الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل (4)

مجدي عزالدين حسن

2012 / 2 / 19
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


3-2 التفكيك: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال التأويل:
كان مدخل "جاك دريدا" Derridaلتفكيك مفهوم الحقيقة هو مدخل اللغة والعلامة كما استقر مع ألسنية "دي سوسير"، حيث يضرب دريدا مفهوم الحقيقة في الصميم، مقوضا بذلك معناها (الميتافيزيقي)، وكذلك (واقعيتها) بالمعنى الوضعي التجريبي ـ كما لمسناه مع فتجنشتين والوضعية المنطقيةـ محولا بذلك سؤال الحقيقة إلى حقل اللغة والتأويل. ونحن هنا لسنا معنيون بالتعريف بتفكيكية "دريدا" ـ فهذا موضوع آخرـ إلا بالقدر الذي يسمح به سياق عرضنا للكيفية التي عالجت بها تفكيكية "دريدا" مسألة أو مشكلة الحقيقة.
إن غاية تفكيكية "دريدا" هي تأسيس ممارسة تأويلية تفكك تلك النصوص التي تبدو وكأنها مرتبطة بحقيقة واضحة ونهائية. وهي بذلك تتحدي من جهة (ميتافيزيقا الحضور) الوثيقة الصلة بمفهوم التأويل القائم على وجود مدلول نهائي. وتسعى من جهة ثانية إلى البرهنة على أن السلطة التي تمتلكها اللغة تتجلى في قدرتها على أن تقول أكثر مما تدل عليه ألفاظها مباشرة. وقد لخص (أيان كريب) ذلك بشكل رائع بقوله: " إن اللغة تصنع موضوعاتها الخاصة بها، هذه الفكرة تطورت في أعمال دريدا إلى نظرية في المعاني. ونقطة البدء في هذه النظرية هي أن المعنى لا يأتي بأي حال من الأحوال عن طريق العلاقة بشيء خارج اللغة. فليس هناك من شيء مطلقاً بإمكاننا البحث عنه ليضمن لنا المعنى، ليؤكد لنا أننا على حق. ويمكن وضع هذه الفكرة بصورة أخرى بالقول أنه لا يوجد من يلعب دور الإله، أي لا يوجد "مدلول متعال"Transcendental Signified. غير أن ثمة صورة أخرى لنفس الفكرة تذهب إلى أن المعنى لا يكون حاضرا أبداً، بل هو دائماً في مكان آخر. ولقد تعلمنا، وبصورة مبسطة من البنيوية، أن معنى كلمة من الكلمات يعتمد على علاقة تلك الكلمة بكلمات أخرى أي أن المعنى يكمن بين الكلمات وليس في العلاقة بين الكلمة والشيء. إننا نعرف معنى كلمة "كلب" فقط بسبب علاقتها بكلمات أخرى ذات صلة بالعلاقة التركيبية والجدولية، وليس بسبب أي صفات كامنة في الكلمة ذاتها. أي أن المعنى يكمن دائماً في مكان آخر وهو ليس مضموناً بأي شيء من خارج ذاته، والعالم الذي نراه أمامنا هو من خلق المعاني ومصنوع بواستطها، إذ ليس هناك من شئ غير المعاني".
رأينا فيما سبق أن سلطة الحقيقة في النظرية اللغوية الحديثة كانت شرعيتها قائمة على الوحدة الصميم بين طرفي العلامة اللغوية، أي بين الدال والمدلول. فسلطة الحقيقة هي السلطة التي يمارسها النص اللغوي والتي تعني قدرته على إنتاج حقيقة محددة نهائية يستقر عندها النص. ولكي يتأتى ذلك فلابد أن تكون للعلامة اللغوية سلطة قول الحقيقة عبر قدرتها على إحداث دلالة وحيدة أو تحقيق معنى نهائي. وفي المقابل نجد أن "دريدا" عمل على تفكيك وتقويض هذه السلطة وذلك من خلال تأكيده على عقم النظام اللغوي، وعدم قدرته على توليد دلالة أو حقيقة يمكن "تثبيتها" بصورة نهائية والركون إليها. وقد توصل "دريدا" إلى هذه النتيجة وذلك من خلال تفكيكه ل: مفهوم (الاختلاف) كما أسسه الألسني "دي سوسير". حيث أن حدوث الدلالة عند هذا الأخير، ترتبط بشكل أساسي بمفهوم الاختلاف ومفهوم آخر هو مفهوم العلاقات الأفقية والرأسية. وبناءاً على ذلك، أسست نظرية اللغة عند "سوسير"ـ كما بينا سابقاـ مفهوم الحقيقة بشكل كامل على هذه المفاهيم وعلى المسلمة المبدئية المنطلقة من إمكان حدوث الدلالة، ومن ثم انطلق "سوسير" إلى دراسة آليات حدوث تلك الدلالة، وذلك من خلال مفهومي: (العلاقات الأفقية والرأسية) ومفهوم (الاختلاف).
في مقابل ذلك وعلى العكس تماما منه، ينطلق دريدا ـ في مقاربته لمفهوم الحقيقة ـ من نفي إمكان حدوث الدلالة، وحينما يتحول إلى دراسة آليات حدوث الدلالة كما حددتها ألسنية "سوسير" فإن ذلك ليس إلا بغرض تفكيكها. حيث يقطع معها شوطا إلى أن تنقلب مقولات "سوسير" بخصوص كيفية حدوث الدلالة على نفسها، مظهرة لجوانب النفي، ليصبح المحدد منها غير محدد، وما كان مركزياً يصبح مهمشاً. وباختصار فإن ما يفعله "دريدا" هنا، إنما يتمثل في استخدام اللغة ضد نفسها، وهو ما يلخصه "دريدا" بقوله: " إن التفكير بمعنى اللغة وبمسألة أصلها قد كانت ضريبته هذه الحروب التي تقودها اللغة ضد نفسها" وذلك يعني تفكيك "سوسير" بواسطة مقولاته نفسها لينطق "سوسير" بما لم يقله! ومطورا مقولاته إلى أبعد مدى يمكن أن تصله.
ففي تفكيكه الذي مارسه على مستوى المقولة السوسيرية عن (الاختلاف)، يصل "دريدا" إلى مقولة تتناقض بالكامل مع مقولات "سوسير" عن حدوث الدلالة. التي تتحقق عند هذا الأخير، بمطابقة الدال لمدلول معين. هذا التطابق عند "دريدا" لا يحدث أبدا، لأن الدال لا يستقر عند مدلول معين، منتجاً بذلك لمعنى أحادي أو حقيقة ثابتة. وطالما أن المدلول في حالة مراوغة دائمة للدال، فإن ذلك يعني انفتاح النص على التأويل وإعادة التأويل. ولكي تتحقق الدلالة، قال "سوسير" بأن اللغة نظام علامات تحكمه علاقات الاختلاف. فالعلامة تكتسب معناها بسبب اختلافها مع علامات أخرى، لا لصفة في ذاتها. في حين أن العلامة اللغوية بالنسبة لدريدا تؤكد غياب الشيء الذي تحدده. فلفظ "أحمر" داخل نسق لغوي يكتسب دلالته مع اختلافه مع لفظ "أبيض" و "أسود" وهو لفظ غائب عن النسق اللغوي في تلك الحالة. ومن خلال تحويله (حضور) العلامة داخل النظام اللغوي إلى (غياب)، فالشيء الذي تمثله العلامة اللغوية (غائب) عن النسق اللغوي، " فاللغة إنما هي الوسط الذي تجرى فيه لعبة الحضور والغياب". حيث تصبح العلامة في حضورها بديلاً عن الشيء الذي تشير إليه أو تدل عليه في غيابه. وكأن العلامة اللغوية في حضورها تؤجل حضور الشيء نفسه.
قوض "دريدا" مقولات "سوسير" عن كيفية حدوث الدلالة ليصل إلى "نفي ميتافيزيقا الحضور التي قامت منذ بدء الفلسفة بوجود ثوابت معرفية كانت دائماً أساساً للإحالات المرجعية، يصل دريدا بقراءته الجديدة للمعادلة السوسيرية إلى أن النص يؤدي إلى حضور في غياب وغياب في حضور من دون وجود حد فاصل أو ثابت بينهما، وما يقدمه النص في نهاية المطاف ليس "تثييتاً" لمعنى بل تأكيد للاختلاف، ليس معنى حاضراً، بل معنى مؤجل" مما يترتب عليه نفي صفة الثبات عن مفهوم الحقيقة، طالما أن الدال لا يستقر عند مدلول محدد لأن هذا المدلول بدوره سيتحول إلى دال ثاني يشير إلى مدلول ثاني هو بدوره سيتحول إلى دال ثالث وهكذا دواليك..الخ. ويصف دريدا هذه العملية بقوله: " إن بنية الإبدال هذه لمعقدة غاية التعقيد. فالدال بما هو بدل ليس له أن يمثل في الأصل المدلول الغائب فحسب، إنه يعوض دالاً غيره، نظاما آخر للدال له مع الحضور الغائب، علاقة أخرى تقدرها لعبة الاختلاف حق قدرها"
هذا يعني أن النص وأن كان يصل إلى حقيقة معينة لفترة مؤقتة، فليس في مقدوره الاستقرار والثبات عند حقيقة نهائية لأنها غائبة باستمرار. وبالتالي فإن هذه الحقيقة الغائبةـ إن وجدت ـ في حالة عدم استقرار و في حالة تغير وتبدل مستمرين. ويمكننا أن نذهب إلى أبعد من ذلك بالقول أن "دريدا" هنا يتبع خطى "نيتشه" فيما يتصل بإنكار الأخير إلى أية حقيقة، وهو ما ينطبق على تفكيكية "دريدا"، فطالما أنه ليس ثمة أي محدد للمعنى عند "دريدا"، وطالما أن المدلول في حالة مراوغة دائمة للدال، والدال في حالة توهان مستمر، نستنتج أنه ليس ثمة أية (حقيقة)! وإنما حصيلتنا النهائية هي دوما مجرد تأويلات ليست لها أية قداسة، طالما غاب المحدد النهائي للمعنى وللحقيقة، وهو ما يعني ل"دريدا" نفي إمكان حدوث معنى محدد أو حقيقة حرفية. وهذا يعني أن "حضور" العلامة اللغوية، متلفظة أو مكتوبة، يعني بالضرورة "غياب" الشيء، أو مفهومه، وهكذا بدلاً عن الدلالة نواجه بالاختلاف، وبدلاً من المعنى نواجه بالإرجاء المستمر له، ومفاهيم "دريدا" عن الغياب في الحضور، وعن الاختلاف بديلاً عن التثبيت، وعن الإرجاء المستمر للمعنى، تعني فيما تعني نسف العلاقة بالمفهوم السوسيري بين الدال والمدلول، إن "دريدا" وضع العلامة اللغوية بكاملها(قيد الشطب) مما يوسع دائرة المعرفي من ناحية، ويتفق مع روح الشك في أي سلطة مرجعية والذي بدأ ب"نيتشه" واستمر عند "فرويد" وانتهى ب"هايدجر". الأول وضع "فعل المعرفة" قيد الشطب، والثاني وضع "النفس" قيد الشطب، أما الثالث فوضع "الكينونة" ذاتها قيد الشطب. وها هو "دريدا" هنا يضع العلامة اللغوية بكاملها موضع الشطب.
إن الاختلاف مع "سوسير" يعني أن العنصر، أو الوحدة اللغوية، لفظاً كانت أو كلمة، تتحدد صفتها في اختلافها مع صفات عناصر أخرى، وكل العناصر حاضرة، وقادرة على الدلالة النهائية. أما الاختلاف الذي يتحدث عنه "دريدا" فهو اختلاف التأجيل المستمر للدلالة، وفي رفض صريح لميتافيزيقا الحضور. فالشيء المؤكد في فلسفة "دريدا" التأويلية هو الغياب، أو رفض الحضور. هكذا إذن حول دريدا (حضور) سوسير إلى (غياب)، ما دامت العلامة اللغوية لا تستطيع أن تمثل حرفياً ما تدل عليه، أي أن تنتج مدلولاً حاضراً، لأن علامة الشيء لابد أن تعني ضمناً غياب الشيء، إن التمثيل لا يمثل أبداً، لكنه يؤجل حضور المدلول أبداً. لقد قام "دريدا"ـ إذن ـ بنسف وحدة طرفي العلامة والذي يمثل أولى إستراتيجيات تفكيك النص وحرمانه سلطته التقليدية في أن يقول أو يعني شيئاً ما يمكن تثبيته، فلم تعد القضية عند أتباع "دريدا" قضية البحث عن معنى، بل التشكيك في إستراتيجية القراءة التي تبحث عن معنى للنص، بعد أن تحولت المدلولات إلى مجرد دوال فقط مما قاد إلى لانهائية الدلالة التي ستتعرض لعمليات تأجيل مستمرة.
والنتيجة المباشرة تتمثل في قطع كل خيوط التثبيت التي تستقر بالنص وتثبته ولو مؤقتاً عند نقطة ما وهو ما يفتح الباب على مصرعيه لما أسماه دريدا (اللعب الحر Free Play) للعلامة اللغوية، والذي يعني تجريد العلامة اللغوية من سلطة الإحالة إلى مركز مرجعي موثوق فيه، سواء كان العقل أو اللغة أو المعنى. وما يترتب على هذا التجريد من نسف سلطة العلامة اللغوية وحرمانها القدرة على الدلالة، واستحالة تثبيت معنى للنص. بذلك يؤسس "دريدا" لإستراتيجيته في تأويل النص، ذاك التأويل الذي لا يروم التوجه إلي أي أصل ولا يبحث عن أية إحالة مرجعية موثوق فيها وهو بذلك لا يسعى إلى تثبيت معنى للنص إعمالاً لمبدأ (اللعب الحر). على الضد تماماً من الفهم التقليدي لحقيقة النص، الذي يتجه إلى أصل ثابت أو إحالة مرجعية يتم في ضوئها تثبيت معنى للنص. وهذا الفهم الأخير في نظر التفكيكية يحرم النص قدرته على تعدد الدلالة وتفجر المعنى و"إساءة قراءته". و"إساءة القراءة"Misreading لا يعني كما قد يتبادر للذهن، القراءة الخاطئة للنص، لكنها تعني أن كل قراءة للنص تنتج معنى لا يتم تثبيته إلا إلى حين، إلى أن تجئ قراءة جديدة تقوم بتفكيك النص من جديد، وتفكيك القراءة السابقة.
إن نسف وتقويض علاقة التوحد ما بين الدال والمدلول، ما بين العلامة اللغوية وما تشير إليه، تضرب سلطة الحقيقة في الصميم. وبهذا المعنى فإن السلطة التي يفرضها النص على المؤول لتفسيره أو قراءته بهذه الطريقة أو تلك، هي ما تنفي تفكيكية "دريدا" وجودها. وقد أكد "دريدا" أن الحقيقة بمفهومها التقليدي والمتعارف عليه هي مجرد (وهم)، بعد أن تم اجتياح حدودها وتقويض سلطتها. مع "دريدا" لم تعد الحقيقة قولا مكتملاً أو مضموناً نهائياً، بل شبكة اختلافات، نسيج من الآثار التي تشير بصورة لانهائية إلى أشياء غير نفسها، إلى آثار اختلافات أخرى. الحقيقة معه "لعبة كاحتمال" و "خلخلة وإزاحة"، تشابك معني وعبارة وإشارة، طبقات مترسبة ينبغي نحتها وإزاحتها، طبقات منسوجة يتعذر الكشف عن لحمة النسيج والسلسلة فيها. تتشابك جذورها وتتداخل وظائفها، فلا يتعلق الأمر بنسق أو مذهب وإنما ببذر وتطعيم، بحث منهوم في حفريات النص عما يشبع الرغبة الجامحة للوحش الهرمنيوطيقي المختبئ في جسد (النص-الاستعارة)، ويدعو إلى تقويض دعائم التمركز والتطابق. هذا المفهوم للحقيقة هو خارج نطاق الألفة والتكرار، فهي بهذا المعنى تتحاشى الارتهان للحظة الحاضرة وتنفتح دوما للمستقبل، وبالتالي فهي تخرج من أسوار الافتراض الإبستمولوجي إفلاتاً من هيمنة وقهرية المعرفة المطلقة والمغلقة. وليس ثمة مجموعة قواعد تقود الذهن- إذا اتبعها- إلى معرفة الحقيقة. والخلاصة أن هذا الموقف التأويلي الفلسفي، يريد أن يبطل نمطاً معيناً من إرادة الخطاب، ومن سلطة الحقيقة التي يحاول بكل الوسائل أن يفككها ويربكها ويكشف عن مكبوتاتها وإقصاءاتها وحيلها.
هي إذن إستراتيجية في القراءة والتأويل " تقوم على "التفكيك". وبالتضاد مع مفاهيم "الأصل" و "الهوية" و "الكلية"، يعرف كل شيء باتجاه "الاختلاف". فبالتضاد مع "الأزواج" المفهومية أو المفاهيم المزدوجة التي يتمحور حولها الفكر الميتافيزيقي الغربي، والتي تحيل إلى "طوابق" وعلاقات متراتبة محكومة بالتوزع إلى: أعلى/أسفل، واقعي/خيالي، الواقع/الحلم، الخير/الشر، الباطن/البرانية، الكلام/ الكتابة، المثال/ المادة، الشرق/ الغرب، المذكر/ المؤنث، المدلول/ الدال، الخ... وبدلاًَ من ذلك يقترح دريدا ويدفع إلى العمل سلسلة من الكلمات مزدوجة المعاني تحمل في داخلها قوة الخلخلة والتفكيك عملت الميتافيزيقا الغربية على الحط من أحد معانيها دائماً". مثل الأثر، الاحتياطي، المكمل، الانتشار، الحضور والغياب، الاختلاف والإرجاء، اللعب الحر للدلالة..الخ. ومن هذه المفردات: (الأثر) مثلا الذي " يشير في الأوان ذاته، إلى إمحاء الشيء وبقائه في الباقي من علاماته. هكذا يكون الأثر قناة للارتباط بسابق النصوص والعلامات، وللتيه في علامات أخرى لاحقة... و(الملحق)- الزيادة- الذي يشير إلى ما نضيفه، فهو يأتي ليلتصق بالشيء، ليتطفل عليه، أو ليسد فيه نقصاً. ويقوم عمل دريدا على بعث طاقة التعبير الحية في المعنى الآخر المهمش لكل من هذه المفهومات، والتأكيد عليه بقوة، بحيث يعود يواجهنا كلما ورد ذكر الكلمة المتضمنة عليه، التي يجهد المؤلف في إخفائها في المتن؟ إنها إجمالاً مفردات لا تمثل كلمات- بالمعنى الكلاسيكي لكلمة مغلقة على ذاتها وكامنة لنفسها- ولا مفهومات، بل هي تعمل كحزمة من الكلمات والمفهومات قابلة لا فقط لتعدد استعمالاتها، وإنما للدخول مع مفردات أخرى في تركيبات عنقودية محكومة إيقاعياً ودلالياً".
والخلاصة إن الموقف التقليدي من مفهوم الحقيقة، يقوم على التعامل مع النص على أساس وجود ثوابت ومسلمات مبدئية تنطلق من أن هناك نصُ و هناك حقيقة يريد النص توصيلها إلينا عبر شبكة علاماته اللغوية, وأن الاثنين ليسا منفصلين. أما الموقف التفكيكي من الحقيقة فيقوم على رفض تلك "السذاجة". فالنص من منظور تفكيكي, ليس كيانا محدد بل مجرد دوال تحيل إلي دوال أخرى, وهكذا...إلي مالا نهاية. على هذا الأساس, لا يصبح هدف التأويل البحث عن حقيقة أصلاً، وإنما المهم هو تأكيد عمليات الارتحال عن الحقيقة وليس عمليات الوصول إليها. ولذلك فالحقيقة في حالة إرجاء مستمر، طالما أن العلامة اللغوية عاجزة عن الإتيان بالشيء أو بالفكرة التي تمثلها، فحضور العلامة اللغوية داخل النسق اللغوي يعني غياب ما تشير إليه، وعلى هذا فإن اللغة هي حضور مرجأ للأشياء أو المعاني، ولا يمكن إذن افتراض حضورها في وجود اللغة. ويمكننا توضيح ذلك بشكل بسيط بالقول: حينما نستخدم لفظ (أسد) مثلا، فإن (الأسد الحيوان) ذاته ليس حاضرا في النطق أو الكتابة، ولكنه غائب بعد أن استبدلنا به الرمز اللغوي (أسد). وبصرف النظر إذا كانت هذه العلامة تشير إلى صورة حسية– كما في مفهوم اللغة كمواضعة، فتجنشتين والوضعية المنطقية مثلا– أو إلى صورة عقلية– كما في مفهوم النظرية اللغوية الحديثة، سوسير والبنيوية مثلا– فإن حضور هذه العلامة داخل النسق اللغوي هو نفسه (غياب) الشيء المشار إليه، برغم (حضور) ممثله اللغوي. وبالتالي فإن المنظور التفكيكي يرى أن الحضور الوحيد هو حضور اللغة الذي يعني في الآن ذاته غياب الأشياء التي جاءت اللغة لتحل محلها، إلا أن ضريبة ذلك الحلول تمثلت في حجب الأشياء وغيابها، فاللغة تحجب الأشياء وتخفيها عبر حضورها. ومعنى ذلك أن المدلول الحقيقي في حالة مراوغة مستمرة للدال، وأن كل محاولة لتثبيت مدلول أحد الدوال سرعان ما تحول المدلول إلى دال يشير إلى مدلول آخر، وهكذا. وهذا هو جوهر المقولة التفكيكية: All reading are misreading كل قراءة هي إساءة قراءة. وإساءة القراءة بهذا المعنى تعني أن ثمة مسافة أو فجوة دائمة بين الدال والمدلول ترجي باستمرار الاستقرار عند معنى ثابت أو حقيقة معينة، مفسحة المجال بذلك لتعدد الدلالة بل لانهائيتها، إذ أن حركة التدليل كلما ثبتت مدلولاً ما، سرعان ما يراوغ داله ويتحول إلى دال يحاول بدوره الإحالة إلى مدلول آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ما زلنا نتابع.....
محمد أيتا ( 2012 / 2 / 20 - 00:50 )
لك كل الشكر على المعلومات الفلسفية العميقة التي تتحفنا بها يوما بعد يوم، وأنا من قرائك المعجبين بعرضك السهل الممتنع، واسمح لي أن أطرح عليكم سؤالا بمناسبة -التفكيكية-، وليكن في كريم علمكم أنني أعترف بإيجابيات هذه القراءة الجريئة، وبما قدمته من تقويض المركزية الأوربية، نهائيا عند التفكيكيين، والتشكيك على الأقل عند غيرهم .... ومـا أحوجنا نحن إلى أمثال دريدا، لكن لدي أرق بيداغوجي ربما، وقلق معرفي أيضا، فيما يتعلق بهذا النوع من القراءات، فالمتعلم لا شك بحاجة إلى قدر غير قليل من -اليقين- حول مصداقية ما يتلقاه، فما ذا تراه يفهم عندما تقنعه بعدم إمكان -القبض على المعنى-، وتتركه للعبث، في متاهات اللامعنى.كما أن هذه القراءة تقوض كذلك أساسي -القويم، والتقييم-، فهما يقوم بهما القابض على -جمرة الدلالة ـ الحقيقة - -
كما أن التصنيف معرفيا، كما معقولية المعلومات بحاجة كذلك إلى حظ من الإيمان بالوصول إلى -الدلالة-، التي علينا أن نستوعبها، وأن نصنفها، ولا يحصل ذلك عندما نرجئ المعنى
أرجو توضيحا وافيا حول هذا النقط. ...


2 - نحن أحوج ما نكون للتفكيكية
مجدي عزالدين حسن ( 2012 / 2 / 20 - 08:13 )
نحن أحوج ما نكون للتفكيكية، لأنها تُقدم لناعتاد نظري بوسعنا توظيفه في معركتنا ضد كافة أشكال الانغلاق المذهبي: الفلسفي، الديني، والتراثي. وهي إستراتيجية لتفكيك النص بهدف فهمه، واستقصاء بنيته ووظيفته، واكتشاف ميكانيزماته، وذلك بتفكيكها لبنى النص ووحداته الأولية التي توهم بثباته، بحثاً عن المعنى الذي يختبئ في جسد الاستعارة ونفحات اللعب، ليظل التحديد هو نفسه اللاتحديد. إن التفكيك بهذا المعنى، إستراتيجية لا تشير إلى معلوم ثابت وإنما إلى استقصاء مواقع الغائب وآثار الراحل ومسارات الراجل. وعليه فإن ما يجعل التفكيك إستراتيجية لقراءة النصوص هو أنها تؤسس للاختلاف وللاحتواء معاً. حيث يتوجه التفكيك إلى (زئبقية) النص الذي يتوخى استقصاءه وفك عقدته وقراءة رموزه وإشاراته. التفكيك، إذن، هو الاختلاف والمغايرة خارج الهوية الواحدة، وخارج التطابق مع الآخر، وبذلك تصبح هوية النص (وبالتالي حقيقته) سيلان متدفق متحول بإستمرار.
خالص تحياتي لك محمد أيتا. وسأفصل لك أكثر في مقالي القادم


3 - تعجب تساؤل!!
عبدالغني زيدان ( 2012 / 2 / 20 - 08:36 )
استاذ مجدي صدقا وارجوك تقبلها مني بصدر رحب ماذا افدتنا في هذا السياق والبحث حول مفهوم الحقيقة من منظور غربي حتى انني لا ارى لديك راي شخصي في هذا السياق
واتعجب ايضا لعدم اهتمام جمهور الحوار المتمدن لهذا الموضوع اتعلم لماذا هو انك قمت بطرح نظرية قديمة في سياقها القديم من منظور غربي فشل في هذا المظمار
الحق اقول لك لم اجد شخصا اكثر جرئة ومصداقية من الفلاسفة ك فريدرك فيستر حين قال ان كل انسان عبارة عن خيال، وفي الحقيقة ليس هدا الكون الا ظلا وكل مايعاش فيه عابر وغرور
والاجمل من هذا هو صياغة العالم الاسلامي الجليل هارون يحيى اخضع مفهوم الحقيقة للعلم في الدماغ والنفس وليس علم فلسفة الكلام الفوضوي لان هكذا مفاهيم لها قداسة خاصة لدى الانسان الباحث عن الحق والحقيقة يتوجب طرحها حسب اسس ثابته ومرجعية صحيحة ك العلم وليس العبث بها لزيادة سرمديتها ولونها الرمادي الذي صبغة الفلاسفة الفوضويين الغربيين


4 - أفادنا الكثير
محمد أيتا ( 2012 / 2 / 20 - 10:51 )
أستسمح الباحث اولا، والأخ عبد الغني ثانيا، لأصرح للأخير بالقول:
أية فائدة أكبر من هذا الزخم المعرفي الغني الذي يلخصه لنا الدكتور الباحث منذ أيام؟
لقد اختار لقراء الحوار عدة أنواع من الموائد المعرفية، على طبق من ذهب، -الفلسفة/ التيارات الفلسفية/ اللسانيات العامة/ فلسفة اللغة/ البنيوية/ التفكيكية/ خطاب الحداثة .....-، كل هذه الجوانب وغيرها لخصها الباحث بطريقة فريدة.
ألا ترى يا عبد الغني بأن هناك مفاهيم محورية خطيرة تجثم على صدور الأمة العربية، يجب على المثقفين تعريتها، وكشفها، وليس لهم من سلاح للقضاء على -الدكتاتورية- إلا دك تلك الأساسيات، وسحب ذلك البساط من تحت أقدامهم، مثل : (السلطة/ النص/ الحقيقة/ التأويل ...)وأهمها هي -الحقيقة- موضوع الباحث، فعندما تتنازل السلطة عن ادعاء امتلاك الحقيقة النهائية فسوف يتقلص عنفها، وتتوارى النظرة الدونية للآخر، وتحدث كل قيم الديمقراطية من العدالة، والمساواة، والحرية، تلك المطالب لن تتحقق بين -محتكري الحقيقة-.


5 - رد للاخ محمد
عبدالغني زيدان ( 2012 / 2 / 20 - 11:45 )
تجثم على صدور الأمة العربية، يجب على المثقفين تعريتها، وكشفها، وليس لهم من سلاح
هذا هو ما اريده يا استاذ محمد سبق وتعاتبت انا والاستاذ مجدي ولا انكر وصدقا لا اعلم كيف اشكره على ما قام به من عمل هام انا اعتبره من اهم ما تم نشره في الحوار المتمدن ولكن موضوع الحقيقة وقلت بانه يحتل مكانة مقدسة لدى المفكر العربي لذى يتوجب تعريته واعادة صبغة بعقلية عربية حرة وليس نقل فلسفة الغرب لهذا المفهوم وما الحقو به من سرمدية ورمادية اللون بحيث اصبح من الصعب كشف ماهيته بع ما جرى عليه من احاديث وفلسفات
كنت اود من الاستاذ مجدي لما له من قوة ومعرفة ادراكية حول هذا المفهوم لو انه طرحه من باب تعريته حسب متطلبات المثقف العربي وعقليته
ارجو من الجميع عدم قراءة كلامي انه تهكم على الاستاذ مجدي وشكرا

اخر الافلام

.. ماذا قال النائب الفرنسي الذي رفع العلم الفلسطيني في الجمعية


.. لا التحذيرات ولا القرارات ولا الاحتجاجات قادرة على وقف الهجو




.. تحديات وأمواج عاتية وأضرار.. شاهد ما حل بالرصيف العائم في غز


.. لجنة التاريخ والذاكرة الجزائرية الفرنسية تعقد اجتماعها الخام




.. إياد الفرا: الاعتبارات السياسية حاضرة في اجتياح رفح