الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


روشتة علاج لأمراض العقل العربى- الحلقة الثانية

خالد منتصر

2004 / 12 / 30
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


[ تعامل المفكر الفيلسوف الكبير د.زكى نجيب محمود مع أمراض الفكر العربى كما يتعامل الطبيب الجراح مع الأورام الخبيثة التى تنمو على حساب الجسد وتستنزف صحته ،فالإستئصال فى أغلب الأحيان يكون علاجاً مهما كانت فداحة الثمن على قلوب وعقول من ألفوا وتعودوا على تلك البديهيات ،فصدمتهم هى علاج لكى يفيقوا من الخدر اللذيذ ،والتراث أحياناً يكون مخدراً، وأحياناً أخرى محفزاً ،فماذا نختار منه وكيف نتعامل معه ؟ ،هذا هو أخطر الأسئلة التى طرحها د.زكى نجيب فى روشتته العلاجية .
[ يعنى فيلسوفنا الراحل بدقة الألفاظ ومدى تحديدها القاطع ،ويقول أن كلمات مثل الثقافة والتراث وغيرها لوطرحت خالية من التفصيلات والعناصر أى مجردة ستقود الإنسان إلى ضيق أفق وتعصب أعمى ونظر محدود ،وضرب مثلاً بالفن الذى عندما نطرحه كفكرة مجردة قد لاتجد إنساناً يعارضك ،ولكن عندما تحشو هذا التجريد بتفاصيل كأن تقول الفن التكعيبى مثلاً فهنا ينقص عدد الموافقين ،ولو حددت أكثر تفاصيل داخل هذا الفن سينفض عنك عدد أكثر وهكذا ،وهكذا فى التعامل مع التراث فعندما تطرحه كفكرة مجردة قد يقول لك الكثيرون فلنلقه فى البحر أو فى النار ،ولكن عندما تذكر تفاصيلاً ستجد عدد المعارضين فى تناقص ،ومن هذا المنطلق يطرح د.زكى نجيب سؤالاً مفصلياً هاماً وهو متى يعيش الإنسان العربى ثقافته ولايتلفظ بها فقط ؟ ومتى يكون لها كيان مستقل ؟ وكيف نجعلها سارية فى عقولنا ووجداننا سريان الزيت فى الزيتونة ؟!.
[ الثقافة فى رأى مفكرنا الكبير ممارسة وليست تنظيراً،فنحن نعيش ثقافتنا فى كل تفصيلات حياتنا مثل الميلاد والموت والزواج وطريقة إكرام الضيف ...الخ ،يحدث ذلك حين تكون الثقافة منسابة فى عروق الناس مع دمائهم ،فتصبح حياتهم هى ثقافتهم وثقافتهم هى حياتهم ،هنا تستحق إسم ثقافة ولاتستحقها حين تنسلخ عن الحياة ليضطلع بها محترفون يطلقون على أنفسهم إسم مثقفين ،ولايحدث هذا الإنسلاخ إلا حين تكون الثقافة وافدة إلى الناس من الخارج لامنبثقة من نفوسهم ،وعندنا أهل اليونان القدامى أكبر مثل على ذلك فثقافتهم كانت حياتهم بالفعل ،وتحدث المشكلات حين تحدث الفجوة وتتسع بين الثقافة الجارية من جهة ومواقف جديدة من جهة أخرى تتطلبها حياة جديدة لم يألفها القوم ،وضرب مثالاً على ذلك بفكرة الحرية فالفرد عندنا فى تراثنا إما يكون حراً أو عبداً ،ولكن الآن الحاصل أن هناك مواطنين أحرار يتسع أمامهم معنى الحرية ليشمل الجوانب السياسية وطريقة الإنتخابات ...الخ ،وهذه المعانى للحرية غير موجودة فى تراثنا فعلى طول التاريخ العربى القديم ندر أن زالت حكومة لأن الشعب المحكوم لم يعد يريدها ،ولاتزحزح إلا بغدر أو قتل أو سجن أو تآمر ،فلا الشعب إختار ولاهو يملك حق العزل .
[ كما أن الحرية السياسية غير موجودة فى تراثنا العربى ،فالحرية الإجتماعية هى أيضاً غائبة ،وتفرعت من مشكلة الحرية مشكلات أخطر وأعمق مثل مشكلة المرأة ،فالمرأة العربية الجديدة إنسانة أخرى غير إمرأة الأمس ،ومع ذلك فقد وجدت نفسها فى مجالات العرف والتقليد والتشريع حبيسة أوضاع وضعت لسالفاتها من بنات الحريم والجوارى ،فهل يعقل أن يقال لعالمة الفيزياء والوزيرة والمحامية والطبيبة .....الخ ماكان يقال لسالفتها من قوامة الرجل والمثنى والثلاث والرباع .....الخ ،وتظل المرأة بذلك بين قطبين نقيضين الأول تقاليد تضعها موضعاً لم يعد يصلح لها ،والثانى مشاركة فى فى نشاط العصر وثقافته ،فأين عساها تجد منافذ الخلاص ؟.
[ من أكبر المشكلات فى حياتنا الفكرية والتى لاتقل عن مشكلة الحرية خطورة هى مشكلة الدخول فى عصر العلم والصناعة ،فمايستحق كلمة معرفة الآن يختلف تماماً عن الماضى ،فالمعرفة الآن هى أجهزة بالغة الدقة لقياس الإنتقال والسرعة وضبط الإتجاهات والصوت والضوء وتحريك الصواريخ ....الخ ،بإختصار إنتقل إنسان هذا العصر من معرفة اللفظ لمعرفة الأداء ،وعبقرية العرب كانت دائماً فى لسانها ،ولم تكن اللغة العربية مجرد أداة للثقافة ولكنها كانت الثقافة نفسها ،فأنت مثقف عربى عظيم إذا اجدت الإلمام بمفردات اللغة ومترادفاتها ونحوها وصرفها ،فإذا جاء علينا عصر يتعامل مع أجهزة وأنابيب ومعامل ومصانع أسقط فى أيدينا لأن بضاعتنا هى نحو وصرف ومترادفات ،وهى جميعاً لاتقدر على ضبط إبرة فى جهاز ،ومشكلتنا الآن هى كيف نتحول من ثقافة اللفظ إلى ثقافة العلم والتقنية والصناعة ؟ ،ويصبح سؤالنا الأساسى الذى لابد من تكراره هو أى الأفكار التى يريدوننا أن نبتعثها من تراث الأسلاف ،يمكن أن نعلق به الرجاء ؟،وهل صحيح أننا واجدون فى أفكار أسلافنا بالأمس مايمكن أن ينير لنا الطريق ؟ ،لقد كانت أفكارهم وليدة مشكلاتهم ،فهل تكون مشكلاتنا هى نفسها مشكلاتهم ،بحيث نهتدى بحكمهتم فى إقتراح الحلول ؟ .
[ يجيبنا الغزالى على هذا السؤال فى كتابه أصناف الطالبين بعبارة يقول د.زكى نجيب أنه يود لهذه العبارة أن تتحول إلى أجراس تقرع فى آذاننا حتى يصحو النائم ويتنبه الغافل ،والعبارة تقول " لامطمع فى الرجوع إلى التقليد بعد مفارقته " ،وهذا هو الفيصل لانستطيع أن نحل مشكلاتنا الحالية بمجرد فتح كتب التراث .
[ يحلل د.زكى نجيب أزمة الكاتب والمفكر العربى المعاصر بأنه واقع بين نارين لايدرى كيف ينجو بنفسه منهما ،فهو إذا مانظر إلى أمام وجد ثقافة تعصف عليه بأعاصيرها من الغرب بكل ماتحمله من علوم وفنون ونظم سياسية ،فيحس وكأنه الغريب المتسول ،فإن أخذته الكبرياء الرافضة وأشاح بوجهه ولوى عنقه إلى الوراء ليفتح خزانات آبائه ،راجياً أن يجد فيها مراده ،حتى يستولى عليه القلق ،لأنه إنما فتح تلك الخزانات وبين يديه مشكلات يعانيها ويريد لها الحلول ،ولم يفتحها ليجعل من رفوفها متاحف يملأ بمرأى نفائسها المعروضة ناظريه ،ويستعير مفكرنا الفيلسوف عبارة بليغة ذات دلالة لأبى حيان التوحيدى من كتاب الإشارات الإلهية يقول فيها " أما حالى فسيئة كيفما قلبتها ،لأن الدنيا لم تؤاتنى لأكون من الخائضين فيها ،والآخرة لم تغلب على فأكون من العاملين لها ...،فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم ،كأننا حمر أو نعم (أنعام) ؟،إلى متى نقول بأفواهنا ماليس فى قلوبنا ؟،إلى متى ندعى الصدق والكذب شعارنا ودثارنا ؟،إلى متى نستظل بشجرة تقلص عنا ظلها ؟،إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها ؟" ،ويقول د. زكى نجيب أن مايقوله التوحيدى مازال ينطبق على عصرنا خاصة حين وصف علماء عصره فقال علمهم لفظ وروايتهم حفظ ،ويستكمل مفكرنا ويأخذ الخيط من التوحيدى فيصف ثقافتنا وكثيراً من مفكرينا بالفصام ،أوهامهم فى ناحية ووقائع دنياهم فى ناحية أخرى .
[ يرد علينا المعارضون لهذه الأفكار التى عرضناها بقولهم لنا " الحل هو أن نتمسك بمبادئنا " ،ولكن هل تكفى كلمة مبادئ لحل مشكلاتنا المستعصية ؟،وهل هذه الكلمة واضحة المعنى فى عقولنا إلى هذا الحد ؟،هذا هو موضوع حلقتنا القادمة بإذن الله .
[email protected]








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. التحالف الوطني يشارك الأقباط احتفالاتهم بعيد القيامة في كنائ


.. المسيحيون الأرثوذوكس يحيون عيد الفصح وسط احتفالات طغت عليها




.. فتوى تثير الجدل حول استخدام بصمة المتوفى لفتح هاتفه النقال


.. المسيحيون الأرثوذكس يحتفلون بعيد الفصح في غزة




.. العراق.. احتفال العائلات المسيحية بعيد القيامة وحنين لعودة ا