الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كاكه شاهين: عربي نه كه هشتم

مديح الصادق

2012 / 2 / 17
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية



من عمره تجاوز الستين، ذلك ما تُفصِح عنه خصلات شعر تدلت فوق تجاعيد جبينه الحنطي، وما امتد من شعر لحيته إلى ما يقارب السنتمترين أو الثلاثة؛ ربَّما ذلك ما اتفقت على الحفاظ عليه ( حانة وضَرَّتها مانة )، زوجتاه المتشاطرتان نفس كوخه الحجري؛ بسلام وانسجام رومانسي ليس له مثيل؛ عكس ما مُتعارف عليه عند تجاور ضَرَّتين تقتسمان ذكرا واحدا مثل ( كاكه شاهين ) ولكل منهما خِلفة من الإناث والذكور، ونصيبها من كل ما يسعى على الأرض من دواجن الدار؛ أما واجبات البيت فتُنجَز بشكل آلي بعيداً عن العويل والضجيج، سقاية ماء الشرب من نبع بأطراف المدينة الصغيرة، خزن الأخشاب حطبا استعداداً لموسم الصقيع القارس؛ الذي يُنضَّد له خبز ( الركاك ) قبل قدومه، عصائر الطماطم والرمان والأعناب، لحم مُقدَّد، تبغ مُجفَّف، وزيت الإضاءة باهض الأثمان في زمن تُنفَخ فيه كروش تجار الحروب، أولئك الذين إكراما لوجوههم تُشعل الحروب

الحرب دُقَّتْ طبولها، وارتدى الجميع لباسها، ولم يعد هناك من لم يتمنطق بسلاحها؛ سوى الكهول، والنساء، والأطفال، أمَّا من هو عاجز عن حمل السلاح فقد كلفه رفاق البعث بما يناسبه من مهام؛ الجيش الشعبي خليفة الحرس القومي سيء الصيت؛ بل هو محاولة لتجميل الصورة البشعة التي ترسخت في أذهان العراقيين، من مختلف القوميات والأديان والاتجاهات السياسية ذات الطابع الوطني النزيه، دُعيت للخدمة العسكرية جميع المواليد، المكلفون والاحتياط، وفي كردستان كانت الحرب فرصة لانفلات غالبية المشمولين بها، والتحاقهم بجانب فصائل الثوار؛ فصاروا معابر آمنة لرفاقهم وأشقائهم من باقي فصائل المعارضة الوطنية الأشداء، وعادت كردستان حاضنة، ومعقلا لكل المناضلين الرافضين الانصياع للسفاحين، قارعي طبول الحرب، العِطاش لامتصاص دماء الشعوب، وعُلقت على الحوائط تذكارات لأغلى وأعز الشباب، محرقة تدور رحاها، وتلتهم كل ساعة من الحياة، ماء الحياة

كاكه شاهين؛ بلي رفيقي - لا يجيد النطق بغيرها، ولا يفهم سواها - اجلب للأستاذ مسؤول الفرقة الحزبية من كل وكيل من وكلاء التبغ كارتون سجائر، ومثله من الدجاج المُعلب، وفي طريقك خذ من بائع القماش ما أوصاه عليه الرفيق، ولا تنسَ الخروف من هرمز، أبي آشور، هيا اسرع واصطحب معك السائق صبغة الله، وعند العودة أخبِر ( أميرة ) صاحبة الحانة، المِصرِيَّة، أن الأستاذ يبلغها السلام، وانتظر منها الجواب. بلي رفيقي، يكررها عدة مرات، ويردفها بكلمات كردية تشبه الهمهمة، وأخرى نصف عربية، شه الله، شه الله؛ والمشهد هذا لم يكن عليه بجديد؛ لكن الجديد في الأمر هذا اليوم دخول أميرة المصرية على الخط، كتلة اللحم التي تدير الحانة في مدينة كردية صغيرة تتوزع في أحيائها - على صغرها - خمسة مساجد، وكنيسة للمسيحيين الذين هُجِّروا قسرا من الشريط الحدودي مع تركيا، فأُسكنوا مُجمعات حجرية، منها انتفع المقاولون وأعوان الأمن والمخابرات من الأغوات والجحوش، وما أكثرهم على موائد السلاطين، أزمان السلام والحروب، ينفعونهم وينتفعون

( عالية ) ابنته الصغرى، من زوجته الصغرى، بسبعة عشر ربيعا، والربيع قد غزاها من قمة الرأس حتى أخمص القدمين، بلون ثلوج ( باطوفة وكاني ماسي )، بشرة فضية، عينان عسليتان، حاجبان كخنجرين يمانيين، تحلم أن تزور بغداد؛ فتكمل دراستها بكلية الطب، وتعود لقريتها طبيبة تخدم النساء، تعشق اللغة العربية، تُصغي لأستاذها المُبعَد من أقصى الجنوب؛ وهو يلقي شِعرا لا تفهم من كلماته سوى القليل؛ لكنها ترهف السمع لدقات قلبه، ارتجافة شفتيه، وما بين السطور من موسيقا تناغم القلوب والأبدان؛ لقد كرهتُ جنسك العربي قبل قدومك، يا أستاذ، فنحن - معاشر العراقيين بكردستان - لم نقابل منكم إلا جنودا يحرقون القرى وما عليها، وشرطة تقتاد المساكين بلا ذنوب، لم نتخيل أن منكم من يجيد لغة أخرى غير القتل والتشريد؛ تعال وزرنا في البيت، أرجوك، سأسمعك من أغانينا ما تطرب له، شاركنا الطعام، لبن خاثر، خبز تنور ساخن، وما تبقى من غابات أحرقوها من جوز ولوز، لا تصدق أقوالهم بأن الأكراد يغدرون بمن في بيوتهم مُستضاف، الأفعى لا تبادر بالهجوم إلاَّ من يبدأ العداء، ولا أظنها جريمة حين تدفع عن عرضك وأهلك البلاء، لمَ لا تتزوج بأخرى، كن شجاعا مثل الأكراد؛ فهم لا يخافون من زوجاتهم حين يجمعون ببيت واحد مَنْ أفتى بهن الشرع من الزوجات

الواحدة بعد منتصف الليل هو الموعد المتفق عليه، وقت مناسب إذ يغادر الحانة آخر سكران من عملاء الأمن، لم يبق فيها سوى عامل استأجرته أميرة - يصغرها في السن - فأبرمت معه عقد زواج مصلحة كواجهة لبقائها في الحانة بصحبته، وذلك حسب توجيهات مفوض شرطة شعاره: الشرطة تؤثر ولا تتأثر،مقابل كأس شراب، أو فتات طعام أمرت العامل أن ينصرف للنوم، رصفت قناني البيرة في كارتون مناسب، استغفلت كاكة شاهين، بالأحرى لفتت انتباهه إلى مشهد عسكري في التلفاز، مجاميع من الأسرى الإيرانيين جلبهم معه الجيش العراقي في معركة الشوش، آليات مدمرة، ومنها صالحة غنمتها القوات الخاصة، صور لجثث إيرانية، منها سالمة ومنها مقطعة الأوصال، زغاريد بغايا الحروب، شواعر وشعراء منافقون، مهاويل حرب، نافخو طبول، وما أحقر ما يُسمى نصرا مع الدمار، آلاف القتلى والجرحى، أيتام وأرامل، معوقون ومفقودون. تظاهر كاكه شاهين بانشغاله بما توهمت أميرة أنها أشغلته به، بطرف عينه لمحها وهي تدس لفافة، لفافة ورق غير عادية، بين قناني البيرة، كبست الصندوق، هيا احمله لرفيقك الأستاذ، وبلغه من أميرة السلام
شاهين، لا تتخطى حدودك، كن عاقلا، لقد منحك الرفاق البعثيون ثقتهم، وخوَّلك الأستاذ دخول غرفته، وتنظيفها وترتيبها حاضرا كان أم عند الغياب، تعيد ترتيب ما بعد موائد القمار، والليالي الحمراء حتى الصباح، وهم رغم دهائهم وخبثهم؛ لكنهم واثقون من أنك لا تفقه شيئا من أمور السياسة، ولا تفهم في العربية غير ( بلي )، عربي نه كه هشت، ولم يتثبتوا من أن لك علاقات مع من يسمونهم ( المخربين ) فهم من طرفك مطمئنون، ومنك لا يخشون أي مكروه

مصباح خافت والعيال نيام، بحذر شديد فتح لفافة أميرة الورقية؛ مفاجأة ارتعدت لها أوصاله، تقارير من بعض مختاري القرى، والعملاء الجواسيس، تحركات الثوار بالتفصيل الدقيق، أسماء لأشخاص يعرفهم ما زالوا في المدينة يعيشون، تحت قبضة الجلادين في حال اطلاعهم على تلك التقارير، والمصائر معلومة في مثل تلك الحال، قد لايحظون ولو بشاهد قبر، عمال، فلاحون، طلبة، مدرسون، من كلا الجنسين، أكراد، عرب، أشوريون، أيزيديون؛ والأستاذ الذي تحبه ( عالية ) ابنته، كل الحب، أولئك جميعا مصيرهم موت محقق إن وقعت تلك اللفافة بأيدي الذين فارقتهم الضمائر مذ زمن بعيد، ولابد أن لفافات أخرى تغص بها خزانة الأستاذ المسؤول، تفصح عن مئات من المساكين الشرفاء
هرَج، مرَج ساد البيت، خلف جدران وأبواب موصدة كانت لغة أخرى للكلام همسا، فصوت آخر الليل مسموع، وفي مجتمع قروي كهذا وفي كردستان بالذات؛ على النساء الامتثال لما يريد الرجال دون نقاش، بأقصى درجات الصمت والكتمان، مقاتلو الجيش الشعبي المكلفون بحراسة مقر حزب البعث في باطوفة قد تم صرفهم إلى بيوتهم، أمسية حافلة بالغناء وما لذ وطاب من الطعام والشراب، والمُضيِّف من أثرياء المدينة العملاء المنتفعين، شاهين يخدم الضيوف المترفين، قهوة، شاي، لبَن به أكرمهم من بقرته المعطاء، كلمات عربية ركيكة بها يتندرون ؛ تحسس ما أخفاه بدقة في نطاقه القماشي المنتفخ هذا اليوم، تسلل إلى غرفة المسؤول حيث الكوارث والدواهي من أخطر الملفات، تقاريرتُطيح بيانع الرقاب، خمس دقائق لا غير، لساقيه أطلق الريح عائدا للبيت

من على قمة جبل بهنونة، عينا (عالية ) تراقبان باهتمام نارا ابتلعت مقر حزب البعث في المدينة وما جاوره من دوائر الأمن والاستخبارات ، فقد تتطهر بها الأرض من براثن طغاة فاسدين، وينجو من بطشهم قوم مساكين أبرياء، ويبقى حرا طليقا حبيبها الأستاذ، القادم قسرا من الجنوب، لسعت خداها دمعتان تحدَّرتا في ذلك الليل البهيم، فهناك نار التهمت بيتا آخر، نحتتْ ( عالية ) على جدرانه صورا جميلة وذكريات، وفي حظائره ما تركوه من كائنات، لكن عزاءها أن في بطون الأمهات صغارا سيولدون، الأبقار ستنجب الأبقار، و بيض الطيور سوف يفقس عن أجمل الطيور








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جغرافيا مخيم جباليا تساعد الفصائل الفلسطينية على مهاجمة القو


.. Read the Socialist issue 1275 #socialist #socialism #gaza




.. كلب بوليسي يهاجم فرد شرطة بدلاً من المتظاهرين المتضامنين مع


.. اشتباكات بين الشرطة الأميركية ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين ب




.. رئيسة حزب الخضر الأسترالي تتهم حزب العمال بدعم إسرائيل في ال