الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه، مراجعات فلسفية في مفهوم الحقيقة (3)

مجدي عزالدين حسن

2012 / 2 / 17
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


3-1-2السيميائيات اللغوية: الحقيقة لا تمثل الواقع الخارجي بل مفهومه فقط
لاشك في أن الإنجاز السيميائي اللغوي هو من أهم المنجزات المعرفية في هذا القرن التي مارست تأثيرها ولا زالت على كافة الحقول المعرفية المتصلة بدراسة الإنسان. هذا الإنجاز المعرفي يرتبط في نشأته بنشأة الألسنية مع "فردينان دي سوسير" الذي يعتبر مؤسس علم اللغة الحديث، ويمكن الرجوع بالسيميائية في أصولها الأولى إلى البرغماتي الأمريكي "شارلز بيرس".
تركزت الرؤية السوسيرية في أساسها على أن القيمة والوظيفة لأية وحدة لغوية تعتمد على علاقة هذه الوحدة مع الوحدات الأخرى في داخل النظام اللغوي. وذهب "سوسير" إلى أن دراسة النظام اللغوي هي الأساس الذي يجب أن تتركز حوله الألسنية. واللغة ما هي إلا العلامات المكونة لها. فما هي العلامة؟
" نحن ننزع في حياتنا اليومية إلى استخدام كلمة العلامة بصورة مختلفة: فوجود صليب معلق بسلسلة حول رقبتي هو علامة على إنني مسيحي، والسحب السوداء هي علامة على المطر، و الضوء الأحمر على جانب الطريق هو علامة على وجوب توقف المرور. ولقد ميز "شارلز بيرس" الفيلسوف الأمريكي، ...، بين ثلاثة أشكال للعلامات:
/i الأيقونةIcon: وفي هذه الحالة تكون العلاقة مبنية على التشابه- فالصليب المتدلي من رقبتي يشبه ذلك الذي صلب عليه المسيح.
ii/ المؤشرIndex: وتكون العلاقة في هذه العلامة علاقة سببية، كالعلاقة القائمة بين السحب والمطر.
/iii الرمزSymbol: وتكون العلاقة هنا مستندة إلى العرف أو الاتفاق الاجتماعيين.
وهذه العلاقة الأخيرة كثيراً ما تسمى علاقة اعتباطية، أي أنه ليس هناك من ارتباط ضروري بين اللون الأحمر، على سبيل المثال، وأمر الوقوف بالنسبة للمرور. فاللون يمكن أن يكون ازرق، أو برتقاليا أو أرجوانيا، لكن حدث بالصدفة أن الناس اتفقوا على أن دلالة اللون الأحمر هو الوقوف أو الخطر، وهذا الاتفاق هو واقع خارجي فُرض على أفراد المجتمع. ولو قررت أن الأحمر يعني لي سر والأخضر قف، لما بقيت عضواً من أعضاء المجتمع مدة طويلة.
و" العلامة لها وجهان: الدالSignifier والمدلول Signified، والعلاقة بينهما كثيراً ما تقارن بالعلاقة بين وجهي الورقة. والدال هو الجانب المادي من العلامة، كالصوت الذي ننتجه عندما ننطق كلمة كلب، أو كالخطوط الموجودة على ورقة. وهذا الجانب لا معنى له من دون المدلول، وهو المفهوم الذي يشير إليه الصوت. وكلا جانبي العلامة مهمان أحدهما للآخر: فالمفهوم لا يمكن أن يفصح عنه إلا بالصوت. إن من الأهمية بمكان تذكر أن المدلول هو المفهوم وليس الشيء المادي"
والنتيجة المترتبة على هذا القول تتلخص في أن اللغة لم تعد تمثل الأشياء ذاتها بل مفاهيم الأشياء. مما يعنى أن الحقيقة ما هي إلا مفهوم، وهو الإنجاز الهام الذي أحدثته الألسنية مع رائدها "دي سوسير" حيث كان الفهم السائد قبله ـ وكما رأينا مع "فتجنشتين" والوضعية المنطقية سابقاً ـ أن المدلول هو الوقائع الموجودة في العالم الخارجي، ولذلك كانت الحقيقة هي محصلة التطابق بين الدال(القضية اللغوية) والمدلول ( الواقعة الخارجية).
أما مع "سوسير" فقد أضحت الحقيقة تطابق الدال (الصوت) مع المدلول (المفهوم)، وكلا من الدال والمدلول ينتميان إلى مجال اللغة، وبهذا المعنى لم يعد ثمة خارج هنا. وبالتالي الحقيقة تتحقق داخل النظام اللغوي، وهو الأمر الذي يدحض النظرة التقليدية التي كانت ترى الحقيقة متموقعة في الواقع الخارجي.
فاللغة مع هذا التحول المعرفي الجديد ما هي إلا نظام من العلامات، وإن كان هذا لا يعني أن كل صوت يعد علامة، فالصوت لا يعد علامة إلا بقدر ما يعبر عن فكرة ما أو مفهوم ما، وإلا فهو مجرد صوت، ولكي يعبر الصوت عن فكرة ما أو مفهوم ما فلابد من أن يمثلها، وحتى يكون بإمكانه تمثيل الفكرة/المفهوم فذلك لا يتأتى له إلا كان جزءاً من النظام اللغوي. بمعنى آخر إلا إذا كان علامة من علامات النظام اللغوي. والعلامة كما بينا سابقا هي اتحاد بين شكل يدل أسماه "سوسير" (الدال)، وفكرة يدل عليها أسماها (المدلول). مع الوضع في الاعتبار أن كل من الدال والمدلول لا يوجدان داخل النظام اللغوي كما لو كانا عنصرين منفصلين، بل يوجدان بوصفهما وحدة واحدة مكونة للعلامة اللغوية. على العكس تماماً من المفهوم التقليدي القائل-شفافية اللغة- بوجود الشيء منفصلاً عن ممثله اللغوي. وهو الأمر الذي دعا "سوسير" إلى القول بأنه ليس في وسعنا معرفة طريقة عمل شيء من الأشياء بتتبع تاريخه، بل يتعين علينا النظر في علاقة? أجزائه مع بعضها البعض، وذلك يستوجب علينا النظر في العلاقات القائمة بين الأجزاء المختلفة للغة إن أردنا فهمها. مما يقودنا للبحث في النظام اللغوي وطريقة أدائه، وبالتالي التركيز على شبكة العلاقات الداخلية للنص اللغوي التي تمكنه من الدلالة.
وفي سبيل تحقيق ذلك، فإن النظرية اللغوية عند "سوسير" تقوم على المبدأ القائل باعتباطية العلاقة بين الصوت والمفهوم أو بين الدال والمدلول. إن مبدأ القول باعتباطية العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية يعني فيما يعنيه أن اللغة بوصفها نظام من العلامات يكتسب قوة العرف الاجتماعي عندما يتفق عليه مستخدمو اللغة، وأن هذا الاتفاق على نظام العلامات تم بصورة عفوية أو اعتباطية. بمعنى أكثر وضوحا فإن مبدأ اعتباطية العلاقة بين طرفي العلامة اللغوية يتلخص في عدم وجود أية رابطة ضرورية أو تلازم ضروري في العلاقة الجامعة بين الدال والمدلول، فمثلاً حينما نصدر الصوت الذي هو لفظ "قط"ـ الذي يمثل الدال هناـ فإن ذلك الصوت يشير أو يدل على مفهوم أو فكرة "القط"، في عقولنا، ذلك الحيوان الأليف ـ الذي يمثل المدلول هناـ في هذه العملية (عملية صدور الصوت من متكلم واستقباله من جانب شخص آخر سامع) لا يمكن أن يحدث تواصل ناجح بين طرفيها ما لم يكن هناك اتفاق مسبق من قبل الجماعة المستخدمة للغة على أن لفظ (القط) يشير ويدل على مفهوم محدد يمثل في مثالنا السابق مفهوم (القط)، وقس على ذلك.
وهذا يعني أن الجماعة المستخدمة للغة قد اتفقت اعتباطيا على الدوال التي يشيرون بها ويعبرون بوساطتها عن الأفكار والمفاهيم والتصورات، الأمر الذي يمكّن المرسل والمستقبل داخل هذا النظام اللغوي والمستخدم للغة من التواصل بشكل ناجح.
وبالتالي فإن هذا الاتفاق ??????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????????لوحدات اللغة الأساسية المكونة لها، يعني أنها علامات تكونت بشكل اعتباطي باستنادها إلى العرف أو الاتفاق الاجتماعيين، ولكن أهم ما يميز تلك العلاقة الاعتباطية، أننا بمجرد أن نقيم ذلك الربط بين دال معين ومدلول معين، ويكتسب قوة العرف الاجتماعي، فلا يستطيع مرسل بمفرده أو مستقبل بمفرده أو الاثنان معاً تغيير تلك العلاقة دون أن تتفق الجماعة المستخدمة للغة على ذلك التغيير.
إذن التطور الذي حدث مع الألسنية يتمثل في رفض النظرية التقليدية، التي كانت ترى الحقيقة وفقا لمفهوم تقليدي قام على أساس مسلمة: وجود أشياء خارج اللغة يتم التعبير عن حقيقتها والتمثيل لها بواسطة ألفاظ اللغة، وكأن اللغة وعاء شفاف يظهر ما بداخله من الأشياء أو المواد. وبالتالي تصبح اللغة معها تمثل الأشياء القائمة خارجها على أساس أن العلامة تتكون من دال يشير إلى شيء-مدلول– ويدل عليه ويمثله.
وبدلاً من ذلك يقول "سوسير" بأن الدال لم يعد يشير إلى شيء، بل إلى مفهوم الشيء وفكرته في العقل. " فالإشارة اللغوية تربط بين الفكرة والصورة الصوتية، وليس بين الشيء والتسمية" وبالتالي فإن اللغة لم تعد تمثل الأشياء ذاتها بل مفاهيم الأشياء، فالعلامة اللغوية "شجرة" مثلا، لم تعد – في ضوء نظرية "سوسير"- تشير إلى شجرة مادية أو شجرة بعينها، بل أصبحت تدل على "مفهوم" الشجرة.
أما في مجال الحديث عن الكيفية التي تحدث بها الدلالة ونتوصل بها إلى حقيقة المعنى، فإن معنى كلمة ما أو علامة ما يعتمد على علاقتها داخل النظام اللغوي بغيرها من الكلمات أو العلامات الأخرى، وفي هذا السياق يقدم "سوسير" نوعين من العلاقات الداخلية التي تنظم هذه العلامات نحو تحقيق الدلالة، هما:
i/ العلاقة السياقية)Syntagmaticعلاقة أفقية أو تركيبية) وهي التي تقوم بين الكلمة وسائر الكلمات في الجملة.
ii/ العلاقة الاستبداليةParadigmatic(علاقة رأسية تصريفية) وهي التي تقوم بين الكلمة المذكورة وكل ما يمت إليها بصلة لفظية أو معنوية من كلمات لم تذكر في النص.
ويرتبط مفهوم العلاقات الأفقية والرأسية، بمفهوم آخر جوهري هو ارتباط تحقق الدلالة بالاختلاف. إن الاختلاف عند "سوسير" يعني أن العنصر أو الوحدة اللغوية، لفظاً كانت أو كلمة، تتحدد صفتها في اختلافها مع صفات عناصر أخرى. وكل العناصر حاضرة، وقادرة على الدلالة النهائية. فالاختلاف يقوم على أساس قيمة اللفظ اللغوي، فمثلا حينما يطلب من شخص ما التمييز بين القيم التي تدل عليها العلامات اللغوية، مثل قيمة لفظ "بني" فإنه سوف ينجح في نهاية الأمر في تحديد ذلك اللون على أساس أن البني هو ما ليس أحمراً أو أسوداً أو أصفراً...الخ. والشيء نفسه يصح بالنسبة إلى أي مدلول من المدلولات الأخرى.
والخلاصة أن مفهوم الحقيقة كان مرتبطا على الدوام بثنائية الداخل والخارج وعلى مفهومنا لهذه العلاقة، والتي على مستوى اللغة يمكن الإشارة إليها بالعلاقة بين الدال والمدلول. وقد تأثرت هذه العلاقة بالتحولات النوعية التي شهدتها الفلسفة الغربية طوال تاريخها، وهي التحولات التي صاحبتها تغييرات نوعية على مستوى نظرتنا للغة. ففي البداية كانت النظرة السائدة للعلاقة بين الدال والمدلول علاقة تشابه يعبر عنها بالمطابقة بين اللفظ/الكلمة والشيء الذي تشير إليه، وقد كان ينظر للرابطة بين الدال والمدلول باعتبارها رابطة حقيقية. بعد ذلك حدث تحول معرفي مع الفلسفة اللغوية التحليلية قاد إلى إحلال التمثيل أو التصوير محل التشابه في العلاقة بين الدال والمدلول. إلا أن التحول المعرفي الجديد الذي حدث بعد ذلك هو الذي أنتقل بنا من الفلسفة اللغوية إلى الألسنية وفلسفة اللغة حيث أصبحت اللغة نظام أو نسق له بنيته ووحدته الخاصة به وهو يختلف جذريا عن استخدام اللغة الذي كان سائدا مع الفلسفة اللغوية، وهو التحول الذي شهد بداياته الأولى مع "دي سوسير". إلا أننا يجب أن نسجل ملاحظة تتمثل في أن مفهوم الحقيقة القائم على مبدأ التطابق بقى من حيث المبدأ دون تغيير، وإن النقلة النوعية التي حدثت تمثلت في أن المدلول لم يعد يطابق أو يشير أو يمثل أو يصور الشيء الخارجي، وإنما هو يشير ويمثل ويطابق الفكرة أو المفهوم أو التصور. والنتيجة المترتبة على ذلك أن مجال الحقيقة ارتبط بمجال اللغة ونظامها الداخلي، ولم تعد الحقيقة بذلك مرتبطة بمجال الوقائع الخارجية، وإن كان مفهوم التطابق هو ما ظل ثابتا. هي إذن نقلة إلى اللغة نفسها، والتي ستصل أقصى مدى لها مع تفكيكية "جاك دريدا"، الذي لم يعد مفهوم الحقيقة معه مرتبطا بنظرية التطابق. فلنرى ما الذي أحدثه "جاك دريدا" من تغيير على مستوى الحقيقة كمفهوم عبر تفكيكه للنظام اللغوي في نسخته السوسيرية؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الحقيقة هي مطابقة مفهومنا للواقع
- غزة - رمضان عيسى ( 2012 / 2 / 17 - 18:13 )
حينما أقول لشخص رأيت قطا فهناك توافق سلفي بيني وبينه فيما يعني في لغتناهذا المفهوم , أي - قط -ونحن نعلم الأطفال في المجتمع هذه المفاهيم عن الأشياء والظاهرات الموجودة في الطبيعة والمجتمع , فيحدث توافقا عليها بين الناس عندما يتناولونها في الكلام عنها , أما عن مدى صدقها أو كذبها فيرجع الى مطابقتها للواقع عن طريق التجربة والحياة اليومية , ان تراكم التجربة والتفاعل الاجتماعي يؤدي الى تراكم معرفتنا وصقلها , أي خلق توافق حول مفاهيمنا عن الأشياء والظاهرات من حولنا . ان التلاعب بالألفاظ يودي الى خلل ، فمثلا قلب المفاهيم عن النار والسلاح والخيانة والصداقة يؤدي الى كوارث للشخص والمجتمع .فان مفاهيم الناس عن الواقع لا تبقى مفاهيم مجردة معزولة عن الحياة , بل تتطور مع الحياة , , لهذا تتأقلم اللغة وتتطور وتتكيف مع حياة الناس ونشاطهم العملي ,والمفاهيم دوما يتم اختبار صدقها بمطابقتها للواقع وليس بمطابقتها بمفهوم مجرد آخر .


2 - هل المدلول هو الواقع أم مفهومنا للواقع؟
مجدي عزالدين حسن ( 2012 / 2 / 17 - 19:09 )
هناك نظريتان داخل إطار نظرية التطابق:
1/ النظرية الأولى ترى الحقيقة بوصفهما مطابقة بين ما هو فكري وما هو واقعي، وطالما أن ما هو فكري لا يتجسد مفاهيمياً إلا إذا إتخذ صورة صوتية أو رموز مكتوبة، إذن ستصبح المقابلة هنا بين اللغة والعالم الخارجي, هنا الدال ينتمي للغة، في حين أن المدلول ينتمي إلى العالم الخارجي. المدلول هنا هو الشيء الذي يشار إليه بوساطة (دال) معين.
وبالتالي فإن هذه النظرية قائمة على ثنائية داخل وخارج، الداخل يمثله (الدال) والخارج يمثله المدلول الذي يقع (خارج) اللغة،وهو العالم الخارجي.
2/ النظرية الثانية ترى الحقيقة بوصفها أيضاً مطابقة، ولكن ليس بين اللغة والواقع، وإنما داخل اللغة نفسها: مطابقة الدال والمدلول.
الدال هنا يمثل الجانب المادي في العلامة اللغوية، والمدلول يمثل الصورة الذهنية للدال، وبهذا المعنى الأخير، فإن الحقيقة تتمثل في مطابقة الدال للمدلول، وكلا من الدال والمدلول يوجدان داخل النسق اللغوي، بمعنى أخر المدلول ليس الشيء بل مفهومنا للشيء.
أنا أعتقد أنا مربط الفرس يتمثل في التساؤل بشأن (مفهومنا) للمدلول: هل هوالشيء ذاته؟ أم مفهوم الشيء فحسب؟

اخر الافلام

.. البنتاغون: أنجزنا 50% من الرصيف البحري قبالة ساحل غزة


.. ما تفاصيل خطة بريطانيا لترحيل طالبي لجوء إلى رواندا؟




.. المقاومة الفلسطينية تصعد من استهدافها لمحور نتساريم الفاصل ب


.. بلينكن: إسرائيل قدمت تنازلات للتوصل لاتفاق وعلى حماس قبول ال




.. قوات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منزلا في الخليل