الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكايتى مع النظام 2-( محمد نجيب)

فاروق عطية

2012 / 1 / 21
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


فى السنة الدراسية 1951/1952 كنت فى السنة الأولى بالمرحلة الثانوية ( خمس سنوات ). وبعد أداء إمتحانات آخر السنة الدراسية التى كانت تعقد فى أواخر يونيو وتظهر نتيجتها خلال شهر يوليو, ونحن فى انتظار النتيجة فوجئنا في ليلة لن ينساها تاريخ مصر والمنطقة, وقع في القاهرة حدث غير تاريخها جذرياً ومازلنا نشهد آثارها حتى اليوم، إنها ليلة 23 يوليو حينما خرج الجيش من ثكناته معلنا عن حركته المباركة, وتصدرت صورة اللواء محمد نجيب الصفحة الأولي لجريدة "المصري" وفوقها مانشيت: اللواء نجيب يقوم بحركة تطهيرية في الجيش. كانت الحركة مفاجأة لنا ولم نكن نتوقعها, بالرغم من ظاهرة عدم استقرار الحكم وتتابع تغيير الوزارات يوما بعد يوم ولكن لم يكن يخطر ببالنا أن يحدث إنقلاب عسكرى ضد الملك. من البيان الأول للحركة والذى ألقاه محمد أنور السادات فهمنا أن الحركة قامت لتصحيح أوضاع الجيش وتطهيره ممن يعتبرونه غير كفء للقيادة. وبعد انضمام الأريب على ماهر باشا العدو اللدود لحزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس باشا إلى جانب العسكر, ولتقاعس الأحزاب ولسرعة تأييد الجماهير للحركة بدأت تتغيرتطلعات قادة الحركة وظهر جليا أطماعهم فى تولى السلطة, وتتابعت الأحداث بتنازل جلالة الملك عن الحكم لإبنه أحمد فؤاد, ثم إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية.
فى البداية لم نكن نعلم شيئا عن القائد الحقيقى للحركة أو القيادات الرئيسية بها, ولكن الشخص الوحيد الذى كان واضحا فى الصورة وقتها هو ذلك الإنسان الطيب اللواء محمد نجيب الذى حمل رأسه على كفه ليلة قيام الحركة بهذا الانقلاب ولو كان قدر لها الفشل لكان هو الوحيد الذى سيتحمل وذرها دون الآخرين. أختير للقيادة كونه واجهة مشرفة للحركة لأنه كان برتبة لواء, ومعروف عنه أنه بشوش وسيم الوجه وقور ومثقف "حاصل على ليسانس الحقوق وديبلومين فى القانون تؤهلانه لنيل درجة الكتوراة"، ولد محمد نجيب بالسودان بساقية أبو العلا بالخرطوم, لأب مصري وأم سودانية المنشأ مصرية الأصل اسمها "زهرة احمد عثمان", وإسمه بالكامل محمد نجيب يوسف قطب القشلان, وهو من مواليد 19 فبراير 1901 (تسنين). تدرج بالجيش المصرى حتى رتبة لواء فى 9 ديسمبر 1950. انتخب رئيسا لنادى الضباط فى ديسمبر 1951 ولكن الملك لم يعتمد النتيجة وأصر على وضع أحد أعوانه بدلا منه (حسين سرى عامر باشا) مما عجل بقيام الحركة. وكانت احتمالات فشل الحركة مرجحة لولا الدور الذى لعبته السفارة الأمريكية فى تحييد الجانب الإنجليزى المنحاز إلى الملك، فما كان أيسر قيام عدة طائرات بريطانية من قاعدة قنال السويس لإنهاء التمرد. يقول السادات فى مذكراته عن علاقة الحركة بالأمريكان الأتى: فى فجر 23 يوليو فكرنا فى الاتصال بالأمريكان لنعطيهم فكرة عن أهدافنا، وكنا نريد من ذلك الاتصال تحييد الإنجليز. ولم نكن نعرف أحدا فى السفارة الأمريكية ، وهدانا البحث إلى على صيرى الضابط المسئول عن مخابرات الطيران وكان صديقا للملحق الجوى الأمريكى "إيفانز" وأبلغ رسالتنا إليه والذى نقلها إلى جيفرسون كافرى السفير الأمريكى الذى اعتبرها لفتة طيبة من جانب الحركة.
كان اختيار تنظيم الضباط الأحرار لمحمد نجيب سر نجاح التنظيم داخل الجيش, فكان ضباط التنظيم حينما يعرضون علي باقي ضباط الجيش الانضمام إلي الحركة كانوا يسألون من القائد، وعندما يعرفوا أنه اللواء محمد نجيب يسارعون بالانضمام.
ويؤكد اللواء جمال حماد ـ أحد الضباط الأحرار ـ أن الحركة لم تكن لتنجح لولا انضمام اللواء محمد نجيب إليها لما كان له من سمعة طيبة في الجيش، ولما كان منصبه ذو أهمية إذ أن باقي الضباط الأحرار كانوا ذوو رتب صغيرة وغير معروفين. وفي ليلة 23 يوليو لعب محمد نجيب أخطر دور في نجاح الحركة, فقد انكشف سر الثورة الساعة 9:30 مساءا، وعرف أن مؤتمراً لرئيس الأركان الفريق حسين فريد سيعقد في الساعة العاشرة في مقر القيادة لترتيب القبض علي الضباط الأحرار، فقام علي الفور بإبلاغ يوسف صديق بالتحرك قبل ساعة الصفر بساعة، وبالفعل تحرك يوسف صديق ونجح في اقتحام مركز القيادة والقبض على من فيه من قادة, ولولا هذا التحرك لفشلت الثورة ولقضي عليها قبل أن تبدأ.
ظللنا لمدة طويلة نحسب أن نجيب هو الرأس المخطط للحركة, وأخيرا علمنا أن عبد الناصر هو القائد الحقيقى لها, ولكنه كان يخشى الظهور منذ البداية بحجة أن له أطفال صغار فى حاجة للرعاية سوف يقاسون عند فشل الحركة, وبالقطع الفشل سيؤدى لمحاكمته عسكريا وإعدامه. وتوجه السادات إلى السينما ليلة 23 يوليو وافتعل معركة مع أحد رواد السينما وأصر على عمل محضر فى قسم البوليس ليكون دليل ابتعاده عند الفشل. أما نجيب الذى تنكر له الجميع فقد كان شجاعا لم يرهبه الموقف وكان مستعدا لتحمل كل العواقب بمفرده. وبعد نجاح الحركة وتحولها إلى ثورة بدأ ظهور الآخرين، وتولى عبد الناصر رياسة الوزارة وأراد لنجيب أن يكون رئيسا شرفيا للجمهورية ليس إلا. وفى مارس 1954 نشب الخلاف الحاد بينهما، خلاف على السلطة بين رجل يريد أن يمارس الرياسة ويصر على الديموقراطية وإعادة الأحزاب, متذكرا للدرس الذى تلقاه من الزعيم مصطفى النحاس, ففي عام 1929 تعلم محمد نجيب هذا الدرس, فقد أصدر الملك فؤاد قراره بحل البرلمان لأن أغلبية أعضائه كانوا من حزب الوفد الذي كان دائم الاصطدام بالملك فتخفى في ملابس خادم نوبي، وقفز فوق سطح منزل مصطفى النحاس، وعرض عليه تدخل الجيش لإجبار الملك على احترام رأي الشعب، لكن النحاس قال له : أنأ أفضل أن يكون الجيش بعيدا عن السياسة، وأن تكون الأمة هي مصدر السلطات، كان درسا هاما تعلم من خلاله الكثير حول ضرورة فصل السلطات واحترام الحياة النيابية الديمقراطية، وهو الدرس الذي أراد تطبيقه بعد ذلك عام 1954. أما الرجل الآخر "عبد الناصر" ويرى فى نفسه أنه الأحق بالسلطة والمؤسس الحقيقى للحركة ويريدها ديكتاتورية عسكرية. وانتهى دور محمد نجيب ولقى ما لقى من عذاب هو وأسرته. اعتقل وحددت إقامته فى قصر زينب الوكبل بالمرج. ورغم سوء معاملته ظل الرجل وفيا ومجاملا، يرسل برقيات التهنئة إلى عبد الناصر فى كل المناسبات القومية والشخصية. حتى صلاح سالم الذى تخصص فى التشهير به فى كل المناسبات, ذهب نجيب لزيارته أثناء مرضه وعندما توفاه الله ذهب ليعزى أخيه جمال سالم الذى فوجئ بحضوره فقال مندهشا: جئت تعزينى فى صلاح بعد كل ما فعلناه بك؟ فرد عليه بابتسامته الوقور: الواجب واجب يا جمال.
فى يوم الخميس أول نوفمبر 1957 بعد العدوان الثلاثى بأيام، بعد أن تردد أن الإنجليز بعد الانتهاء من عبد الناصر ينون إعادة نجيب إلى السلطة. فى حوالى الواحدة صباحا حضر إليه المقدم الشناوى وأخبره أنه يريد إبعاده من هذا المكان القريب من المطار إلى منطقة الهرم ليكون فى مأمن من الغارات, خرج لا يحمل معه إلا حقيبة تحتوى بعض الغيارات والمصحف وبعض الكتب والمسبحة وسجادة الصلاة. لم تتجه السيارة للهرم بل اقتادوه إلى قطار الصعيد فى عربة خاصة، وفى الفجر وصلوا نجع حمادى وأودعوه استراحة الرى, وبد 48 ساعة اقتاده إثنان من ضباط البوليس الحربى إلى مكان آخر, ولما سأل عن المكان كان الجواب ركلا وبصقا وإهانة..!! بعد أيام نقل إلى منزل محامى بمدينة طما وبقى فى غرفة رطبة لمدة 51 يوما تحت حراسة مشددة، ثم أعادوه مرة أخرى إلى المرج حيث ظل حبيسا بهذا المنزل حتى وفاته فى 28 أغسطس 1984.
تذكرت أول لقاء لى بهذا الرجل العظيم بعد قيام حركة الجيش المباركة بشهور، كنت طالبا بالسنة الثانية الثانوية, وكنت أحد أفراد الحرس الوطنى بالمدرسة، أُنيط بنا عمل كوردون على رصيف محطة طهطا لمنع تكأكؤ الجماهير على قطار الرحمة الذى يقل رجال الحركة وعلى رأسهم نجيب. وعند توقف القطار كانت عربة نجيب فى مواجهتى تماما، ابتسم لى برقة وحنان وحيانى رابتا على رأسى. وبعد اندلاع الخلاف بينه وبين ناصر وعزله من السلطة وتولى ناصر السلطة قمنا بتظاهرة كبيرة مطالبين بعودة نجيب وتنحية عبد الناصر مما أدى إلى ملاحقتنا بخيالة البوليس ضاربين إيانا بالكرابيج السودانى، وما زال إحساسى بعلامة الكرباج على ظهرى حتى اليوم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تزييف التاريخ
عزيزة جندى ( 2012 / 1 / 20 - 23:23 )
مقال رائع لتأريخ ما حاول طمسه النظام الفاشل ومحو جزء مخم من تاريخ مصرنا الحبيبة. وأنا شخصيا أكن كل الحب والإعزاز لأول رئيس جمهورية مصرى أحب مصر أكثر من حبه للسلطة وكان جزاؤه العزل والتنكيل


2 - تصحيح التاريخ
زينب حواس ( 2012 / 1 / 21 - 18:48 )

حاول العسكر تزييف التاريخ ومحو إسم الرجل الشجاع محمد نجيب من كتب التاريخ المدرسية. ولكن آن للحق أن يظر وأن يأخذ نجيب حقه من التكريم والتبجيل كونه أول رئيس للجمهورية وكونه أشجع من جميع من حاولوا محو إسمه


3 - هو أيضا قد أجطأ
محمد حمزة ( 2012 / 1 / 21 - 19:02 )
مع احترامى وتقديرى للدور البطولى لأول رئيس جمهورية ولكنى أرى أنه أيضا قد أخطأ ونسى القسم الذى أداه كضابط أن يكون أمينا فى الحفاظ على حماية الوطن والنظام الملكى . لقد حنث بيمينه وسار خلف حفنة من الشباب المتهور الحاقدين على القيادة وتناسيهم أنهم لولا أولائك القادة وتعضيدهم لما قبلوا بالكلية الحربية. ضباط من طبقات فقيرة أسعدهم الحظ أن يصيروا ضباطا بالجيش المصرى, وبدلا من حفظ الجميل ملأهم الحقد الأعمى لتحطيم من هم أعلى منهم طبقة وشأنا والنتيجة هى ما وصلنا له من حال وأصبحنا فى ذيل الدول النامية أو النئمة. حفظ الله مصر ووقاها شر حكم العسكر أو الجماعات الإسلامية المتخلفة


4 - لوكان قد وعى الدرس من البداية
أسامة بركات ( 2012 / 1 / 23 - 02:14 )
أتفق مع الأخ حمزة أن اللواء محمد نجيب قد أخطأ فى حق نفسه وحق رتبته وحق وطنه, وذلك أنه لم يعى الدرس القيم الذى تلقاه من زعيم الأمة مصطفى النحاس باشا بأن يكون الجيش بعيدا عن السياسة وأن تكون الأمة هى مصدر السلطات. لم يتذكر هذا الدرس الهام حين استقطبه حفنة من الظباط الصغار ليجعلوه كبشا للفداء عند الفشل. فلو كان قد تذكر هذا الدرس ما سمح لنفسه برتبته العظيمة أن ينساق خلف هذه الطغمة التى جرت البلاد لما نعيشه اليوم من فساد. ولكنه تذكر الدرس بعد خراب مالطا عام 1954 حين احتدم الخلاف بينه وبين عبد الناصر والاختلاف حول الديموقراطية أو الديكتاتوري. ليته كان قد وعى الدرس منذ البداية وقدم أولائك المتآمرين على البلاد ومليكها للمحاكمة العسكرية.

اخر الافلام

.. في هذا الموعد.. اجتماع بين بايدن ونتنياهو في واشنطن


.. مسؤولون سابقون: تواطؤ أميركي لا يمكن إنكاره مع إسرائيل بغزة




.. نائب الأمين العام لحزب الله: لإسرائيل أن تقرر ما تريد لكن يج


.. لماذا تشكل العبوات الناسفة بالضفة خطرًا على جيش الاحتلال؟




.. شبان يعيدون ترميم منازلهم المدمرة في غزة