمتين: ترمي الأولى إلى تبيان الأسس النظرية والمبادئ الأولية ومنهجيات التناول التي قام العقل السياسي الإسلامي طوال تاريخه بتطبيقها وبتوظيفها في إنتاج ثقافة سياسية محددة، نُظر إليها كمنظومة مرجعية شرطت نظرة الفرد العربي وحددتها فيما يختص بالحياة السياسية العربية بمختلف مكوناتها وتراكيبها وعناصرها. وفي المقابل ترمي المهمة الثانية إلى طرح التساؤل بصدد الصيغة السياسية التي يقدمها لنا العقل السياسي الإسلامي المعاصر وتبيان حجم التأثير سلباً وإيجاباً أو ما اصطلحنا عليه ب( جدلية التعاطي والممانعة) مع الثقافة الديمقراطية الحديثة.
وعلى ذلك فالتساؤل المركزي الذي على أرضيته تتبلور وتصدر كافة قضايا ومشكلات بحثنا هذا هو: كيف تعاطت النخب الفكرية الإسلامية القديمة والحديثة والمعاصرة مع قضايا الخروج على الحكام والشورى والديمقراطية والحريات؟ وبالتالي فهو تساؤل عن إشكالية الثورة والديمقراطية وكيف تم تمثلها وعياً عند النخب الفكرية الإسلامية وعلى رأسها مؤسسة الفقهاء؟ وكيف تم التعبير عنها خلال أزيد عن أربعة عشر قرنا؟
ومنهجية الباحث التي أتبعها في سبيل الإجابة على هذا التساؤل إنما تمثلت في الوقوف عند منهجيات التناول والمنطلقات النظرية التي قام الفقه السياسي الإسلامي بتطبيقها وبتوظيفها في تشييد كل أنسقته المذهبية ومضامينه المعرفية. وبالتالي مدار الاهتمام هنا لا يتركز على الأطروحات، وإنما بالأحرى على طريقة التفكير التي تنتج هذه الأطروحات نفسها، أي (الفعل العقلي) اللاشعوري الذي يؤسسها. إن (نقد الأطروحات) عندما يغفل الأساس المعرفي الذي تقوم عليه، يصبح نقداً أيديولوجياً للأيديولوجيا، وبالتالي فهو لا يمكن أن ينتج سوى أيديولوجيا، أما نقد طريقة الإنتاج النظري (الفعل العقلي) فهو وحده الذي يمكن أن يمهد لقيام قراءة ممكنة وواعية لما نهدف إليه. ولسنا نهدف إلى الوقوف عند طرائق التفكير بحد ذاتها، وإنما المطلب البحثي هنا إنما يتمثل في تشريح قولها وتفكيكه واستنطاقه عما يضمره فيما يخص إشكالية بحثنا (الثورة وثقافة الديمقراطية)، ولنرى إلى أية مدى يمكن لهذه الطرائق والمنهجيات أن تُسهم في زرع بذرة ثقافة الديمقراطية في تربة المجتمعات العربية وغرسها في وجدان الشعوب العربية. وهو الأمر الذي يقف بنا ويجعلنا نتساءل أولاً عن: هل الديمقراطية كثقافة وكقيم وكمبادئ وكوعي متجذرة في طرائق التفكير الفقهي وفي المبادئ الأولية التي على أساسها تقوم هذه الطرائق بتشييد منتوجها المعرفي؟ أم أن هذه الطرائق هي بالأصل تناهض ثقافة الديمقراطية وتتخذ منها موقفاً عدائياً؟
المطلب البحثي أعلاه، مواجه بعقبة منهجية تتمثل من وجهة نظرنا في أنه ليس من المقدور وليس من الاستطاعة بمكان الإدعاء والتحدث عن منتوج فقهي إسلامي واحد وموحد فيما يختص بالمسألة السياسية وتحديداً الموقف من الثورة، وبدلاً من التجانس والتشابه نُواجه بالتباين والاختلاف. وفي سبيل تجاوز هذه العقبة، لم تركز الورقة البحثية إلا على المنتوج الفقهي السني فيما يختص بموضوعنا، واهتمت بالأساس بتفحص طرائق النظر الفقهية عند أهل السنة والجماعة والتي اُستخدمت في بلورة منتوج فقهي فيما يختص بمسألتنا السياسية. وبالتالي مدار اهتمام البحث هنا ليس بالمضمون الأيديولوجي للفقه السياسي الإسلامي وإنما بالأحرى بطرق الإنتاج وطرائق التفكير التي تم توظيفها ـ من قبل المؤسسة الفقهية الإسلامية السنية على مرّ التاريخ ـ في عملية إنتاج تلك المضامين الأيديولوجية والانسقة الفقهية. الأمر الذي يعكس لنا بالدرجة الأولى طرائق النظر الفقهية وما يعتريها من تغيير، ويمكن التعبير عن هذا الهم المنهجي بالسؤال التالي: هل غير الفقه السياسي الإسلامي من أدوات فهمه وطرائق تفكيره وأساليب تأويله في عملية تعاطيه سواء أكان مع النص الديني الإسلامي أو مع واقع المسلمين وما يستجد فيه من قضايا ومشكلات؟ أم ما زالت عقلية (فقه السياسة الشرعية) القديمة بنفس أدواتها ومفاهيمها ورؤاها تسيطر على هذا الحقل المعرفي رغم تقادم العصور؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التراث تراث
خليل فرحات ( 2011 / 12 / 25 - 19:45 )
ليس في الفقه الإسلامي ما يسمى بالسياسي لأن فقهاء الدين لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث في الدولة الاجتماعية والاقتصادية بل حصروا اجتهادهم في مبدأ الإيمان المشروط بقيم الأخلاق الدينية وليس في مبدأ الحريات المشروط بقيم الحقوق الإنسانية . لذلك كل التراث القهي جاء مبنيا على أن عنصر الدين هو المؤطر للمجتمع بواسطة الطاعة وليس بواسطة عنصر الدولة التي هي المؤطر لمؤسسات الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الذي يقيمها على نفسه بنفسه وبمحض إرادته بغض النظر عن دينه وجنسه باعتبارها شراكة بين الذين يقيمونها على أنفسهم بمبدأ مساواتهم في الحقوق . ولهذا يمكن القول بأن التراث الإسلامي لم يؤسس للدولة بالثقافة الديموقراطية التي تريدها الشعوب لا في قديمه ولا في حديثه . وبالتالي ليس فيه ما يدعم الدولة الديموقراطية التي لم يناقشها الفقهاء أصلا لأنهم يرونها تخالف الإيمان وبالتالي تخالف الطاعة التي من دونها في رأيهم لا يستقيم الدين في بلاد الإسلام

اخر الافلام

.. صاروخ باليستي روسي يستهدف ميناء أوديسا


.. ما فاعلية سلاح الصواريخ والهاون التي تستخدمه القسام في قصف م




.. مراسل الجزيرة يرصد آثار القصف الإسرائيلي على منزل في حي الشي


.. خفر السواحل الصيني يطارد سفينة فلبينية في منطقة بحرية متنازع




.. كيف استغل ترمب الاحتجاجات الجامعية الأميركية؟