الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


رياح التغيير

نارت اسماعيل

2012 / 1 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول جدوى الثورات العربية وخاصة بسبب وصول التيارات الإسلامية للسلطة بعد زوال الأنظمة القمعية. كيفما قلّبت الأمر فإنني دائمآ ما أصل إلى نفس النتيجة وهي أن الوضع سيكون للأفضل على المدى البعيد، حتى مع وصول الإسلاميين للحكم.
برأيي لو زالت الأنظمة القمعية، وتركت المجتمعات العربية تخضع للتطور التاريخي الطبيعي، فإنها ستتجه تدريجيآ للنهوض والتقدم، وسترمي شيئآ فشيئآ بأحمالها القديمة المهترئة بما في ذلك حمولتها من الدين والغيبيات المعيقة لتطور المجتمع، وأنا هنا لا أتحدث عن بضعة سنوات بل عن 20-30 سنة.
الدور الذي لعبه الحكام الفاسدون هو أنهم كانوا يشكلون حجرعثرة في المسار الطبيعي الحتمي لمجتمعاتهم، فمثلما استولوا على كل مقدرات البلد، فإنهم أيضآ حرفوا المسار التاريخي والنمو الطبيعي للمجتمع. الفترة التي حكموا فيها البلاد كانت زمنآ ضائعآ وكأنهم أوقفوا الزمن، بل بالعكس فإنهم بإفسادهم لضمائر الناس وأفسادهم لمؤسسات البلد، أعادوا البلاد سنين للوراء، والآن وبعد زوال حكمهم، عاد المجتمع إلى السكة التي كان قد خرج عنها لكي يستأنف المسير متأخرآ اشواطآ كثيرة عن الدول المتقدمة.
ومع كل ذلك فالمستقبل واعد برأيي، المجتمعات الغربية الحديثة كانت أسوأ حالآ من حالنا في العصور الوسطى ومع ذلك استطاعت النهوض، ونحنا لسنا أقل منهم، وأنا أمتعض كثيرآ من كل إنسان يقول أن مجتمعاتنا غير قابلة للاصلاح، وأن الخلل موجود في ال DNA وما إلى ذلك من التعابير العنصرية غير الأخلاقية والتي لا تستند إلى أي أساس علمي.
من جهة أخرى فإن التيارات الإسلامية راجعت هي الأخرى مناهجها وسياساتها بسبب الظروف المستجدة وخاصة بسبب انتقال هذه الجماعات من النشاط السرّي إلى النشاط العلني، فهذا الأمر وضعها بموضع المسؤولية وصارت لأول مرة جزءآ من الحياة السياسية في بعض الدول العربية، بل حتى وصلت للسلطة.
عندما كان الإسلام السياسي يمارس نشاطه بشكل سرّي فإنه لم يكن بوضع المسؤولية وكان يلجأ للعنف وللوسائل المتطرفة والتحريض الديني للوصول للسلطة، بينما خروج هذه التنظيمات للعلن ووصولها للسلطة جعلها في بقعة الضوء وجعل أنظار مجتمعاتها وكذلك أنظار العالم كله مسلطة عليها. صار لزامآ عليها أن تضع سياسات واقعية قابلة للنجاح، قادرة على النهوض بالمجتمع، وصار لزامآ عليها أن تثبت مصداقيتها أمام العالم، كما أن هذه التنظيمات تعرف أن من صنع الثورات هم أناس عاديون لا ينتمون إلى تنظيم محدّد وليس هم الإسلاميون، لذلك صارت مضطرة لتغيير مناهجها لتتوافق مع الواقع الجديد، أي مع قوة الجماهير التي صارت مسلحة بوسائل عصرية وصارت قادرة على إيصال صوتها إلى آخر بقعة في الكرة الأرضية، فهي تدرك أن الجماهير التي استطاعت الإطاحة بأعتى النظم الاستبدادية الأمنية، تستطيع أيضآ الإطاحة بأي استبداد آخر.
سبب آخر جعل هذه التنظيمات الإسلامية تراجع مناهجها هو فشل نماذج إسلامية سابقة مثل السودان وطالبان وإيران.
صرنا نرى كيف أن هذه الأحزاب لم تعد تعترض على ترشح المرأة لرئاسة البلد، وفي تونس فإن حزب النهضة الإسلامي لم يعد يدعو لتغيير المادة في الدستور التي تمنع تعدد الزوجات، هذه الأحزاب صارت تقبل الالتزام بقواعد الديموقراطية والانتخابات واللجوء لصوت الشعب، كل هذه المسائل كانت وإلى وقت قريب بدعآ من بدع الغرب الكافر، وكل بدعة في النار حسب تعاليمهم.
حتى تنظيم القبيسيات في سوريا وصلت إليه رياح التغيير العاتية، تلك الجماعة الكئيبة الغارقة في بحر من الظلمات والتي كانت عضواتها متمحورات حول "الآنسة" وهو اللقب الذي يطلق على رئيسة التنظيم، فقد رأينا منذ مدة قصيرة انشقاق مجموعة من السيدات القبيسيات وصرحن بأن أسباب ذلك الانشقاق تعود إلى الفكر السلبي عند الجماعة، وتخاذلها، وعدم وقوفها مع الثورة ضد الظلم، واعتبار الثورة فتنة والتشكيك باعتبار من قتلهم النظام بمرتبة شهداء، والمغالاة بإعتقادات صوفية والإيمان بالخرافات، وكذلك التبعية المطلقة ل"الآنسة" واعتبار تعليماتها غير قابلة للنقاش، وأخيرآ تكريس فكر القطيع.

الإسلاميون وبعد وصولهم للسلطة فإنهم سيصطدمون إن عاجلآ أو آجلآ بصعوبات هائلة في إدارة شؤون البلاد، فالتحديات كبيرة والتركة ثقيلة بينما جعبتهم شبه فارغة من الحلول والوسائل العملية الناجحة، سيفشلون ببناء دولة حديثة وسيفقدون قيمتهم الرمزية عند الجماهير التي أوصلتهم للحكم، سيكون عليهم عندها تقديم تنازلات هائلة في برامجهم تصل إلى الصميم، تمامآ كما فعل "حسن المخلّص" الحفيد الرابع ل"حسن الصباح" مؤسس تنظيم الحشاشين المشؤوم في قلعة ألموت في آسيا الوسطى قبل حوالي ألف سنة، هذا المخلّص وبعد أن زاد التململ بين أتباعه، جمعهم في يوم من الأيام و((أعلن أن الله قد رضي عنهم وأنه أسقط عنهم التزاماتهم الدينية، وأن ما كان محرّما صار محللآ، وأن الخمرة التي هي شراب أهل الجنة صارت حلالآ، هذه الفرقة الإسماعيلية صارت فيما بعد طائفة يضرب فيها المثل بتسامحها الديني)) مقتبس من رواية سمرقند لأمين معلوف.
كل ما سبق لا يعني أن على الليبراليين والعلمانيين التخاذل عن أداء دورهم وواجبهم وانتظار "حسن مخلّص" جديد قد يأتي وقد لا يأتي، أو أن يقدموا تنازلات للتيار الإسلامي، ولكن المقصود أن الصراع في المستقبل يجب أن يكون مختلفآ، ووسائله مختلفة، فالمنافسة بين الإسلاميين والعلمانيين يجب أن تكون منافسة حضارية فكرية سلمية ديموقراطية وليس مواجهة اقصائية عنيفة مشبعة بالحقد والازدراء والسخرية.
على هذه الأحزاب العلمانية الاصرار على إنشاء محطات فضائية علمانية، تقدم مواد إعلامية وثقافية وفنية راقية، بعيدة عن الهياج والصراخ والتحريض السوقي المبتذل، وكذلك بناء مدارس خاصة علمانية لا تدرّس مادة الدين، وتكون هذه المدارس متطورة حديثة ذات مناهج تعليمية فعّالة لتكون منارة يتطلع إليها الناس ويتسابقون لتسجيل أولادهم فيها، عليهم الإصرار على إنشاء دور نشرهم وطباعة كتبهم بحرية، عليهم عدم التخاذل عن حقهم بإيصال أفكارهم وممارسة دورهم الفكري التثقيفي.
أعتقد أنه من الأفضل أن لا تتحالف الأحزاب الليبرالية والعلمانية مع الأحزاب الإسلامية في هذا الوقت، بل الأفضل تركهم يمارسون الحكم لوحدهم في المرحلة التالية لسقوط الأنظمة القمعية وذلك لكي نرى هذا الإسلام الذي يروجون له، والذي يدّعون أنه صالح لكل زمان ومكان!! وإدعائهم أن المشكلة ليست في الإسلام وإنما في التفسيرّ!! إن ذلك يشبه إدعاءهم أن حبة البركة والحجامة تشفي كل الأمراض، وأن الكحل الذي فيه مادة الرصاص السامة يشفي كل أمراض العيون!
نريد أن نرى كيف سيحكمون بلدآ متعدد الأعراق والمذاهب في القرن الواحد والعشرين ، وفي عصر العولمة والفيسبوك والفضائيات.
وأخيرآ فإن رياح الليبرالية سوف تصل إن آجلآ أو عاجلآ إلى السعودية، وستقتلع تلك النبتة الوهابية السرطانية والتي هي أصل الشرور، ربما عندها سوف يتحدث الناس عن الإسلام باعتباره أطلالآ وذكرى، ستجد الشابات والشباب ممسكين بأيدي بعضهم البعض يدخلون إلى المساجد القديمة الكبيرة ويتجولون فيها وهم مبهورين بحجارتها وفسيفسائها، ثم ليسارعوا بالخروج منها عندما يرفع الأذان.
باختصار الإسلام الجهادي يشارف على الاحتضار، ليحل محله إسلام مرتبك يقضم أظافره ويتلفت هنا وهناك قبل السقوط النهائي بالضربة الحضارية القاضية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حماية مكتسبات الثورة واجب
ميس اومازيغ ( 2012 / 1 / 10 - 19:14 )
تقبل تحياتي يا رجل/ انها قرائة صائبة وانني اتفق معك على طول الخط في شان ما اوردته من ترك الأسلاميين ان فازوا ان يدبروا شؤون الشعب ولا يتحالف معهم العلمانيون الذين افظل ان اسميهم الواقعيين مقابل الخرافيين الدينيين وذلك ليسهل على المواطنين الحكم عليهم دون امكانهم التهرب باشراك هؤلاء الواقعيين في ما سوف يمنون به من فشل.
انهم لا يتقنون الا الصياح بلداء صغار العقول.
يعتقدون ان اعتمادهم على ما يعتبرونه اخلاقا هو الحل بينما الجائع لا يعرف خطوطا حمراء ان شباب الثورات الذين اطاحوا بانظمة مستبدة قادرون على النيل من الخرافيين الدينيين متى اتظح لهم انهم نصابة ومحتالين.
تقبل تحياتي


2 - السيد/ة ميس أومازيغ
نارت اسماعيل ( 2012 / 1 / 11 - 02:08 )
شكرآ لتعليقك وتأييدك لفكرة المقال، تحياتي لك


3 - رائع
محمد شرف الدين ( 2012 / 1 / 11 - 03:09 )
مقال رائع وأتفق معه تماماً
الإسلاميون أماهم طريقين لا ثالث له
إما أخذ بلادهم للتطور والتقدم وفي هذه الحالة عليهم إلقاء أقدس مقدساتهم في أقرب سلة مهملات وتكون لهم ممارسة أقرب- أو تكاد تكون - ليبرالية ذات طبيعة علمانية مثلما فعل أردوغان.
أو التمسك بخرافاتهم المقدسة وتطبيقها حرفياً فيحصلون على نفس النتيجة التي وصل إليها من قبلهم طالبان وحماس وفي أحسن الأحوال السودان.


4 - السيد محمد شرف الدين
نارت اسماعيل ( 2012 / 1 / 11 - 06:00 )
شكرآ على تعليقك، برأيي أردوغان وصل إلى الحكم في بلد كان ذا أساس متطور ومستقر نسبيآ بفضل حكومات علمانية متلاحقة منذ اصلاحات أتاتورك وكل ما يفعله أردوغان هو الاستمرار بالبلد كما هو مع تغييرات طفيفة جدآ لا تمس الأساس الذي يقوم عليه البلد، أما في بلادنا فإن الأنظمة الإسلامية القادمة سوف تستلم الحكم في بلاد مهدمة ومتأخرة وستكون مهمتها صعبة وبالتالي ستفشل أو تضطر لتقديم تنازلات كبيرة في برامجها
لا أعتقد أن أنظمة دينية أصولية على طراز طالبان سيسمح لها بالظهور والتعشيش في بلادنا
تحياتي لك


5 - شكرا على المقال
ناديه احمد ( 2012 / 1 / 11 - 13:06 )
تحليل رائع واعتقد ان التقدم المتسارع فى التكنولوجيا سوف يضطرهم الى التغيير .قرأت فى احدى كتب الاستاذ يحيى حقى وكان يصف كيف انه كان يتم تهريب اسطوانات الجرامافون الى السعوديه داخل اثواب القماش ـ خوفا من الحركه الوهابيه الناشئه ـ وكيف كانوا يقصون حرف الاسطوانه لتتناسب مع حجم الاثواب , وانه استمع الى اسطوانه فيروز وهو مختبىء تحت السرير والشبابيك موصده . واليوم ليس امامهم سوى التغيير والا سوف تقتلعهم الرياح التى لايمكن مواكبه سرعتها


6 - السيدة نادية أحمد
نارت اسماعيل ( 2012 / 1 / 11 - 18:16 )
شكرآ سيدتي على تعليقك وإضافتك
أنا أعتقد أن الإسلاميين سيحصلون على فرصتهم الأخيرة والزمن تغير ولن يستطيعوا خداع الناس وبيع الأوهام بعد الآن، فإما أن يبنوا بلدآ ناجحآ أو ينسحبوا أو يتبدلوا تبدلآ جذريآ
تحياتي لك


7 - دعهم يحكمون فوراً
نبيل السوري ( 2012 / 1 / 12 - 06:00 )
البلاد التي دمرها الطغيان بحاجة لأحمق غبي أو متهور للغاية كي يتنطح للحكم الفوري وإزالة آثار العدوان لأنه سيفشل بسبب حجم الدمار الذي سيعالجه، ولأن الشعوب لاتملك ذرة صبر
وهاتان الصفتان لا يملكهما إلا الإسلاميون الذين سيفشلون وتظهر عورتهم بسرعة ويظهر هزل وغباء نظرية الإسلام هو الحل
في حين إن فشل العلمانيون، أو الواقعيون بحسب أمازيغ فستكون فضيحتهم بجلاجل
وأؤيد تماماً ميس أمازيغ أنه على العلمانيين-الواقعيين ألا ينجروا لمكاسب بسيطة وسريعة ويتحالف ضعاف النفوس منهم مع الإسلاميين، فهكذا تحالف سيطيل المعاناة ويلقي بجزء من المسؤولية عليهم، وبمعرفتنا بحربائية الإسلاميين (التي لم ولن تصل لحربائية الطغاة كالأسد مثلاً) فإنهم سيلقون بكل أالفشل على شركائهم العلمانو-واقعيين
لذلك دعهم يحكمون ويحلوا عنا رغم أن مثل هذا الطرح سيؤجل تحررنا من الماضوية لكن ما باليد حيلة أمام الدمار الهائل الذي ألحقه الطغاة ببلادنا على كل الأصعدة وأهمها تشجيع الطغاة للفكر الإسلامي السلفي ليسوقواأنفسهم أمام الغرب، ولعمليات قتل مفبركة يخرجوا بعدها أبطالاً محاربين للإرهاب في حين هم أكبر الإرهابيين
تحية لهذا الحوار الجميل


8 - الأخ نبيل السوري
نارت اسماعيل ( 2012 / 1 / 12 - 17:35 )
أنا معك بأن الوضع سيكون صعبآ على أية حكومة تستلم إدارة البلد بعد زوال النظام، وهذا سيكون أصعب على حكومة إسلامية إذا لم تغير مناهجها بشكل جذري وبالتالي تصبح أحزاب إسلامية بالاسم
على العلمانيين أن يكونوا يقظين للأمر ويهيؤوا أنفسهم التهيئة الجيدة لممارسة المعارضة المسؤولة المحترمة استعدادآ لتولي الأمور في وقت لاحق
شكرآ لمداخلتك القيمة وتقبل تحياتي

اخر الافلام

.. مسيحيو السودان.. فصول من انتهاكات الحرب المنسية


.. الخلود بين الدين والعلم




.. شاهد: طائفة السامريين اليهودية تقيم شعائر عيد الفصح على جبل


.. الاحتجاجات الأميركية على حرب غزة تثير -انقسامات وتساؤلات- بي




.. - الطلاب يحاصرونني ويهددونني-..أميركية من أصول يهودية تتصل ب