الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محنة العقل في التوحيد / جزء 2

غالب محسن

2012 / 1 / 12
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 30


" وكان الآلهة يتنصتون لهذا الكلام وجلسوا ، يائسين،
وبدؤا يفكرون في ما ينتظرهم من عقاب تيامت و آبسو
ولكنهم تذكروا إيا الحكيم ، الخارق الذكاء والمهارة
إيا العليم بكل شئ وأستنجدوا به .... "
(من أسطورة الخليقة البابلية )

مجالس الآلهة ، برلمانات السماء

في ثقافة تعدد الأرباب كان لكل أله خصائص يتفوق فيها على أقرانه من الآلهة الأخرى لكن لم يكن بينهم من يتمتع بالقوة المطلقة ، وحده . فقد كان شمش ( عند البابليين وحورس عند قدماء المصريين ) أله للشمس وهو أله العدل (الذي أستلم منه حمورابي القوانين في مسلته الشهيرة )، وكان هناك آلهة للحرب ، للحكمة ، للحب ، للعطاء ، للعواصف ، للربيع ، للأمطار ، للحبوب وغيرها كثير فكان لكل شئ أو ظاهرة طبيعية تقريباً أله حتى يصل عددها لدى السومريين ما بين 4000 - 5000 أله (1) ويصل العدد عند الأغريق الى حوالي 180 أله . وحتى كبير الآلهة (رب الأرباب ) الذي كان يحضى بأحترام بقية الآلهة لم يكن هو الآخر كلي القدرة رغم تميزه . زيوس ملك الآلهة والسماء عند اليونانيين لم يكن سوى أله الرعد والبرق أدد في حضارة وادي الرافدين (بعل عند الكنعانيين والفينيقيين ) . وهكذا كان حال ملوك الآلهة المماثلة في أغلب الحضارات ، جوبتر (الرومانية) ، آمون (المصرية) ، أنليل (السومرية ) ومردوخ (البابلية) .

وكان الآلهة في صراعهم فيما بينهم أو عندما كانت تواجههم أزمات أو مصاعب لا يفلحون في التغلب عليها فرادا يلجأون بعضهم لبعض لحلها بمن فيهم كبيرهم وذلك في مجالس الآلهة . كان زيوس كبير الآلهة اليونانية يدعو مجلس الآلهة للأنعقاد في قصره الواقع في قمم جبال أولومبيوس للتداول بالأمور المصيرية .
أما في سومر فقد كان هناك ثلاث مستويات من مجالس الآلهة ، مجلس آلهة المصائر الكبرى ، وهو الأعلى ، ثم يليه مجمع الآلهة الخمسون العظام ثم أخيراً مجمع الآلهة الصغار . وكان لكل مجلس صلاحيات ومسؤوليات تتناسب مع مستواه (كأنها مجالس البرلمانات العصرية ) .

أن كل أسطورة خلق الأنسان البابلية أنما تتمحور تقريباً حول عقد أجتماعات ، دائمة ، لمجالس الآلهة ونقاشاتهم (ليس من غير مظاهرات وأحتجاجات صغار الآلهة ) قبل أن يتوصلوا الى قرار خلق الأنسان .

في ذلك الزمان لم تشن الحروب ، غالباً ، تحت شعارات دينية أو بأسم الآلهة ، على الرغم من أن تلك الحروب كانت تبتدأ عادة بأخذ موافقة الآلهة (من خلال العرّافين وكهنة المعابد) . وبالطبع فأن تلك الطقوس لم تكن تخلو من تواطئ رجال الدين والملوك أذا أصر الأخيرين على شن حروب أختلفت فيها الآراء .

كان الآلهة قريبون جداً من البشر ، في كل شئ حتى في الصفات ، ليس بالقوة والحكمة فحسب بل وفي الضعف أيضاً . لم تكن هناك حاجة لأنبياء ورسل رغم الحاجة للعرافين والمنجمين ، لم تكن هناك مطالييب وشروط تعجيزية للتعبد وأن كانت هناك الكثير من الطقوس البدائية . ومن هذا المنظور فأن تعدد الآلهة كان يعني في الجوهر غياب الدين بالمفهوم الذي تبناه موسى .

ربما كان هذا هو سر تسامح وأنسانية أولئك المفكرين وأحترامهم للفكر المختلف معهم زمن ثقافة تعدد الأرباب . لم يكن هناك ألهاً واحداً قادراً على كل شئ ، عالماً بكل شئ أو يدّعي بذلك وكأن الآلهة تكمل بعضها بعضاً ، كما الطبيعة ، لكن ليس مثل أله الموحدين !

لذلك لم يكن غريباً أن كان ، منذ ذلك الزمان ، للأثينين ديمقراطيتهم ( رغم نواقصها ) .

لذلك لم يكن غريباً أن كان للسومريين أول البرلمانات في ذلك الزمان والتي كانت تتماهى مع مجالس آلهتهم .

للمتأملين في بلد الأنبياء : لماذا تعلّم الأغريق " تقاليد الديمقراطية " من أربابهم ولم يتعلّمها العراقيون مع أن التجربة هي أقدم في بلاد الرافدين ؟

التوحيد خطوة الى الوراء

يعتبر العديد من المؤرخين ومن الباحثين في تاريخ الأديان ، من بينهم جان بوتيرو ، أن أكبر أنجاز قدمته الديانة اليهودية ، مقارنة بالديانات التي سبقتها ، هو التوحيد (2) . أنصار التوحيد يزيدون على ذلك ، أطنان من الحجج ، من بينها أن تعدد الآلهة ، كان خرافات و أساطير الأولين ، وكان دليل ضعف وعجز عقل الأنسان آنذاك ولم يساعد في تماسك المجتمع بل وأثار الأضطرابات والفتن (رغم أن الكعبة كانت تأوي ، قبل الأسلام ، العديد من الآلهة ، جنباً الى جنب ، دون أن يسبب ذلك في ضعف الحماسة الشعرية أو أزدهار التجارة) .

وأذا كان هذا الزعم بخصوص التوحيد صحيحاً من زاوية ما، درءاً للنقاش ، فأنه لا يكون كذلك من زاوية أخرى .

التوحيد ، أنتكاسة المرأة

فمن منظور أجتماعي قد كرَّسَ التوحيد ذكورية المجتمع وتفوقه ، بأعطاءه صفة القدسية . فالأله الواحد كان ( ومازال بأمتياز ) ذكراً ، بينما في مجتمع تعدد الآلهة كان هناك آلهات ومنهن من كان لهن تميزاً بين الآلهة الأخرى . أن الآلهة نَمّو كانت أم الوجود في أسطورة الخلق السومرية ، وهكذا كانت تيامت ، الآلهة الأم في أسطورة الخلق البابلية . أن معاينة اللغة التي كتبت بها الأساطير السومرية مثلاً لا تظهر " نفساً " ذكورياً ، واضحاً ، بل فيها روحاً هي للمساواة أقرب ( بلغة عصرنا ) . وهكذا كان لدى الرومان أثنا عشر أله كبار ، ستة منهم من الذكور وستة من الأناث . وهكذا كانت الآلهة عند الأغريق ، الأولمبيون الأثني عشر وهم كذلك نصفهم من الذكور والآخر من الأناث .

أن قصة خلق المرأة ، في الديانات التوحيدية ، من ضلع آدم ( أو من ضلع أعوج حسب حديث النبي محمد الذي أورده الأمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما) ، ومن ثم قصة خداعها له في الجنة ليتناول من الثمرة الممنوعة ، تُعَبِّر ببساطة مدهشة ، عن فكرة ذكورية المجتمع . لقد كانت هذه القصة المدخل الضروري والتلقائي للجواب على سؤال لماذا يجب على المرأة أن تخضع لسيادة الرجل . ففي الكتاب المقدس كان خضوع المرأة للرجل عقاباً لها ، قال الرب للمرأة " أكثر أتعاب حبلك ، بالوجع تلدين أولاداً ، والى رجلك يكون أشتياقك وهو يسود عليك " تكوين 17:3 .

أما القرآن فقد أضاف الى قصة الخلق مبررات أخرى لتثبيت تفوق الرجل ومن ثم سيادته على المرأة . فالكتاب صريح ، ببساطة متناهية ، في قوّامة الرجل على المرأة ، بل تجعل محولات المؤليين الجدد لأثبات غير ذلك أو للتخفيف على الأقل من شدة حريقها ، مجرد ضربات في الهواء (أنظر تأملات 21-25 مقدمة في نقد تأويل التأويل ) . ثم تأتي الأحاديث النبوية وشروح كبار الصحابة للتأكيد والتأييد . ففي الحديث النبوي أن المرأة ناقصة عقل ودين ( ورد في عدة مصادر ، من بينها الصحيحين ) وقد أعتبر الشيخ وجدي غنيم هذا الحديث معجزة (3 ) . ليس من الصعب بعد ذلك الأجابة عن سؤال لماذا لم يبعث الله أنبياء من بين النساء .

التوحيد ، أنتكاسة الثقافة والفكر

من منظور آخر ، ثقافي ، أستبدل التوحيد ذلك التنوع المبهج في التفكير ، الذي أمّنَهُ تعدد الآلهة ، وحصره في دائرة ضيقة عديمة الألوان . والأكثر من ذلك أطفأ كل شعلة فكر خارج تلك الدائرة وحكم على صاحبها بالأقصاء ليس على الأرض فحسب بل وفي السماء أيضاً . فليس هناك بعد التوحيد من حقيقة خارجه وما سواها سوى معصية وزندقة .

وفي المفهوم السياسي كان التوحيد يعني ، من حيث المعنى والمقصد والفعل والتجربة التأريخية ، بدايةً ، أقامة نظام الفكر السياسي الواحد . ورغم أن التطور أرغم بعض الموحديين للأنفتاح ، فأن الأسلام السياسي وحده من بقي " أصيلاً " للتوحيد بهذا المفهوم !

أن تحول الأنسان لعبادة أله واحد ، كليّ القدرة ، مطلق ولا شريك له ، كان بمثابة " نقلة ذكية " ، وربما كانت تطور طبيعي لمكانة رب الأرباب لكنها ، في النهاية ، وضعت قيوداً على العقل بعد أن كان حراً ، ومنذ ذلك الوقت والعقل في محنة .

أله التوحيد عند أهل الكتاب

الأمر الرئيسي في سَفَر الخروج (وهو ثاني أسفار موسى الخمسة في التوراة ) يتمحور حول تهديدات الرب لفرعون ومن ثم أنزال العقاب عليه الواحد تلو الآخر ( الأصحاح 3 وما تلاه ) . الغاية الأساسية كانت ، كما تدل حكمته ، ليس فقط أظهار قدرة الرب وجبروته في معاقبة فرعون (عندما لم يستجيب لطلبات موسى وهارون) بل وأيضاً " للتباهي " بقدراته أمام شعبه المختار . وألا لكان بأستطاعته أن يُعاقب بضربة واحدة مثلما فعل بقوم عاد وثمود وسدوم ، عقاب مباشر وصاعق . لكنه أراد أن يضرب عصفورين بحجر ، فمن جهة يقول الرب " ولكني أُقسي قلب فرعون وأكثر آياتي وعجائبي " خروج الأصحاح 3:7 وهكذا ، أبتدأ بعصاة موسى ، التي تفوق بها على سحرة فرعون ، ثم حول مياه النيل الى دم ، ثم أطلق الضفادع ، وأرسل البعوض والذباب والبرد والجراد والظلام وفتح البحر، والفيضانات ، والعواصف والأمراض ...الخ . وفي كل مرة يتم فيها هذا الأستعراض للقوة ، يعود الرب مع ذلك ، ليُذَكِّر موسى بعظمته " ثم كلّم الله موسى وقال له أنا الرب ، أني الأله القادر على كل شئ " خروج 6 . فهل
هناك من يشك بعد ذلك لماذا أقسى الرب قلب فرعون ؟

أما التوحيد المسيحي فعلى الرغم من أنه يستريح عند عتبات التوحيد العبراني ، حيث خاطب المسيح قومه هكذا " لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس بل لأكمل " متي 17:5 ألا أنه بدا أقل " تباهياً " مقارنة بأله العهد القديم . هكذا يبتدأ رابع أناجيل العهد الجديد " به كان وبغيره لم يكن شئ مما كان " يوحنا 3:1 . أما معجزات أبن مريم فقد كانت متواضعة مقارنة برب موسى ، " عند الناس غير مستطاع ولكن ليس عند الله ، لأن كل شئ مستطاع عند الله " مرقص 27:10 . وأكتفى أبن الأنسان بمواعظه الأخلاقية وأمثاله ووصاياه " أن أردت أن تدخل الحياة فأحفظ الوصايا " متي 19:18 . وتتردد في الصلاة " النموذجية " عند المؤمنيين المسيحيين كلمات الدعاء هذه " أبانا الذي في السماوات .... لأن لك المُلك والقوة والمجد الى الأبد " أنجيل متي 14:6.

تفرد الأسلام

ثم جاء الأسلام فقدم أسطع صورة على قدرة الله الكلية ، المطلقة ، بما لا يقبل الريبة والتأويل ، بالهتاف الساحر " الله أكبر " الذي يصلح ، حرفياً ، لكل المناسبات ، بدءاً من الصلوات والتسبيحات ، والحج والأعياد ، في الحرب و السلم وفي المظاهرات ، في المديح ، في الدعاء وفي التفجيرات ، في الوعيد وفي العتابات ، بل وفي غناء المقامات ، في التأييد وفي الأحتجاجات ، في كرة القدم وغيرها من السباقات ، في التعجب وفي الخوف ، في دفع الحسد والأزمات ، في الأحزان والأعراس والأعياد ... ببساطة لكل الأوقات .
ويأتي التوحيد والتوحد في القرآن بصورة بليغة ، ورائعة ، بل وشاعرية " هو ٱللَّهُ الذي لا أله ألا هو ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبِّر " الحشر 23 . ثم تتوالى بقية الصفات المطلقة ، فله وحده العلم والحكمة ،" قَالُواْ سُبْحَٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ العليم الحكيم " البقرة 32 ، وأعلموا أن الله بكل شئ عليم ... الخ.
ولله عند المسلمين 99 أسماً (4) تكررت في القرآن بنسب متفاوتة ، أكثرها شيوعاً أن الله " عليم " حيث تكررت ( البحث في القرأن من خلال الجذر ) 139 مرة ، رحيم 115، حكيم 97 وغفور 91 مرة . والأنسان الحكيم ، بمن فيهم لقمان ، لم يكن كذلك ألا بأذنه ، فهو " يؤتي الحكمة من يشاء " البقرة . وتعدد أسماء الله ليست مجرد مصادفة بل أن الغرض منها ، أستدلالاً من حكمته ، تأكيد عظمته بما لا يدع أي مجال للشك (كما أراد أله العبرانيين ) .

والأسلام يبقى متفرداً من بين كل الأديان ليس في أبراز قضية التوحيد فحسب بل وفي أعتبارها جوهر الأيمان . " لا أله ألا الله " تتوسط في كل ركن من أركان الدين الأسلامي ، في الصلاة والدعاء وفي الحج وفي الصيام ، وفي القيام والقعود ، في السفر ، (عند المصريين مثلاً تستخدم في التحية اليومية بين القريبين من أجل بركة وحماية أضافية من السماء ) ، وليس عجباً انها صارت شعاراً ورمزاً ليس في أعلام الدول والأحزاب الدينية فحسب بل وفي كل زاوية وشارع ومقهى وتاكسي .

مقارنة مثلاً باليهودية ، كانت الوصية الأولى من وصايا موسى العشرة تحث على التوحيد " لا يكن لك آلهة أخرى غيري " ، فأن القرآن فبالأضافة الى الحث والدعوات على التوحيد " قل هو الله أحد " ، فأنه ملئ بالوعيد والتهديد والعقاب على الشرك به " لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ ههُمُ الفاسقون " سورة النور ، هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ " الحشر . وهذا يشمل حتى أصحاب الكتاب " ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُوۤاْ إِلاَّ لِيَعْبُدُوۤاْ إِلَـٰهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَه " سورة التوبة ، و غيرها كثير بالطبع .

الصياغة العبرية ليّنة ، قد تحتمل التأويل السهل ، الأعتراف والأقرار بوجود " آلهة أخرى غيري " ، الصياغة الأسلامية قاطعة ، حازمة ، لا لبس فيها ، بلا تأويل و بلا أجتهاد " لا أله ألا الله " ، " أحد " و " لا شريك " .

أليس في هذا يكمن سبب أقصاء الآخر في ثقافة الديانات التوحيدية من خلال أصرارها على أنها وحدها تملك الحقيقة وما على الآخيرين سوى أتباعم . فالأله واحد أحد ، وكلي القدرة والأرادة والحكمة والعلم ، مطلق ، والطاعة مطلقة ، وليس هناك شئ آخر خارج هذا المفهوم .

هكذا أكتسب قادتنا السياسيون ثقافتهم من دياناتهم التوحيدية !

الأصلاح نصف خطوة

أن كل الديانات عموماً ، والتوحيدية بالخصوص بقدر ما يتعلق الأمر بموضوعنا ، قد عانت من هذه الأشكالية " الفكرية " وتعرضت ، بمبادرات ذاتية أم بالأكراه ، لحركات أصلاحية كان الغرض منها " ترقيع " ما مزقه التطور الأجتماعي والفكري لجلباب الفكر التوحيدي . أن أكثر المجابهات حدة تمت و تتم في جبهة الفكر الأسلامي لسببين رئيسيين ، كما هو مفهوم ، غياب الديمقراطية وقدسية النص وتاويلاته .
المسيحية الرسمية في الغرب أُجبِرَت الى حد ما ، بنيران النقد مرة ، وبضربات الحركات الأصلاحية تارة أخرى ، وتحت ضغط التطور الرأسمالي تارة ثالثة على قبول ثقافة تعدد " الأرباب " من خلال الأعتراف ، والتعايش مع الآخر الغير مسيحي . وفي مرحلة متاخرة من أقامة المجتمع الديمقراطي ، جُرّدت الكنيسة ، قاطرة التوحيد ، عملياً من سطوتها . كل ذلك وسواه أزاح عملياً مفهوم " التوحيدية " كثقافة وبقيت محصورة " كتراث " بين جدران الكنائس وفي المناسبات الفلكلورية (5) .

أما اليهودية فقد كان الأصلاح فيها أقل حظاً رغم النجاح الجزئي في نهايات القرن السابع عشر على يد مندلسون بن مناحم ، ومن ثم بفعل رياح الثورة الفرنسية ، ألا أن ذلك النجاح لم يدم طويلاً وسرعان ما أنتصرت أفكار القومية الصهيونية المتعصبة وبقيت " التوحيدية " الجزء الأهم في الثقافة اليهودية .

أما في الأسلام فلم تدم حركة الأصلاح الحديث هي الأخرى طويلاً . أن محاولات جمال الدين الأفغاني ، محمد عبدة وغيرهم رغم أهميتها التأريخية عبَّرت عن الحاجة للتغيير لكنها ضلّت ، كما أرى أسيرة الفكر التوحيدي من حيث الجوهر ، لكنها مع ذلك أثارت حماساً " نقدياً " في الفكر الأسلامي تأثر به العديد من المفكرين آنذك من بينهم ، قاسم أمين (كتاباته حول تحرير المرأة ) ، طه حسين (كتابه في الشعر الجاهلي) ، فرج فودة ( أُغتيل بسبب كتاباته النقدية الجريئة . وكان لأزهر قد شن حملة شرسة ضده بل وأصدر فتوى بوجوب قتله ) وغيرهم مما يصعب تصورها بمعزل عن تأثيرات هؤلاء المصلحيين .

ومن الجدير بالذكر هنا الأشارة الى أجتهادات الشيخ علي عبد الرازق (6) في مطلع القرن المنصرم ودعواته الصريحة لفصل الدين عن الدولة مما دفع الأزهر لشن حملة واسعة (مرة أخرى) ضده وتقديمه للمحاكمة وفصله من الأزهر ومن العمل ....الخ مما هو معروف في كيفية تعامل الفكر الأسلامي مع المختلف .

الدعوات الأصلاحية ، وأبطالها الشجعان ، ستضل تضرب بمطرقة التجديد والتطور وقتاً طويلاً ، قد لا نراه نحن ، قبل أن تتفتت أسوار تلك الدائرة الرمادية الضيقة وأن كُنتُ ألمحُ خيوطاً من الضياء تمر عبر ثقوبٍ صغيرة في تلك الأسوار .

د . غالب محسن

-----------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

1. أنظر كتاب خزعل الماجدي " متون سومر " ، الكتاب الأول ص 79
2 . أنظر كتابه ولادة أله ، التوراة والمؤرخ ، مع أن أول المحاولات التوحيدية تعود الى أيام الملك الفرعوني أخناتون عندما حاول توحيد كل الآلهة بالأله الأوحد آتون أي حوالي ألف عام قبل ظهور اليهودية .
http://www.youtube.com/watch?v=kyut86Mxc203.
4 . كان للأله مردوخ ، أكبر الآلهة البابلية 50 أسماً تعكس قوته وجبروته منها : مار- أوتو (أبن الشمس) ، ماروكا (الحق) ، ماراشاكوسو (المكين) ، شازو (العليم) ، زلوم (مقسم الأرزاق)
5. وأذا كنا نلمح عودة جزئية " لتلك " المكانة المفقودة للثقافة التوحيدية وربما بعض التطرف المسيحي أيضاً خصوصاً في أمريكا فأنه على ما أظن ردود أفعال وأحتجاجات على تناقضات ونواقص المجتمع من جهة ولا ننسى أيضاً أن التطرف الأسلامي قد حثَّ وساعد على هذا التوجه ( طبعاً هناك أسباب أُخرى ليست موضوعنا هنا لكنها في البال كموضوع لتأملات جديدة ) من جهة أخرى .
6 . أنظر كتابه الأسلام وأصول الحكم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - محنة العقل
فاضل حميد ( 2012 / 1 / 12 - 07:24 )
السيد غالب المحترم
ان عبارة (الله اكبر ) متداولة بين العرب وخاصة في موسم الحج الى الكعبة قبل الاسلام . واستمرت في الاسلام مستعملة في المجالات التي اشرتم اليها -وان كانت قبل الاسلام تعظم ( اله القمر ) المعبود من قبل العرب والمسمى (االله ) وزوجته ( الات ) الهة الشمس وشكرا -


2 - شكر للسيد فاضل
غالب محسن ( 2012 / 1 / 12 - 17:28 )
السيد فاضل المحترم
أشكر لك تعليقك سيدي الفاضل وأتفق معك تماماً . لقد أشرت في مقالات سابقة الى أن الكثير من الطقوس ، تحديداً ، والعبادات سواء أكانت فروض أم مستحبات كانت موجودة بالفعل قبل ظهور الدعوة الأسلامية وهذا لم يعد شيئاً جديداً وأن معظم المهتمين بتأريخ الديانات عموماً وبالأسلام خصوصاً ، بغض النظر عن مدارسهم الفكرية ، بما فيهم المسلمين ، يتفقون في ذلك لكنهم يختلفون في أسباب أستمرارها حتى بعد أنتصار الدعوة الأسلامية ، وهذا شئ مفهوم بالطبع . أحترامي


3 - الوحدانيه والتعدديه
نجيب هنداوي ( 2012 / 1 / 12 - 20:06 )
الاستاذ غالب لا ادري ان كانت المفاهيم المتعلقه بالتعدديه الربوبيه هل افرزت حقا واقعا يقترب من التعدديه السياسيه او ما نطلق عليه بلغتنا المعاصره الحكم الديمقراطي وتداول السلطه 0فمن خلال الحضاره اليونانيه والتي كان للارباب حظا وافرا شاهدنا صعود طغاة اشداء كالاسكندر وقيصر وكذا الحال في حضارة وادي الرافدين راينا نبوخذنصر ولوكال زاكيزي وكانوا عن جدارة طغاة لا يشق لهم غبار 0وبانسبه للحضاره الفرعونيه نعلم انها كانت ارضا خصبه للكثير من الالهه وللاسف لم ينعكس واقعا على حكامهم بل ان الكثير منهم مارس دور الرب والحاكم اي ان طغيانهم كان غير محدود وهذا يستعي التريث في تعميم النتائج والبحث عن اسباب اخرى ربما كانت اقرب للواقع 0ان الانانيه وحب السيطره على الاخرين والجشع والتي كانت في يوم من الايام صفات مهمه للحفاظ على النوع والجنس اقول ربما كان لها الاثر في استمرار الانسان باجترار هذه الصفات وتغليبها على الكثير من الصفات الاخرى والتي تكونت له بفعل التطور0


4 - هي دعوة للتأمل
غالب محسن ( 2012 / 1 / 13 - 00:02 )
السيد الكريم نجيب هنداوي
بالطبع لا يمكن تبسيط الأمر بهذه الصورة وهناك بالتأكيد ، كما تفضلت أنت ، أسباب كثيرة أخرى ، لكنها ليست موضوعنا هنا في هذه التأملات . ومن جهة أخرى يجب أن لا ننسى أننا نتحدث عن مجتمعات بدائية ، أي منذ أكثر من خمسة آلاف سنة ، مجتمعات العبودية وهذا بحد ذاته يتنافى مع مفاهيم الديمقراطية والتعددية السياسية بمعناها المعاصر . أن من بين الأفكار الأولية في هذه المقالة هي الدعوة للتأمل في مدى تأثير - الدين - في بناء وبلورة ثقافة المجتمع بما فيها الموقف من المرأة وكذلك الرأي المختلف والتسامح والنظام السيا-أجتماعي، الدين هنا غير منفصل عن الدولة ) . وبهذا المعنى يصعب الزعم من أن التوحيد أسهم في دعم فكرة التعددية . شكراً على تعليقك ولك أحترامي .

اخر الافلام

.. الـLBCI ترافقكم في قداس أحد الشعانين لدى المسيحيين الذين يتب


.. الفوضى التي نراها فعلا هي موجودة لأن حمل الفتوى أو حمل الإفت




.. مقتل مسؤولَين من «الجماعة الإسلامية» بضربة إسرائيلية في شرق


.. يهود متطرفون يتجولون حول بقايا صاروخ إيراني في مدينة عراد با




.. كاهن الأبرشية الكاثوليكية الوحيد في قطاع غزة يدعو إلى وقف إط