الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


السلطة والإنسان الأدنى (2-2)

نضال شاكر البيابي

2012 / 2 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


في المقالة السابقة، قلنا: إن السلطة التقليدية التي تستمد نفوذها من " الأمس الأزلي " وسلطة الأعراف العريقة، لا تلجأ إلى العنف فقط لتحقيق أهدافها، وتعزيز هيمنتها على المدى البعيد، إنما تستثمر قائمة طويلة من الأعراف والتقاليد والطقوس والاحتفالات لكي تؤمن استمرارها وتجدّد دورها في المجتمع، ولكي تتفادى أيضاً، كل محاولات التمرد على أنساقها ولو بعد حين.
بتعبير آخر، أن خطابات السلطة وأدواتها، هي عند الفحص مجرد وسائل قمعية، غايتها المنع والإقصاء والإسكات، أي (إعدام) ما يجب قمعه بمجرّد محاولة ظهوره – حسب تعبير فوكو، وفقاً لآلية ثلاثية ( التحريم، والتغييب، والاجتثاث). وهكذا يمكن الحفاظ على ديمومة السلطة ومنعها من التشتّت في ظل المراقبة المؤسّساتية الصارمة لكل مستويات الحياة ( الاجتماعية والدينية، والإبداعية ..إلخ )التي تؤدي في الغالب الأعم إلى إنتاج الهيمنات والتبعيات.
نحن إزاء ذات عليا، لاهوت لا يُمس، سُخر له كل شيء، الأرض ومن عليها، ولا غرابة إذن أن يكون مآل غيرها من الخلائق الذين يرزحون تحت رحمتها الدوس والتدمير، أو التدجين التام في أحسن الأحوال، الذين لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا أنفسهم تحت رحمتها وسطوتها، الأمر الذي يحوّل حياتهم إلى حالة طوارئ مستمرة.
فتحت شعارات زائفة وكارثية من مثل مشاريع الإصلاح والتنمية، وبحجة حماية أمن الوطن والمواطنين، أو حماية مبادئ " الثورة " والدستور، تنتهك كل الحدود والحرمات.
نظام على هذا النحو بطبيعة الحال سيؤسس رهبته وهيبته في نفوس الناس من خلال قوة رادعة في شدتها وقسوتها، بحيث تصبح كالقضاء والقدر الذي لا راد له ولا لطف فيه.
فوكو في كتابه الشهير (المراقبة والعقاب) قدّم عرضاً مفصلاً بالدقائق الرهيبة للعقوبات التي ينزلها المستبد بـ" الجناة ".
إنها ليست مجرد تأديب، أو حتى قتل فحسب، بل هي تفنُّن في الترويع الذي تشيب له الولدان.
الترويع يصبح حتمياً لا راد له ولا مفر منه، إذا وقع إنسان فيما يعتبر خطيئة أو تطاول أو تهديد لسلطات المستبد، فلا بد من الردع والترويض، أو غرس ما يسمى بـ" كلفة السلوك " لسكنر.
فمن خلال تعزيز وسائل الردع الصارمة يتعلم الإنسان الأدنى أن يرتدع ذاتياً ويضبط سلوكه تلقائياً، حين يجد أن سلوكه، أو تصرفه أو طموحه أو ميله، ذو كلفةٍ تكاد تكون كارثية، إن تجرأ وأقدم، أو سولت له نفسه تجاوز الخطوط الحمر لسلطات المستبد.
إن الردع الذاتي يتشكل تدريجياً بسبب تراكمات الخوف من عواقب "كلفة السلوك"، وقد يصل الأمر إلى حد ردع النوايا ذاتها، فيتحول الإنسان الأدنى إلى رقيب ومتسلط على ذاته، كي يأمن سوء العاقبة أو يتجنب الكارثة التي لا قبل له أو لذويه بها.
في بجعاتها البرية تعبّر يونغ تشانغ عن أثر الخوف الممتزج بالولاء المطلق الذي قد يصل حد الهوس في مراجعة مستمرة ودائمة للنفس.. تقول تشانغ: "حينذاك كنت قد تمرست بعادة النقد الذاتي، وكنت ألوم نفسي تلقائياً على أي نوازع تتعارض مع توجيهات ماو.
كانت مثل هذه المشاعر تخيفني، ولم يكن وارداً أن أناقشها مع أحد. بدلاً من ذلك حاولت كبتها، والتحلي بطريقة التفكير( السليمة )، وعشت في حالة من الاتهام الذاتي الدائم.
إن مجرد الاستفسار أو السؤال من أجل التوضيح أو الفهم يصبح خيانة، وأكثر من ذلك مجرد التفكير بالسؤال والاستفسار هو تطاول وخيانة".
وهناك أيضا ما يسمى بـاستراتيجية "الصيد السلوكي"، وهو التركيز على السلوكيات ذات الأهمية التي تتعلق بتوطيد سلطة المستبد وإلغاء أي سلوكيات تهددها، وتعني بتعبير آخر اصطياد تلك السلوكيات التي تخدم تعزيز سلطات المستبد والشغل عليها، بشكل انتقائي؛ وبالتالي تنشر سطوة المستبد على جميع نقاطه، بحيث تغطي كامل المجال الحيوي للمواطنين.
إن عملية تعميم السلوك تتم في الغالب الأعم من خلال ممارسة الجهات الأمنية للقمع الممنهج في أوضاع وكيفيات وأوقات مختلفة حتى تقفل دائرة الاحتجاجات تماماً.
وإذا لم تنجح هذه الوسائل، تلجأ السلطة بكل ما تملك من قوى أمنية وإعلامية وروحية إلى ترويض الساخطين من خلال غرس حالة الاستسلام البليد لأقدارهم، حتى تنعدم ردود الفعل تجاه كل المثيرات.
الواقع أن السلطة الاستبدادية لا تقبل سوى المديح والتمجيد، وأي نقد ولو كان جزئياً، لابدّ من قمعه وإرجاع العضو العاق إلى " الحظيرة "، كما ترد " الكباش الضائعة " على حد تعبير أدونيس.
ومن المعروف في علم الصحة النفسية أن الإنسان مدفوع بطبيعته – ما قبل التدجين – لأن يكون كياناً قائماً بذاته، ولأن يحقق هوية كيانية مستقلة وقائمة بذاتها. فإذا تمّ الاعتراف به كإنسان كامل الأهلية وبشكل غير مشروط تفتح أمامه آفاق التوازن النفسي والوفاق مع الذات والآخرين، كما تنمو لديه الثقة بالنفس والنظرة الإيجابية إلى الذات، والدافعية للعمل والإنجاز، وصولاً إلى الإبداع. لكن سلطة الأمس الأزلي لا تقبلك إلا من خلال اشتراطات متعسفة ( أنا أقبلك ما دمتَ كما أريد أنا، وليس كما ترغب أنت أن تكون).








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. العراق: السجن 15 عاما للمثليين والمتحولين جنسيا بموجب قانون


.. هدنة غزة تسابق اجتياح رفح.. هل تنهي مفاوضات تل أبيب ما عجزت




.. رئيس إقليم كردستان يصل بغداد لبحث ملفات عدة شائكة مع الحكومة


.. ما أبرز المشكلات التي يعاني منها المواطنون في شمال قطاع غزة؟




.. كيف تحولت الضربات في البحر الأحمر لأزمة وضغط على التجارة بال