الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأبعاد الوهابية لنشأة حركة الاخوان الدولية

فكرى عبد المطلب

2011 / 12 / 26
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني



لم يكن من قبيل المصادفات الاعتيادية أن ينفذ مؤسس حركة " الإخوان المسلمين " (حسن البنا) بفكرة جماعته من باب قانون " الجمعيات " ، لا من باب قانون " الأحزاب " ، بما لمفهوم "الجمعية" من معانى التضامن والتآلف والأمان ، فى المأثور التقليدى (المتواتر) ، بينما ارتبط مفهوم " الحزب " بمعانى التعارض والتنافس والتنازع ، فى الوجدان الشعبى العام .
وبذلك تمكن (البنا) من استثمار جاهزية المفهوم القديم – بكل سحره ودلالة معانيه – حينما شرع فى تأسيس كيان جماعته البازغة فى العام 1928 ، فى مقابل جميع الكيانات المنتسبة إلى أشكال حداثية ، لم تستوطن البيئة المصرية والإسلامية ، إلا باكراً ، سواء أأحزاباً سياسية كانت أم روابط مدنية أم نقابات عمالية ومهنية .
لذا ، جاءت البنية النظرية (الأيديولوجية) والتنظيمية لـ " الجمعية " شمولية التعبير ، تراتبية العمل ، كى تتسق مع مغزى التسمية الشعبية الأثيرة ، والتى صارت عنواناً لـ " إخوان " على هدى الإسلام ، أو " إخوان مسلمين " .
وبهذا النزوع العملى ، لتوظيف كل ما يلائمه فى مخزون الوجدان المصرى والإسلامى ، لأجل بلوغ أغراضه ، لم يستنكف (البنا) قبول منحة غربية لا ترد ، للمساهمة فى قيام جماعته، عبر شركة (قناة السويس) للملاحة البحرية ، بلغت قيمتها خمسمائة جنيه مصرى(1) ، وهو مبلغ كبير بتقديرات تلك الأيام ، كى يدرج لحساب جمعية دينية دارجة ، تتولى أمرها شخصية مصرية مغمورة ، وهو ما حاول (البنا) أن يسوغه – تدليساً – عبر التبريرات الشعوبية المعتادة ، والأثيرة لدى سامعيها ، بالقول : " هذا ما لنا لا مال الخواجات (!!) والقناة قناتنا ، والبحر بحرنا والأرض أرضنا وهؤلاء غاصبون فى غفلة من الزمن " (2) .
وبهذا المنطق والطابع النفعى الصرف ، خرجت جماعة (البنا) بنور هذا التمويل – إذا جاز هذا التعبير – وشقت طريقها من المدينة (الإسماعيلية) ، التى اتخذت " القاعدة البريطانية " منها معقلاً فى (الشرق الأوسط) ، وحتى (الهند) ! .
لذا ، لم يجد ( البنا ) ما يحول دون السعى إلى كبـار التجار (3) العاملين فى منطقة ( قناة السويس ) كى يقدموا له يد العون المالى ، على الرغم من اتكاء أعمالهم على أنشطة الشركة الغربية العتيدة ، ومعسكرات القاعدة البريطانية المديدة ، فيما وجد فى سلطان دولة ( آل سعود) الصاعد معيناً خارجياً آخر ، على حد ما أدلى به ( البنا ) ذاته إلى ( هيكل باشا ) ، طبقاً لما أورده الأخير فى مذكراته (4) ، وهو أمر لافت ، بطبيعة الحال ، إذ لم يجد (البنا) من يعينه ، بين الملكيات العربية القائمة ، آنذاك ، سوى " الملكية السعودية " وذلك قبل زمان من بروز أشكال التماهى المذهبى بين الخطاب السعودى / الوهابى والخطاب الإخوانى / المصرى ، حيث نهل الاثنان من معين تراثى مشترك ، هو إلى تراث " الخوارج " ، أقرب ، ناهيك عن الدور الذى لعبه الموجه الفكرى لـ (البنا) فى هذا الصدد ، وهو الشيخ (محمد رشيد رضا) ، أحد أهم الشخصيات المصرية العامة قرباً من سلطة (آل سعود) (5) ، فى ذلك الوقت .
فالمتفحص للبناء النظرى لـ " الإخوان " المصريين – ولو على عجل – سيلحظ مدى تطابقه مع البناء النظرى لـ " الإخوان " السعوديين (الوهابيين) ، من حيث احتكار قراءة (الإسلام)، وتجريد قراءات كل من هم خارجهم – وليس ، فقط ، من خالفهم – من هذا (الإسلام) ! .
ففى حديث عام ، وجهه إلى عناصر جماعته ، يحدد (البنا) هوية الجماعة ، دون مواربة ، بالقول:"نحن الإسلام،أيها الناس،فمن فهمه على وجهه الصحيح،فقد عرفنا كما يعرف نفسه"(6) .
لكن ، (البنا) لم يحدد – آنذاك – ملامح هذا الوجه الصحيح لـ (الإسلام) ، كى يعرف الناس طبيعة جماعته ، على هدى من ذلك الوجه ، وكيلا يظلوا فى حيرة ، من أمرهم ، بخصوص تلك الجماعة ، على الرغم من تصديرها لرموز " المصحف " و" السيف " كعلامات دالة على هويتها ؛ حينذاك ، يسارع (البنا) بإملاء مفهوماته على أذهان عناصر الجماعة ليرددوها فى مواجهة من هم خارجهم ، بقوله : " قولوا لهؤلاء المتسائلين : نحن دعوة القرآن ، (الحق) ، (الشاملة) " (7) ، دون أن يبين أياً من أركان هذه الدعوة ؟ وما إذا كانت هناك دعوة ، بعينها ، قال بها (القرآن) ، وجرى القعود عن العمل بها ، من جانب المسلمين ، إلى أن تقدمت عناصر " الإخوان " لإعمالها ؟ أم أن قراءة (البنا) وجماعته (القرآن) أنتجت فهماً محدداً لآياته، أسموه ، هم ، " دعوة " ، صارت – بنظرهم ، " دعوة القرآن " ، لا غير؟
يبدو أن المعنى الأخير كان هو الأقرب لما يشير إليه (البنا) ، فى هذا السياق ، لذا ، جعل من جماعته كلاً شاملاً ، جامعاً ، مانعاً ، لما دونها ، من كيانات روحية أو خدمية أو سياسية ، حين وصف جماعته بأنها : " طريقة صوفية .. وجمعية خيرية .. ومؤسسة اجتماعية .. وحزب سياسى نظيف " (8) ، وهو وصف ينطلق به (البنا) من زاوية النظر إلى (الإسلام) ، كعقيدة شاملة ، يرى (البنا) وجماعته أنهما التعبير الأكمل عنها ، ولا بوصف (الإسلام) عقيدة ذات غايات ومقاصد منيرة ، يهتدى بها الناس فى طرائق حيواتهم المتباينة ، الزمان والمكان ، على حد ما تبدى فى مسيرة المسلمين ، عبر أربعة عشر قرن !
واستناداً إلى نظرة (البنا) إلى (الإسلام) ، على النحو المبين أعلاه ، تكون جماعته – بالطبع- هى (الإسلام) فى كل التشكيلات والكيانات الروحية والاجتماعية والسياسية ، أكانت سائدة اليوم ، أو مستحدثة غداً (!) .
ذلك أن هوية الجماعة – كانت لدى (البنا) – هى الكل فى واحد ، فهى الشىء كله ، ومن خارجها لا شىء مطلقاً ، والذى منحها هذه الكينونة المطلقة ليس إلا (الإسلام) ، بوصفها أن الجماعة – دون غيرها – هى الممثلة الوحيدة له (!) ، وهو أمر يبدو أنه كان شديد الوضوح لدى (البنا) ، وهو ما دعاه لاستنكار ما قد بدا أنه حملات تشكيك حول الطبيعة الفعلية للجماعة، وذلك عبر عبارات تكفيرية صريحة ، تتشكل ، من خلالها ، أذهان عناصر جماعته فى مواجهة من خارجهم ، فيقول ضمن نفس الحديث السابق : " وقد يقولون بعد ذلك كله : لازلتم غامضين (...) ، فأجيبوهم : لأنكم ليس فى يدكم مفتاح النور الذى تبصروننا به على ضوئه .. نحن الإسلام ، أيها الناس " (9) .
وبذلك صار " اخوان البنا " فى الموضع الذى لا يبصرهم فيه إلا من امتلك هذا المفتاح ، الذى لن يوجد – بالطبع – إلا بينهم ، فهم أدرى بموقعه ، دون غيرهم ، فهم النور وهم مفتاحه ، فى آن .
وفى ذلك ، يسبغ (البنا) على جماعته صفات قريبة ، من هذا المعنى ، بعد أن توارت ، لديه، الصفات الدنيوية السابقة ، فيقول ، مخاطباً عناصر الجماعة : " أيها الاخوان ، أنتم لستم جمعية خيرية ، ولا حزباً سياسياً ، ولا هيئة موضوعية الأغراض ، محدودة المقاصد ، ولكنكم روح جديد (...) يسرى فى قلب هذه الأمة ، يحييه بالقرآن ، ونور جديد (...) يشرق فيبدد ظلام المادة بمعرفة الله ، وصوت داود يعلو مردداً دعوة رسول الله (ص) ، ومن الحق الذى لا غلو فيه : أن تشعروا أنكم تحملون هذا العبء بعد أن تخلى عنه الناس " (10) .
هم – إذاً – جنود ودعاة مخصوصون ، بل هم " فرسان النهار ورهبان الليل " ، بحسب تعبير (البنا) ، الذى صار ، هو " إمامهم " – لقباً – فبه قيادتهم ، لا إلى الصلاة ، كما هو عادة من يُلقب بهذا اللقب ، بل إلى الانتصار لغايات " دعوتهم " ، أو " دعوة القرآن " ، زعماً .
لذا ، صار (البنا) " شهيداً " ، حين صُرِع فى معركة الجماعة مع من دونها ، فى سبيل هذه "الدعوة" ، فبات " الإمام الشهيد " ، وهى صفة – أى " الشهيد " – لا ينالها – كما هو معلوم – إلا من وقع صريعاً من " المسلمين " فى ميدان " الجهاد " مع " الكفار " ، قديماً ، أو عند الاعتداء عليهم ، من خارج ديارهم ، حديثاً ، فى حين جاء مصرع (البنا) ضمن خصومة سياسية دامية مع الدولة المصرية ، على أثر إقدام أحد عناصر الجماعة على اغتيال رئيس الوزراء (محمود فهمى النقراشى) ، رداً على قراره بحل الجماعة .
ومع ذلك ، ظل لقب " الإمام الشهيد " يسبق اسم (البنا) ، ضمن كل حديث يأتى على ذكر الرجل ، شفاهة أو تحريراً ، بين صفوف الجماعة ، ناهيك عن التصاق اللقب بكل ما يتصل بكتابات (البنا) المطبوعة ، منذ خمسين عاماً ونيف ، وحتى اليوم ، وهو ما يعنى أن سقوط (البنا) " شهيداً " جاء فى إطار " الجهاد " () ضد الكافرين أو الاعتداء على " المسلمين " من جانب المعتدين الأجانب .
وبهذا النسق من التشكيل الايديولوجى الحازم لأذهان ونفوس جنود (البنا) ورهبانه ، نهاراً وليلاً ، نمت " جمعية " (جماعة) " الاخوان المسلمين " ، بين جمهور تتسم غالبية أفراده بحداثة السن ورعونته وريفية التكوين وبساطته ، وحماسة التدين ومثاليته ، وذلك وسط أمية غالبة على المجتمع ، وبؤس اجتماعى ، واسع النطاق ، ونعرات وطنية شديدة الاحتجاج ، على احتلال أجنبى ، طال أمده ، لتصير الجماعة / الجمعية البازغة ، لدى كل هؤلاء وأولئك بر الأمان ، الذى يحتمون به من نزق واقعهم وقسوته ، و" فردوساً " ينالون ، عبره ، ثمار تقواهم ، ومبتغى أمانيهم .
وبهذا الحس الذى التقطه (البنا) من بين جموع المصريين أدار دفة جمعيته ، على أسس من قيمة الطاعة التامة ، استناداً إلى أن عصيان الجندى للأوامر هى جريمة ، ولو كان على حق ، والاعتراض من جانب الراهب وهو إثم ولو خالف دقائق نفسه ، ومن ثم ، فعلى كل من ينخرط فى تلك الجماعة المخصوصة من " الجنود / الرهبان " أن يشهر قسمه طواعية مع الله (!) ، والذى يقول نصه : " أعاهد الله العلى العظيم ، على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين والجهاد فى سبيلها ، والقيام بشرائط عضويتها ، والثقة التامة بقيادتها ، والسمع والطاعة فى المنشط والمكره ،وأقسم بالله العظيم على ذلك ، وأبايع عليه ، والله على ما أقول وكيل " (11) .
بيد أن مستوى " الطاعة المطلقة " ، التى يقننها هذا القسم ، لا يبلغها العضو المحدث إلا بعد سلسلة من الاختبارات والتدرج فى مراتب ثلاث ، أولها " الأخ المساعد " فـ " المنتسب " ثم "العامل" بحسب ما قرره المؤتمر الأول للجماعة ، فى العام 1935 ، ذلك أن " الأخ العامل " هو من اندمج فى الجماعة ، وتلقى تدريباته البدنية (...) وعلومه القرآنية ، وهى مرتبة تؤهل صاحبها لنيل رتبة " الأخ المجاهد " ، وذلك بعد عدة اختبارات وابتلاءات من قيادته ، وبعد حصوله على تقدير مرتفع ، ضمن التقرير الذى يعده عنه " الجهاز السرى " أو " جهاز أمن الجماعة " ، ليصير " الأخ المجاهد " ذلك الذى يبذل الغالى والنفيس فى سبيل تنفيذ أوامر القيادة ، التى قد تكلفه حياته ، وهو ما جعل من هذه الرتبة حكراً على حفنة من الذين يعكفون على تكريس أنفسهم للجماعة ، كونها أعلى درجات " السمع والطاعة " ، أكثر من كونها درجة تنظيمية ، تُدرج فى سجل العضوية ، وهو وضع يبدو أنه ظل قائماً فى مسيرة عمل الجماعة، على الرغم من التعديلات التى طرأت على لائحة التنظيم ، فى ضوء الأزمات التى لحقت بها، وذلك بإدماج رتبتى " المساعد " و" المنتسب " فى رتبة واحدة ، يقضى فيها العضو الجديد فترة لا تقل عن ستة أشهر ، ودون حد أقصى ، كى يثبت العضو خلالها درجة ولائه وطاعته، عبر عمليات تجهيز نفسى وبدنى واجتماعى وتثقيفى ، يؤدى بعدها يمين الولاء ، بناء على طلب " الشعبة " ، التى ينتمى إليها ، ليصير ، بعدها ، " أخ عاملاً " ، لكنه ، يقف أسفل هرم كبير من التسلسل التنظيمى ، ينتهى بمنصب " المرشد العام " (12) ، على حد ما قررته مؤتمرات الجماعة الستة ، ما بين عامى 1935و1941 ، والتى أعلن (البنا) فى آخرها وصول " دعوة الإخوان " إلى مختلف الطبقات وتغلغلها فى الأوساط الاجتماعية المختلفة ، فى وادى النيل (مصر والسودان) ، وفى بعض الأقطار العربية (13) ، وذلك بعد أن صارت تلك المؤتمرات أهم الوسائل التى استخدمت فى التدريب على التعبئة العامة للأعضاء والأنصار ، على السواء (14) ، حيث قدر (البنا) أعداد " الأعضاء العاملين " فقط بنحو نصف مليون عضو ، وأضعافهم بين " الأعضاء المنتسبين والمؤازرين " خلال عام 1948 ، وهو التاريخ الذى كان قد شهد توسعاً لنفوذ الجماعة داخل الطبقة الوسطى وفئات الطلاب (15) ، على نحو غير مسبوق من قبل ، وهى الفترة التى كانت تعانى فيها مصر أزمات سياسية واجتماعية عديدة ، بعد أن وضعت حرب الامبرياليات الأوربية (العالمية الثانية) أوزارها ، وما تمخض عنها من اغتصاب (فلسطين) ، على أيدى العصابات الصهيونية ، وهزيمة الجيوش العربية على يدها فى حرب 1948 (!!) ، فأضحت جماعة " الإخوان " أملاً لدى أوساط عديدة () ، فى ظل صعودها على ساحة العمل السياسى ، كقوة تنظيمية ومؤثرة وشبه بديلة لما حولها ، وبعد أن كان الوهن قد ضرب أركان النظام السياسى المصرى ، وفى قلبه الحزب الشعبى الكبير (الوفد) .
ويبين (ميتشيل) – وهو أحد أبرز مؤرخى حركة " الاخوان " – أن جماعة " الإخوان " كانت قد امتلكت تنظيماً حديدياً لا يضاهيه فى قوته أى تنظيم سياسى آخر ، حيث كانت "شُعب الإخوان" المنتشرة فى " المناطق " تضم سرايا فى الشرطة والجيش ، وهى " الشُعب " التى كان تتبعها " كتائب " تتكون من " خمسة أرهاط " ، لكل منها " نقيب " ، ويتكون الرهط من خمس " عشائر " ، لكل منها " نقيب " ، و" العشيرة " تتشكل من أربعة " أسر" برئاسة " نقيب " ، وهو التشكيل الذى اصطلح على تسميته بنظام " الأسر " وهو أقرب إلى التنظيم الميدانى ، وإلى جانبه تنظيم آخر ، هو " فرق الجوالة " ، التى تتبع " المرشد العام" مباشرة ، ثم " المفتش العام " ، وهو المشرف على " الفرقة " ، التى تتكون من عدد غير معروف من " الشُعب " ، وهى مُشكلة من عدة " مجموعات كشفية " وأخيراً " الكشافة " ، وتقتصر عضويتها على عشرة أفراد .
وهو التنظيم الذى استحدثه (البنا) للحد من المشكلات البيروقراطية المتفشية فى "تنظيم الأسر " ، حيث وفر " التنظيم الأحدث " – أى " فرق الجوالة " – كفاءة أكبر عن نظيره من حيث سرعة تلقى الأوامر السرية (16) وتنفيذها على الوجه الأكمل .
إن شكل التنظيمان (الأسر ، والجوالة) قسمين رئيسيين من أقسام التنظيم العام للجماعة ، والذى شمل " العمال والفلاحين " و" الطلبة " و" المهن وفروعها " و" نشر الدعوة " و" التربية البدنية" و"الاتصال الخارجى" (17) .
ويبدو من ظاهر هذا الشكل التنظيمى تشابهات عديدة مع التنظيمات والأحزاب والمحافل السياسية والدينية العلنية منها والسرية ، والتى كان العالم قد عرفها ، آنذاك ، مثل الأحزاب "النازية" و"الفاشية" و"الستالينية" (الشيوعية ، رواجاً) و" فرسان الصليب " و"الماسونية" ، التى يرجح أن العديد من اصطلاحاتها وأساليبها قد عرف طريقه إلى التنظيم " الاخوانى " ، مثل تسمية " العشيرة " و" الأخ " والولاء المطلق للتنظيم ، مدى الحياة ، وعدم إفشاء أسراره (18)، وما إلى ذلك ، حيث لم يُعرف عن (البنا) سابق خبرة فى هذا الضرب من التنظيم(...) .
بيد أن طابع " الدعوة الوهابية " كان هو الأقرب إلى صُلب " الدعوة الاخوانية " ، إلى جانب الشكل التنظيمى المسلح ، الذى سلكه الطرفان للإيفاء بمتطلبات دعوتيهما ، واللتين ارتزكتا على النظر إلى (الإسلام) بوصفه " ديناً ودولة " ، والذى يعنى سلطة الحكم السياسى ، على الرغم من أن لفظة " حكم " ، كما وردت فى (القرآن الكريم) إنما تعنى : القضاء والفصل فى النزاع ، كما تعنى الحكمة والعلم ، لذا ، فحينما استخدم شعار " لا حكم إلا لله " ، لأول مرة ، من جانب (الخوارج) خلال " الفتنة الكبرى " رداً على التحكيم ، أو القضاء ، بحسب ما ورد فى صدارة وثيقة التحكيم : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما تقاضى عليه على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان .. الخ" (19) . وصف الإمام (على) شعار (الخوارج) ،هذا ، بـ " كلمة حق يراد بها باطل " ، لإنصراف دلالة اعلانها عن دلالاتها الأصلية ، مشدداً على أن (القرآن) " هو خط مسطور لا ينطق إنما يتكلم به الرجال " ، ومن ثم فـ " الحاكمية " لا تعنى أن الله ، جل شأنه ، هو مصدر السلطة فى " الدولة " ، بل تعنى أن الله هو الذى يفصل فى كل شىء ، فى الأرض أو السماء ، ذلك أن الدلالة الدينية واللغوية للفظة " دولة " تشير إلى الدوران والتعاقب والانتقال من حال إلى أخرى (20) ، فإذا كان الله منزهاً – بذاته – عن الفصل فى أمور السياسة ، فالحكم – حينئذ – يكون لبشر ، الذين يحاولون الحكم باسم الله ، كما زعم " اخوان بن عبد الوهاب " و" اخوان البنا " ، وهو ما لم يتحمل عبء مسئوليته الأنبياء ، ذاتهم (!) .
وفى هذا ، يقول (البنا) : " أيها الإخوان المسلمون ، بل أيها الناس أجمعون ، لسناً حزباً سياسياً ، وإن كانت السياسة على قواعد الإسلام من صميم فكرتنا (...) " ، إلى أن يصل إلى القول : " نحن ، أيها الناس – ولا فخر – أصحاب رسول الله (ص) ، وحملة رايته من بعده، ورافعو لوائه كما رفعوه ، وناشرو لوائه كما نشروه ، وحافظو قرآنه كما حفظوه ، والمبشرون بدعوته كما بشروا ، ورحمة الله للعالمين " .
هم ، إذاً " الفرقة الناجية المنصورة " ، كما تصورها (البنا) بخصوص جماعته ، وكما تصورها – كذلك – (بن عبد الوهاب) بشأن جماعته ، ولكن ، قبل أن تجد دعوة (البنا) طريقها إلى الظهور ، بأكثر من مائة وخمسين سنة ، حيث انطلقت " دعوة بن عبد الوهاب " فى بادية (نجد) فى سبعينيات القرن الثامن عشر ، لتفرض مشيئتها فى (شبه جزيرة العرب) ، عبر سلطان (آل سعود) ، قبل أن تنتكس ، ثم تستعيد زمام فعلها ، من جديد ، فى مطالع القرن العشرين ، على يد سلطة (آل سعود) أيضاً وهى السلطة التى امتد نفوذها إلى أشخاص، يعملون فى مختلف حقول العمل العام ، ومن شتى الأقطار العربية ، وفى طليعتهم الشيخ (رشيد رضا) ، الذى ظل أقرب إلى المرشد الروحى لـ (البنا) ، كما أسلفنا ، فعبر الأول تلقى الثانى فكراً أصولياً جامداً ، كان (رضا) قد تحول إليه فى الجزء الأخير ، من حياته ، وذلك حينما أخذ (رضا) فى متابعة " منهاج الحنابلة - وخاصة ابن تيمية - فى دراسة بعض العقائد دون إضافة تذكر ، ولازم موقفهم نفسه من علماء الكلام والفلاسفة ، وقاوم كل جدل عقلى فى مسائل العقيدة ، ونفر من علم الكلام أساساً ، واعتبر الفرق الشيعية وخاصة منها الإسماعيلية (أداة هدم من داخل الإسلام) " (21) .
وفى إطار هذا ، اعتبر (رضا) " الوهابية " هى " المذهب الذى أقام السُنة بصورة لم يسبق لها نظير بعد الخلفاء الراشدين (...) ، ولم يفتأ ينتصر لابن تيمية وأتباعه من الوهابيين عامة باعتبارهم من الحنابلة الذين عزفوا عن كل تأويل ومغالاة فى استعمال العقل وآمنوا بالتتريه عند البحث فى الصفات الإلهية " ، " خاصة بعدما] أعلن ابن سعود عن عقد مؤتمر إسلامى عام بمكة سنة 1926 للتباحث فى شئون الدين والسياسة الإسلامية عامة " (22) .
وعلى الرغم من أن غرض هذا المؤتمر كان منصباً – فى الأساس – على النظر فى المستقبل السياسى لـ (الحجاز) ، قبل أن يبسط (آل سعود) سلطانهم السياسى عليه ، فقد تحول المؤتمر إلى ساحة للترويج للخطاب الوهابى ، واستقطاباً لموالين جدد له ، فى ساحة العمل الإسلامى، عامة ، وكان (رضا) من بينهم ، فهل كان ذلك المؤتمر هو الوعاء الذى تولدت داخله فكرة تأسيس جماعة مناظرة " للجماعة الوهابية " ، فى (مصر) ، باسم " الإخوان المسلمين " ؟
ان استعادة ملابسات وقائع هذا المؤتمر ، وما ارتبطت به من أدوار لشخصيات مصرية عامة، كانت وثيقة الصلة بالسلطة السعودية – الوهابية ، من أمثال (رشيد رضا) و(حافظ وهبه) و(محمود أبو الفتح) ، وغيرهم ، يمكن أن تعيد رسم صورة الحدث .. حدث الميلاد الفعلى لحركة " الاخوان المسلمين " ، والذى تم بعد عامين فقط ، من انقضاء أعمال ذلك المؤتمر الفارق فى التاريخ العربى والإسلامى المعاصر ، والذى لم تكن أعماله ببعيدة عن مراقبة ، بل رعاية الطرف الأوربى ، وخاصة البريطانى منه ، الذى ارتبط بعلاقات وطيدة مع السلطة السعودية – الوهابية ، فى عهدها الأول ، وفى عهدها الثالث ، ثم قدم يد العون المالى السخى لأجل ظهور جماعة " اخوان البنا " ، بحسب ما أظهرته الوثائق البريطانية .
إذ ظل مفهوم " الهوية الدينية " أحد ثوابت الدبلوماسية البريطانية ، منذ أواسط القرن التاسع عشر (ظهور دعوة ابن عبد الوهاب) ، وهى ذات السياسة التى تبنتها الولايات المتحدة الأمريكية ، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، لأجل استراتيجية احتواء التوسع السوفيتى فى (شبه الجزيرة الهندية) و(شبه جزيرة العرب) ، والتى أتاحت للأيديولوجية الوهابية نفوذاً غير مسبوق ، بلغ ذروته مع حرب " الجهاد الإسلامى " فى (أفغانستان) ، التى كان لحركة "الاخوان المسلمين" وتفرعاتها المعاصرة ثقل الفعل فيها ، وهو الاختبار الذى كانت الولايات المتحدة قد عدته أساساً لقياس مدى فعالية " أيديولوجية الإسلام السياسى " ، والتى قال عنها مستشار الأمن القومى الأمريكى (بريجسنكى) ، آنذاك : " إنها هوية الإيمان الأكثر تميزاً والأكثر قدرة على مقاتلة الإلحاد " (24) .
وربما تفسر هذه التطورات وغيرها الأسباب التى حملت الدولة " السعودية – الوهابية " على احتضان فلول " جماعة الاخوان " ، على إثر الصدام المروع بينهم وبين دولة (عبد الناصر) فى ستينيات القرن الفائت ، ولجوء بقاياهم إلى بعض الدول الأوربية ، وخاصة (بريطانيا) و(ألمانيا) (...) ، إلى أن عقد المرشد العام (حسن الهضيبى) مؤتمراً عاماً ضم حشداً من عناصر الجماعة ، المنتشرين على مستوى العالم ، أثناء موسم الحج ، من العام 1973، وهو المؤتمر كان البداية التأسيسية لحركة " الاخوان الدولية " ، وما مثل تحولاً نوعياً فى عمل الجماعة القديم ، متضافراً مع الصعود الاقتصادى والسياسى للدولة السعودية ودول الخليج ، على المستوى العالمى ، فى ضوء القفزات الفلكية فى أسعار النفط ، وهى عوامل منحت حركة " الإخوان " السعوديين والمصريين زخماً جديداً ، فى ظل معادلات تحالف سياسى واقتصادى ، تبدت على الصعيد الدولى ، وكان لجناحى " الاخوان " مركز واضح فيها ، وهو المركز الذى تأثر ، بشدة ، بسبب هجمات الحادى عشر من سبتمبر 2001 ، بيد إن شواهد ما يجرى اليوم تشير إلى استعادة روح التحالفات القديمة ، فحلفاء الأمس لا يفترقون تماماً .

هوامش ومراجع
1 – ريتشارد ميتشيل : الاخوان المسلمين ، ترجمة : عبد السلام رضوان ، ج1 ، ط1 ، مكتبة مدبولى ، القاهرة مايو 1977 ، ص33 .
2 – محمد عودة : كيف سقطت الملكية فى مصر ؟ الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 2002 ، ص220 .
3 – خالد سعيد : الاخوان المسلمون والغرب تاريخياً (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) ، البرنامج البحثى عن الإخوان المسلمين ، مركز يافا للدراسات والأبحاث ، القاهرة 2005 ، ص2 .
4 – محمد حسنين هيكل : برنامج مع هيكل ، موقع الجزيرة نت ،الخميس 13 يونيه 2006 .
5 – فوزى أسعد نقيطى : العلاقات المصرية السعودية 1950 – 1970 ، رسالة دكتوراه (غير منشورة) معهد الدراسات العربية ، القاهرة 2000 ، ص350 ، حيث يشير إلى انخراط رشيد رضا ، ضمن فريق من الكتاب المصريين ، بينهم محمود أبو الفتح ، يمتدح الممارسة الوهابية فى الصحف المصرية ، والتى شملت قطع رؤوس وأيدى الحجازيين ، بدعوى تأمين الحجيج ، على الرغم من التجاوزات والالتباسات التى رافقت عمليات تنفيذ تلك الأحكام ، ولمزيد من التفصيل انظر كذلك : سنت جون فيلبى ، تاريخ نجد ، ترجمة عمر الدراوى ، بيروت ، والجزيرة العربية فى الوثائق البريطانية ، اختيار وترجمة وتحرير : نجدة فتحى صفوة ، لندن ، دار الساقى .
6 – من خطاب حسن البنا فى اجتماع رؤساء المناطق فى 3 شوال 1364 هـ ، الموافق 8/6/1945 ، وانظر كذلك : محمود عبده ، الاخوان المسلمون والآخر الدينى والسياسى ، البرنامج البحثى عن الإخوان المسلمين ، مركز يافا للدراسات والأبحاث ، القاهرة ، ص1 .
7 – المرجع السابق .
8 – نفسه .
9 – نفسه .
10 – من رسالة " بين الأمس واليوم " ، من مجموع الرسائل .
11 – عبد الفتاح على : قضية السمع والطاعة داخل الإخوان المسلمين ، البرنامج البحثى عن الإخوان المسلمين ، مرجع سابق ، ص1 .
12 – المرجع السابق ، ص ص 1 ، 2 .
13 – حسن البنا : المؤتمر السادس ، ضمن مجموعة الرسائل ، ص ص 327 ، 328 .
14 – رفعت سيد أحمد : الإخوان المسلمون (1928 – 2005) النشأة – التطور – الأفكار، البرنامج البحثى الموسع عن الإخوان المسلمين ، الدراسة الأولى ، مرجع سابق ، ص6 .
15 – حسن البنا ، مرجع سابق ، نفس الصفحات .
16 – ريتشارد ميتشيل ، مرجع سابق ، الجزء الثانى .
17 – حسين بن محمد بن على جابر : الطريق إلى جماعة المسلمين ، الوفاء للطباعة والنشر، المنصورة (مصر) ، 1977 ، ص322 ، استناداً إلى رفعت سيد أحمد ، مرجع سابق، والذى يشير إلى أن هذا الهيكل التنظيمى يعود إلى بدايات تأسيس الجماعة ، واستمر معها حتى اليوم ، مع إجراء بعض التعديلات .
18 – اسكندر شاهين : الماسونية ديانة أم بدعة ؟ بيسان للنشر والتوزيع والإعلام ، بيروت، لبنان 1999 ، ط1 ، ص134 ، حيث يبدأ القسم الماسونى بالقسم بالله ، والتعهد بصون أسرار الماسونية ، ومنع من يريد فعل ذلك كيلا تكشف أسرارنا لغير أبناء عشيرتنا " ، إلى جانب الطاعة ، فإن حنث العضو بالقسم يكون " مستحقاً قطع عنقى واستئصال لسانى .. " (!) .
19 – صلاح قنصوه : الدين والفكر والسياسة ، مكتبة دار الكلمة ، القاهرة 2003 ، ص54.
20 – المصدر نفسه ، ص55 .
21 – من رسالة " الإخوان تحت راية القرآن " .
22 – محمد صالح المراكشى : تفكير رشيد رضا من خلال مجلة المنار ، الدار التونسية للنشر والمؤسسة الوطنية للكتاب بالجزائر ، ص ص 280 ، 282 .
23 – المصدر نفسه ، الصفحات نفسها .
24 – فراج إسماعيل وآخرون : الحركات الإسلامية وأمريكا ، مجلة المجلة ، لندن بتاريخ 27/3 – 2/4/2005 ، من ص 20 إلى 32 ، وانظر كذلك : خالد سعيد ، الإخوان المسلمون والغرب تاريخياً ، مصدر سابق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اغتيال ضابط بالحرس الثوري في قلب إيران لعلاقته بهجوم المركز


.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية




.. الخلود بين الدين والعلم


.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل




.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي