الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تطورات الروح - من تعاليم التصوف

إبراهيم إستنبولي

2005 / 1 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


توجد في اللغة السنسكريتية ثلاثة مفاهيم خاصة : هاتما Atma– الروح الشاملة ، و كذلك الروح المحددة ، الفردية ، الشخصية الذاتية ؛ مهاتماMahatma - الروح العظيمة ، الكائن المستنير ، الشخصية الروحية ؛ و باراماتما Paramatma – الإنسان الإلهي ( المقدس ) ، الإنسان الذي يدرك ذاته ، الروح المُدرِكة للإله . كما هو مذكور في " هاي يان Gaiyan " : إذا قمتم بدراسة الإنسان فسوف تجدون الكثير فيه " – لذلك إن الإنسان ( و أنا اقصد كل إنسان ) يمتلك إمكانية كبيرة لأن يتطور في النواحي الروحية . بل إن العقل العادي عاجز عن تخيل وسع المجالات الروحية المتوفرة للإنسان .
تحت مصطلح " الإنسان الإلهي أو المقدس " يقصد منذ القديم وبشكل أساسي الإنسان ، وفقط القليلون يدركون أن المقصود في الواقع هو الإنسان – الإله . السبب في ذلك هو أن جميع المؤمنين يفصلون الإنسان عن الله ، و هم يتلمسون بين الإنسان والإله هوةً عميقة لدرجة أنه تنشأ الحاجة لملئها بما يسمونه هم الدين . العقيدة تقف حاجزاً بين الله و الإنسان ، إنها تلصق جميع الخطايا بالإنسان ، وكل القداسة – لله .
هذه الفكرة ليست سيئة ، لكنها بعيدة عن الحقيقة .
على أساس المفهوم الأول – مهاتما – يمكن تقسيم البشرية إلى ثلاث مجموعات . تتألف المجموعة الأولى من البشر – الحيوانات ، الثانية – من البشر – الشياطين ، والثالثة – من الكائنات الإنسانية . عن هذا يقول أحد الشعراء الهنود : " كم هي كثيرة المصاعب في الحياة ، حتى الإنسان صعب عليه أن يكون إنسانا " .
الإنسان – الحيوان يفكر فقط بالطعام والشراب ، لا تختلف تصرفاته في شيء عن تصرفات الحيوان المشغول بتأمين حاجاته الطبيعية فقط . أما الإنسان الذي يحمل صفات شيطانية - هو ذلك الذي " أناه " ، الأ يغو ، قد أصبحت عنده قوية و مؤثّرة لدرجة كبيرة جداً – ولذلك عمياء ، بحيث أن " أناه " قد أزاحت و طردت عملياً منه أي إحساس بالنبل ، بالخير و بالعدل . هكذا كائن يستمد لذته من تعاسة الآخرين ، يقابل الخير بالشر ، يشعر بالمتعة من تصرفاته الخرقاء . إن عدد المنتمين إلى هذه المجموعة كبير جداً .
ثم هناك الإنسان العاقل – ذاك ، الذي لديه مشاعر سامية و أحاسيس متطورة . ربما إن الأطباء لديهم تصور آخر عن الإنسان السوي ، لكن من وجهة نظر التصوف فقط الإنسان الذي لديه يوجد توازن بين العقل والشعور ، فقط الإنسان المتيقظ لمشاعر الآخرين ، وذلك الذي هو يدرك جميع تصرفاته ويراعي نتائجها المتوقعة على المحيطين ، فقط هذا يكون إنسانا عاقلاً . غير ذلك من الصعب على الإنسان أن يصبح إنسانا ببساطة . وقد يتطلب ذلك الحياة بكاملها .
المهاتما – هو الروح المستنيرة . إنه ينظر إلى الحياة من زاوية أخرى . هو يفكر بالآخرين اكثر مما بنفسه ؛ حياته مكرسة لفعل الخير و الإحسان . هو لا ينتظر التقدير أو المكافأة على كل ما يقوم به تجاه الآخرين ، لا يتوقع الشكر أو التكريم على كل ما يفعل ، إنه لا يبحث عن المديح و لا يخاف الانتقاص . وقد اتحد من جهة مع الله ، ومن جهة أخرى – مع العالم ، هو يعيش منسجما وفي هارمونيا بقدر المستطاع . لماذا هو يختار لنفسه طريق التقوى والعدل ؟ لماذا يقضي حياته وهو يعلّم البشرية ومبشّراً لها ؟ إنه يقوم بذلك لأن هذا طبيعيٌّ بالنسبة إليه ؛ كل قلب محبٌّ و مستنير يتعطش لرؤية الآخرين يظفرون بالانتصار .
هناك ثلاثة مستويات للمهاتما . الأول يتحارب مع نفسه و مع الشروط من حوله وبالقرب منه . لماذا هو مضطر للقتال ؟ الجواب هو : دوما هناك صراع بين الإنسان الذي يسعى نحو التسامي وبين الريح المقابلة التي تدفع به إلى الوراء . كل فرد يخطو على درب التقدم يشعر بالمقاومة الدائمة لتلك الريح . الريح هنا – هي الصراع مع الذات ، الصراع مع الآخرين ، مع الظروف المحيطة ، الصراع الذي ينشأ من كل ما يحيط ، طالما أن كل جزء من المهاتما يختبر و يجرّب ، طالما أن صبره لما ينضب بعد بالكامل ، و" أناه " لم تختفِ بعد . إنها جلمود قاسٍ تتحول إلى عجينة ليِّنة . فالجندي قد يصاب أثناء الحرب بجروح كثيرة وبانطباعات اصعب وأقسى تبقى في الروح كما الجروح . هكذا هي حالة المحارب الذي يخطو على درب الروحانية ، لأن كل شيء ضده : الأصدقاء ، رغم انهم لا يعلمون بذلك ؛ الأعداء ، الظروف ، المحيط و " الأنا " . لكن الجراح التي يصاب بها في المعركة ، والانطباعات التي يحملها معه من هناك ، تجعله شخصية روحية ، شخصية يصعب الوقوف بوجهها ، شخصية لا يمكن الانتصار عليها .
الصنف الثاني من المهاتما يقدم درسا في السلبية ، التسليم ، التضحية ، المحبة ، التبجيل والرضى . يحدث أن يكون الحب أشبه بلهيب الشمعة : انفخ و سوف تختفي . كل ما يمكنها – أن تضيء ، طالما لم ينفخوا عليها . فهي لا تستطيع الصمود في وجه النفخ . وهناك حب آخر يشبه الشمس ، التي تشرق وتبلغ السمت ، ثم تنحدر وراء الأفق وتختفي ؛ إنها تبقى فترة أطول . لكن هناك حب يشبه العقل الإلهي ، الذي كان موجوداً ، يوجد الآن وسيكون دائماً . فتح أو إغلاق العينين لا يُذهب العقل . الشمس قد تشرق و تغرب ، لكن حركتها في السماء لا تؤثر على العقل . عندما يُولد هكذا حب ، الذي يستطيع تحمل الريح والعاصفة بل ويصير اشد و أوثق بعد الارتفاعات والانكساريات ، عندئذ تصبح اللغة البشرية مختلفة – لا يعود العالم قادرا على فهمها . لمجرد أن تبلغ المحبة ملاك الحب ، عندئذ تصبح شبيهة بمياه المحيط التي ترتفع على شكل أبخرة تتجمع في غيوم فوق الأرض لتنزل مطراً عليها . لا يمكن تخيل أن هكذا قلب قد يخضع للتقلبات المتكررة ؛ ليس فقط الناس ، بل الطيور ، والحيوانات أيضا لا يمكنها أن لا تشعر بتأثيره . هذا حب لا يمكن التعبير عنه بالكلمات ، وهو يبرهن على دفء الأجواء التي يصنعها . وروح المهاتما الوديعة المستكينة قد تبدو ضعيفة لمن لا يعرفه و لا يستطيع فهمه ، لأن المهاتما يتقبل سوية الجائزة واللعنة ، وكل ما يعطى له : الاستحسان وعدم الاستحسان ، الفرح و الألم . هو يتلقى كل ما يأتي إليه بخشوع و بهدوء .
بالنسبة للصنف الثالث من تلك الأرواح الفائقة التطور ، هناك صراع – من جهة ، وسكينة – من جهة أخرى . وهذه الطرق هي الأصعب من حيث التطور : خطوة إلى الأمام ، خطوة أخرى – نحو الخلف وهكذا . هذا التطور يخلو من الحركة ، لأن كل خطوة توازيها خطوة مقابلة مناقضة لها . من جهة – الروح تهتدي بالقوة ، من جهة أخرى ـ بالحب ، من جهة – بالهيبة وبالجلال ، من جهة أخرى – بخنوع عبودي . يقول الإمبراطور غز نوي في إحدى القصائد الفارسية : " كإمبراطور أنا لدي آلاف العبيد المستعدين لاستجابة ندائي . لكن منذ أن احرق الحب قلبي ، أنا أصبحت عبد عبيدي " . من جهة – عنصر نشط ، من ناحية أخرى – عنصر سلبي .
الصنف الأول من المهاتما يمكن أن يُسمى المعلِّم ، الثاني – المقدس ، الثالث – النبي .
باراماتما – هذه هي أعلى مراحل يقظة الوعي . الإنسان العادي يولي أهمية اكبر للعالم واقل للإله ؛ المستنير – أهمية اكبر للإله واقل للعالم . أما الباراماتما ففي نفس الوقت يقيم و لا يقيم أهمية للإله وللعالم . إنه هو ما هو . وإذا قيل له : " هذا كله حقيقة " ، - فسوف يجيب : " نعم ، إن كل هذا حقيقة " . وإذا قال له أحدهم : " هذا ليس حقيقة " ، - سيجيب : " نعم ، هذا ليس حقيقة " . وإذا قيل له : " كل شيء حقيقي وغير حقيقي في نفس الوقت "، - سيجيب : " نعم ، كل هذا حقيقي وغير حقيقي في نفي الوقت " . يصير كلامه غير مفهوم و أشبه بلغز . إذ من الأسهل التعامل مع الذين يتكلمون لغتنا ، علما أن معنى الكلمات لا يتغير تقريباً ، فإن اللغة تتعرض للتغيير أيضا ، فهي تصبح غريبة ، كما لو لغة أجنبية مقارنة مع الكلام العادي . فالكلمات لا تعني شيئاً بالنسبة للباراماتما ، ما يهمه هو المضمون الجواني للكلمات . بل حتى لا يجوز القول انه يفهم المعنى : إنه هو نفسه المعنى . هو يصير ذاك الذي يسعى إليه الآخرون .

المصدر : - كتاب " من تعاليم الصوفيين " - للمتصوف الهندي الكبير ، المعلّم حضرات عنايات خان ( 1882 – 1927 ) .
- من رسائل المتصوفين - نشرة الكترونية .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. شاهد ما حدث لناطحات سحاب عندما ضربت عاصفة قوية ولاية تكساس


.. المسيرات الإسرائيلية تقصف فلسطينيين يحاولون العودة إلى منازل




.. ساري عرابي: الجيش الإسرائيلي فشل في تفكيك قدرات حماس


.. مصادر لـ-هيئة البث الإسرائيلية-: مفاوضات إطلاق سراح المحتجزي




.. حماس ترد على الرئيس عباس: جلب الدمار للفلسطينيين على مدى 30