الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تلخيص - قصة قصيرة

جمال القواسمي

2012 / 2 / 15
الادب والفن


تحيَّر كيف يطالب الشعب والعالم كله بإخراج صحفي مغمور ويذكرون اسمه وسيرة حياته وهو لم ينهِ عامه الأول في عمله الطوعي كمراسل في موقع الكتروني مغمور وبائس، بينما يعمل هو مسؤولاً إعلامياً في الحزب الحاكم وحكومتها منذ عشرين عاماً ولا يعرفه أحد في البلاد. كان جزءً من عمله تلخيص كل مقالات أصحاب الرأي، وطاب له وهو يعزِّي نفسه أن يتذكر أفعالاً طيبة لاقت استحساناً من رؤوسائه، فلم يتذكر حادثة رضى او سرور من أحد، لا رئيس ولا وزير ولا وكيل ولا سكرتير ولا رئيس حزب. هكذا اعتاد طوال عشرين عاماً على تنفيذ الأوامر. أما الصحفي الحقير الذي يقف الآن على باب المجد والتاريخ فلم يفعل في حياته شيئاً سوى أن تكلم عن الحقيقة المشبوحة في شوارع الوطن. شعر الرجل المسؤول بالضآلة والفشل في كل شيء. فلا أحد يذكر أسمه، ولا توجد سياسة اعلامية يفتخر بأنها من بنات افكاره.

المسؤول الإعلامي في الحزب الحاكم تجاوز صلاحيات وزير الأمن الداخلي وقضاة وزارة العدل ومدير عام مديرية الأمن وبضعة محققين صغار أذاقوا الصحفي المعتقل الويل منذ أسبوعين؛ فتحوا الأبواب له: ابواب السيارة والسجن والعنابر والزنازين ثم المكتب الفخم لمدير السجن، وطلب مقابلة المراسل الشاب، وحوله حراسه وبعض السجانين المسؤولين.
سأله المسؤول الإعلامي: ماذا تريد؟
قال: أريد العودة إلى البيت والعمل.
قال أحد حراس المسؤول:  سيخرج ليهتف: "الشعب يريد اسقاط النظام."
قال مدير السجن: الشعب يريد حلَّ النظام.. ههه ههه ههه.. راح تنحلّ قبل أن ينحلّ النظام يا حقير!! 
دنا منه المسؤول الإعلامي وسأله: لو أخرجناك من السجن وأطلقناك للإقامة البيتية، ماذا ستفعل في البيت طول النهار يومياً!؟
قال: سأقرأ وأكتب.  
سأله مدير السجن: كيف ستقرأ وأنت مقطوع عن الانترنت والجوال!؟
قال المسؤول الإعلامي: لن نسمح بخروجك من هنا إلى مكتب الحقيقة المشبوهة!! ماذا تسميها أنت وأمثالك يا وقح: حقيقة مشبوحة!؟
قال احد المحققين ساخراً: سيقرأ كتاب أرقام الهاتف.. ههه ههه.   
قال: نعم، ربما اقرأ كتاب أرقام الهاتف، إذا توفر.
صفعه مدير السجن.
ابتسم المسؤول الإعلامي وسأله: لماذا تقرأه!؟
قال: ربما ساورني الشك احياناً، ربما أقتنع مثلما انت مقتنع الآن بأنه يوجد شعب!!
صفعه المسؤول الإعلامي، ثم صرخ فيه: أنت وقح، يا لوقاحتك!! أتيتُ لأطلق سراحك وأنت تتواقح معي!! 
تركه يمسح براحته الدم عن شفته العليا المجروحة.
سأله: وماذا ستكتب!؟ بيانات؟ قصائد!؟ أخبار الحقيقة المشبوحة، ها!؟
ولكن الصحفي تلفع بالصمت، فاغتاظ الجميع. 
قال له المسؤول الحزبي: لو لخَّصتك بكلمة واحدة، فستكون: وقاحة!
قال مدير السجن: ربما يكتب سيرة حياته القصيرة.. ههه ههه هه. 
قال: سأكتب كل يوم أربعة كتب دفعة واحدة.
سأله: أربعة كتب!؟ ويحك، ماذا ستفعل بها!؟
قال ضابط: سيجترَّها في الأيام الثلاث التالية.
سأله: ولو حرمتك من الورق، ماذا ستفعل!؟
قال: سأحفظها عن ظهر لسان حتى أطلقها..
سأله: ماذا!؟ ما هذا التعبير الركيك؟
قال: اللسان حصان يرمح برسالته، حصان بلا سرج ولا لجام.
قال المسؤول: انت صحفي وشاعر إذن..  
نظرة طويلة تبادلاها.
سأله: لو قلتُ لك اني سأحرق ثلاثة كتب منها، ماذا ستفعل!؟
قال: سأحتفظ بكتاب واحد إذن.
أضاف المسؤول: ربما ستضطر إلى تلخيصه، لقلة الورق، في فقرة، أنتَ تعرف، الإيجاز مهارة لا يتقنها كثيرون.
كم أراد أن يقول للمسؤول الحكومي المهندم ببذلة جديدة وياقة أنيقة ان نظامه يوجز الاحلام، والحقوق، والشعب، يوجز الدولة بالحاكم، يلخِّص الوطن بتاريخ الحزب.. يلخص خير البلد بكمشة اسهم ونسب نمو وتضخم.. لم يقل شيئاً.
فاستفزه المسؤول: ماذا ستفعل بالكتاب الرابع!؟
- ربما أتعلم ذات يوم كيف ألخص كتابي الرابع في فقرة واحدة، وهذا أضعف تلخيص؛ واذا استطعت سألخصه في جملة واحدة، وهذا كتلخيص وسط؛ واذا استطعت سألخصه في كلمة واحدة وهذا أقوى تلخيص. 
سأله: أتذكر كيف في التاريخ يحضرون رأس صاحب الفتنة إلى الحاكم!؟
قال له: أذكر، أهذا التلخيص الذي تقصده!؟ مثل حنجرة القاشوش!؟
ضحك المسؤول الإعلامي وسأله: أراك خائفاً.
- كلهم يخافون هكذا تحت أيدينا. 
قال: الخوف أمر طبيعي. التخويف، لا. هذا الأمر يستحق ان أكتب عنه كتاباً.
سأله: لو كتبت أمس كتاباً، فبأية كلمة يمكنك تلخيصه!؟
- حرية.
هجموا عليه، عزفت الهراوات على عظامه عزفاً أليماً.
- تُرى، ماذا سيكون تلخيص كتاب اليوم!!؟
- تفووووو!!

لم يبصق على أحد، بصق دماً وأحد أسنانه وحسب. كلُّ ما بقي من جسده كان سنه، احتفظ به المسؤول الإعلامي الحزبي كتلخيص عن شخص مندس لم يغنِ، ولم يرسم كاريكاتيراً بل حرَّر خبراً صحفياً صغيراً من ربقة مسؤول الرقابة ونشره في موقع الكتروني بائس ومغمور مفاده ان الحقيقة المشبوحة يريق دمها في الشوارع جنود الوطن، ويمسح ما بقيَ منها موظفو وزارة الصحة ويكنسها عمال البلدية من داخل الأزقة الضيقة المعتمة، ودائماً ما يحرقها مذيعو الأخبار ومدراء الصحف الرسمية. 
 








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الدكتور حسام درويش يكيل الاتهامات لأطروحات جورج صليبا الفكري


.. أسيل مسعود تبهر العالم بصوتها وتحمل الموسيقى من سوريا إلى إس




.. فنانو الشارع يُحوِّلون العاصمة الإسبانية مدريد إلى رواق للفن


.. كريم السبكى: اشتغلنا على فيلم شقو 3 سنوات




.. رواية باسم خندقجي طلعت قدام عين إسرائيل ولم يعرفوها.. شقيقته