الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


القدرية في الفكر الاسلامي

معزز اسكندر الحديثي

2011 / 12 / 30
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


القدرية في اللغة:
القدر في اللغة القضاء والحكم، قال تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ سورة القدر، اية/1، والقادر اسم فاعل من قدر والقادر والقدير من صفات الله تعالى وهما من القدرة، وقدر الرزق: قسمه، ومقداره: مقياسه، وقدرت عليه الثوب فانقدر أي جاء على المقدار وقدر كل شيء مقداره: مبلغه، قال تعالى:وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ سورة الاتعام، اية/91 ، والقدرية قوم يجحدون القدر وينسبون إلى التكذيب بما قدر الله من الأشياء(1).
القدرية في الاصطلاح:
القدرية هم الذين قالوا: ان الكسب هو أحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالاً وليس للرب صنع فيه ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريداً له(2).
عقيدة القدرية:
نفى القدرية عن الله تعالى القدر بمعنى العلم والتقدير وقالوا: لا قدر والأمر انف، أي ان الأمور يستأنف العلم بها وتستأنف بالتالي أرادتها وكأنه نفى الإرادة الأزلية ونفى العلم الأزلي وذلك ليخرج فعل الإنسان عن نطاق قدرة الخلاق العليم، فنفاة القدر ابتداع ومخالفة الصواب الذي عليه أهل الحق ومذهب أهل الحق هو إثبات القدر، قال النووي(3): "ان الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم وعلمَ سبحانه وتعالى انها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها وأنكرت القدرية هذا وزعمت انه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه بها وانها مستأنفة العلم أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها".
فمن كذب بالقدر فقد كذب بالإسلام لأن الله تبارك وتعالى قدرَ أقداراً وخلق الخلق بقدر وقسم الآجال والأرزاق بقدر، قال ابن قيم الجوزية (4) عن الإمام أحمد: "القدر قدرة الله"، وان إنكار القدر إنكار لقدرة الرب على خلق أفعال العباد وكتابتها وتقديرها لذلك، عرف ابن حزم(5) القدرية: هم الذين قالوا: "ان الإنسان ليس مجبراً واثبتوا له قوة واستطاعة بها يفعل ما اختار فعله".
تسميتهم بالقدرية:
سميت هذه الفرقة بالقدرية لأنهم نفاة للقدر واعترض القدريون على هذه التسمية وقالوا: ان الذين يثبتون القدر أولى منا بهذه التسمية فنحن ننفيه فكيف يلحقنا اسمه ولا يلحقهم؟ وقد أجيب عن ذلك انه لا مانع من ان ينسبوا إلى ضد ما يقولون كما تسمى الأشياء باضدادها، وفي ذلك يقول النووي (6): "هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهته وتواقح فان أهل الحق يفوضون آمرهم إلى الله سبحانه وتعالى ويضيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده".
وقد يكون هذا الاسم لحقهم نتيجة وصف مخاليفهم لهم لينطبق عليهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القدرية مجوس هذه الأمة" (7)، ولهذا تنفر القدرية من هذا الاسم حتى لا يلحقها تبعات ذلك.
يقول الشهرستاني (8): "وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركاً وقالوا لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى احترازاً عن وصمة اللقب إذ كان الذم به متفقاً عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: القدرية مجوس هذه الأمة".
نشأة القدرية:
لم تكن مسألة القدر جديدة على الفكر العربي الإسلامي وعلى حياة المسلمين فقد عرف العرب قبل الإسلام مسألة القدر وأثاروا حولها التساؤلات والشكوك، ولا صحة لما قاله أبو زهرة (9): "ان الفكرة دخيلة على الإسلام راجت بين المسلمين من عنصر أجنبي دعا إليها باسم الإسلام وهو يضمر غيره"، لأن مشركي قريش عرفوا القدر وسألوا عنه فقد قال الله على لسانهم:سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا سورة الانعام، اية/148، والنص القرآني يوضح لنا ان مشركي قريش عزوا الإشراك بالله وعدم الإيمان به إلى قدرهم، وجاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة قال: "جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَر، إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ سورة القمر، آية/48 ـ49 (10)، والحديث يدل دلالة واضحة لا لبس فيها ان مشركي قريش قالوا بالقدر وخاصموا فيه.
آمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المسلمين بضرورة الأيمان بالقدر خيره وشره كما ورد ذلك في الحديث الذي ساتناوله لاحقاً، وحثهم على عدم الخوض فيه لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام لذلك ظلت مسألة القدر على حالها طيلة عصر النبوة وهو الأيمان المطلق بالقدر خيره وشره، وفي عصر الخلافة الراشدة تطورت مسألة القدر نوعما وانتقلت عند البعض من مجرد تساؤلات إلى سلوك.
رويَ ان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتيَ بسارق فقال له: لِمَ سرقت؟ فقال: قضى الله عليَ، فأقام عليه الحد ثم ضربه أسواطاً فقيل له لم ذلك فقال أمير المؤمنين: القطع للسرقة والجلد لما كذب على الله تعالى (11).
وفي أوائل العصر الأموي تطورت مسألة القدر وأصبحت مذهباً واعتقاداً وذلك على يد معبد الجهني: وهو معبد بن عبد الله الجهني نزيل البصرة وأول من تكلم بالقدر في زمن الصحابة رضي الله عنهم، قتله الحجاج صبراً لخروجه مع ابن الأشعث وقيل ان عبد الملك بن مروان قتله بدمشق سنة ثمانين للهجرة، ابن كثير، البداية والنهاية، 9/34؛ الذهبي، أعلام النبلاء، 4/185.
وكان معبد قد أخذ مذهبه في القدر من رجل نصراني بالعراق اسمه سوسن (12)، وبدأ معبد الجهني يدعو إلى مذهبه في البصرة والعراق حتى اصبح معروفاً بين الناس وفي ذلك قال الحسن البصري: إياكم ومعبداً فأنه ضال مضل (13).
وقال طاووس: أحذروا قول معبد فانه كان قدرياً (14).
وكان معبد الجهني في بداية آمره يجالس الحسن البصري، فتأثر به واصل بن عطاء رأس الاعتزال وعند ذلك قفز المذهب القدري قفزة نوعية عندما تبنت المعتزلة القول بالقدر وقامت فلسفتهم على نفي القدر (15).
وأخذ عن معبد الجهني أيضاً غيلان الدمشقي (16)، الذي اخذ يدعو لمذهبه في الشام ثم انتهت حياته نتيجة لمناظرة جرت بينه وبين الأوزاعي (17) قتله على أثرها الخليفة هشام بن عبد الملك (18).
ثم قالت القدرية ان الخير من الله والشر من غيره وفي ذلك يقول النووي(19): "إنما جعلهم مجوساً لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس ففي قولهم بالأصلين النور والظلمة يزعمون ان الخير من فعل النور والشر من فعل الظلمة فصاروا ثنوية وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله والشر إلى غيره والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعاً لا يكون منهما الا بمشيئته فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقاً وايجاداً وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتساباً والله اعلم".
ومن الأحاديث الواردة في ذم القدرية:
وردت أحاديث كثيرة في ذم القدرية ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
1ـ روى مسلم (20):
" حدثنا حماد بن زيد عن مطر الوراق عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: لما تكلم معبد بما تكلم به في شأن القدر أنكرنا ذلك قال فحججت أنا وحميد ابن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبد الله بن عمر ابن الخطاب داخلاً المسجد فاكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت ان صاحبي يكل الكلام إليَ فقلت أبا عبد الرحمن أنه ظهر قِبلنا ناس يقرأون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وانهم يزعمون ان لا قدر وان الأمر اُنف قال: فإذا لقيت أولئك فاخبرهم اني بريء منهم وانهم براء مني والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو ان لأحدهم مثل احد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال: حدثني أبي عمر بن الخطاب قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه اثر السفر ولا يعرفه منا احد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت إليه سبيلا قال صدقت قال فعجبنا له يسأله ويصدقه قال فاخبرني عن الأيمان قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت قال فأخبرني عن الإحسان قال ان تعبد الله كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك قال فأخبرني عن الساعة قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل قال فأخبرني عن إماراتها قال ان تلد الآمة ربتها وان ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت ملياً ثم قال لي: يا عمر أتدرى من السائل؟ قلت الله ورسوله اعلم قال: فانه جبريل آتاكم يعلمكم دينكم".
2ـ روى أبو داود (21) عن ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القدرية مجوس هذه الأمة فان مرضوا فلا تعودوهم وان ماتوا فلا تشهدوهم".
3ـ روى أبو داود (22) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن منظور، لسان العرب، 11/55 ـ 56؛ الفيروزآبادي، القاموس المحيط، 2/118.
(2) ابن القيم، شفاء العليل، ص/ 130.
(3) شرح صحيح مسلم، 1/269.
(4) شفاء العليل، ص/28.
(5) الفصل في الملل، 3/22.
(6) شرح صحيح مسلم، 1/269.
(7) أبو داود، السنن، كتاب السنة، باب في القدر، ص/785، رقم الحديث/4679.
(8) الملل والنحل، 1/54.
(9) المذاهب الإسلامية، 1/132.
(10) مسلم، الصحيح، كتاب القدر، باب كل شيء بقدر، 4/2046، رقم الحديث/2656.
(11) أبو زهرة، المذاهب الإسلامية، 1/117.
(12) الذهبي، أعلام النبلاء، 4/185.
(13) المصدر نفسه .
(14) المصدر نفسه.
(15) الشهرستاني، الملل والنحل، 1/58.
(16) هو غيلان بن أبي غيلان المقتول في القدر، ضال مسكين وهو غيلان بن مسلم وكان من بلغاء الكتاب، الذهبي، ميزان الاعتدال، 3/327.
(17) هو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد شيخ الإسلام وعالم الشام أبو عمرو الأوزاعي، ولد سنة ثمان وثمانين وكان خيراً فاضلاً مأموناً ثقةً توفيَ سنة سبع وخمسين ومائة وهو أول من دون العلم بالشام، الذهبي، أعلام النبلاء، 7/107.
(18) ابن حجر، لسان الميزان، 4/424.
(19) شرح صحيح مسلم، 1/270.
(20) الصحيح، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام، 1/38، رقم الحديث/8.
(21) السنن، كتاب السنة، باب في القدر، ص/785، رقم الحديث/4679.
(22) السنن، كتاب السنة، باب في ذراري المشركين، ص/789، رقم الحديث/4698.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. غزة.. الجيش الإسرائيلي يدعو السكان لإخلاء شرق رفح فورا


.. إسرائيل وحماس تتمسكان بموقفيهما ولا تقدم في محادثات التهدئة




.. مقتل 16 فلسطينيا من عائلتين بغارات إسرائيلية على رفح


.. غزة: تطور لافت في الموقف الأمريكي وتلويح إسرائيلي بدخول وشيك




.. الرئيس الصيني يقوم بزيارة دولة إلى فرنسا.. ما برنامج الزيارة