الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحقيقة أم التأويل: التساؤل بشأن (حقيقية) الحقيقة(5)

مجدي عزالدين حسن

2012 / 2 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يمكننا القول: ابتداءً من "نيتشه" ومن مقولته الشهيرة ( لا توجد حقائق وإنما فقط تأويلات)، التي تعني " انخراط نيتشه في التأويل، واستباقه لما عرف بالهرمنيوطيقا فيما بعد.(...). فابتداءً من معنى التأويل الذي يخرج عن معنى المفرد إلى صيغة الجمع "تأويلات" بمعنى أنه يستحيل الأخذ بمعنى واحد ونهائي" ومن زاوية النظر هذه، فإن الحقيقة والتأويل هما وجهان لعملة واحدة. حيث يفضي بنا تأويل الحقيقة إلى نقد البُعد الأحادي والتمركزي والذاتوي والسلطوي فيها قصد ربطها بأبعادها المتعددة وفتحها على معانيها المهمشة ودلالاتها المغايرة ومفاهيمها المقهورة والمطموسة. وبذلك تسهم الهرمنيوطيقا " في توجيه الوعي نحو (حقيقة) كصناعة أو تشكيل أو تشكل أو تنوع ينتفي معها الإطلاق أو التعالي أو القداسة أو الأسطرة. وإذا كانت الحقيقة عبارة عن تأويل، فإن التأويل ليس فقط "تاريخية الحقيقة"( أو الحقيقة بوصفها تاريخ الخطابات والإرادات والتمثلات والمؤسسات) وإنما أيضاً "حقيقة تاريخية" تجلت في صراع التأويلات وتنوع التفسيرات واختلاف الأذواق والآفاق. فالتأويل ليس مجرد وصف أمين للواقع أو تفسير مطابق للنص وإنما هو "إحالة" أو بالتعبير التفكيكي "اختلاف"
وبالتالي فمنذ "نيتشه" ومرورا بالهرمنيوطيقا، تغير الموقف من الحقيقة، وتبدلت الرؤية إليها. حيث حدث تغير في شكل التفكير فيها، وفي نمط التعامل معها، خاصة بعد ظهور ميادين معرفية جديدة، كالنص والخطاب: حيث أصبح يُنظر للنص/الخطاب باعتباره " منتج للحقيقة لا مجرد راوٍ لها أو ناقل أو مترجم" ومعنى ذلك " أن لا حقيقة كلية ساطعة يمكن القبض عليها. وإنما الحقيقة تُنتج عبر الخطابات والروايات والسلطات والمؤسسات وكل ما من شأنه الإسهام في خلق الوقائع أو توليد المفاعيل والآثار. من هنا تتغير إشكالية العلاقة مع الحقيقة بمعنى أن البحث عن الحقيقة لم يعد محور التفكير، وإنما يتعلق الأمر بإستراتيجية نقدية تحملنا على ممارسة علاقتنا بوجودنا على نحو تبدو معه الحقيقة أقل حقيقية، والذات أقل شفافية، والموضوع أقل مثولاً، والكائن أقل انكشافاً، والفكر أقل قبضاً واستيلاءً" وذلك يعني فيما يعنيه أن الحقيقة ليست كيان قائم بذاته، وإنما هي دوما تأتي كنتاج محصلة اشتغالنا على النصوص والخطابات. وبالتالي نحن هنا نصدر من موقف ينزع عن الحقيقة غطاءها القدسي ويكف عن التعامل معها كمفهوم يتعالى على شروط إمكانه، وهو ذات الموقف الذي يلفت نظرنا للطرائق وللآليات والأدوات والإجراءات والمؤسسات التي تشكلت بها الحقيقة.
في ذات السياق" يعتبر فاتيمو أن الهرمنيوطيقا هي إحدى نتائج الحداثة، لكنها أيضا تجربة ما بعد حداثية لأن الحقيقة تنتقل من البحث عن العلل أو الأصول أو المطابقات في الفضاء الحداثي إلى الممارسة البلاغية أو المجازية أو الجمالية في فكر ما بعد الحداثة." وبالتالي يمكننا النظر للحقيقة من منظور هرمنيوطيقي على اعتبارها صيرورة دائمة من التصحيح والتطوير، وهي بهذا المعنى دائمة التحول والتغير. وهي بهذا تتجاوز المفهوم التقليدي المتعاطي معها بوصفها حقيقة كلية ثابتة مطلقة متعالية حتى على التاريخ نفسه. وعلى العكس من ذلك تماماً، فإننا نجد أن المنظور الهرمنيوطيقي(التأويلي) ينطلق من مسلمة أساسية تتمثل في أنه لا توجد حقيقة خارج بعدها الأونطولوجي وشرطها الإنساني وبالتالي فلا (معنى) يتجاوز الشرط البشري وأوهامه وتخيلاته، والمنظور الهرمنيوطيقي بذلك يقر ويعترف بمشروطية الذات العارفة وتاريخيتها، و يتخلى في الآن ذاته عن فكرة الحقيقة المطلقة وإمكانية امتلاكها، ليحل مكانها مفهوماً جديداً لحقيقة نسبية هي دوما غير مكتملة ومتدرجة ولها قابلية دائمة للتصحيح والتعديل والتطوير باستمرار.
يظهر لنا التفكيك الفلسفي لمفهوم "الحقيقة" أن خطاب الحقيقة الذي يدعي صفة العلمية والموضوعية والحياد يتضمن في متنه ما هو غيبي وأسطوري وقدسي مما يتنافي مع ما يشير إليه. وحتى على مستوى العلوم الطبيعية لم يعد العلماء يتعاطون مع الحقيقة العلمية على نحو يقيني دوغمائي، بل على العكس من ذلك فإننا واجدون خاصة بعد نظرية الكوانتم والنسبية أن مفهوم الحقيقة العلمية قد تجاوز سمتها الإطلاقية واليقينية وانفتح على النسبية والاحتمالية. بينما في التصور التقليدي لمفهوم "الحقيقة" تم توظيف هذا المفهوم على نحو ما ورائي. وتاريخ مفهوم "الحقيقة" في محصلة التحليل النهائي يثبت لنا بما لا يدع مجالا للشك على أن "الحقيقة" ما هي إلا مفاهيم ومقولات وأنسقة وأنظمة لها خاصية التشكل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هي محصلة خطاباتنا وممارستنا. إنها علاقات وبنى أو أشكال تٌصنع وتُبنى أو تتشكل باستمرار. ولا يمكن أن تظل ثابتة إلى الأبد، بل هي تحتاج دوماً إلى الفحص والنقد والمساءلة فهي كشف لا نهائي.
بالتالي فإن الهرمنيوطيقا تأسس نظرياً وأخلاقياً لمفهوم "انفتاحية" الحقيقة، وهي بذلك تدعونا إلى ممارسة الاختلاف بصورة ايجابية فعّالة مفتوحة تستثمر العلاقة الجدلية ما بين الأنا والأخر في إنتاج خطابها. و"انفتاحية" الحقيقة إنما نعني بها كسر طوق "الأنا" باعتباره مركزا للنسقية المغلقة، لتصبح بذلك تفكيك مستمر لطرائق إنتاجها، وتعرية للأسس الأسطورية والجوانب القدسية التي ينهض عليها خطاب الحقيقة، والكشف عن ما هو نسبي وبشري ودنيوي وتاريخي وعن كل ما هو مستتر ومحجوب وراء خطاب المطلق والإلهي والديني والماورائي المتعالي. " وهذا شأن خطاب الحقيقة نفسه، ذلك أن الذي يدعي رواية الحقيقة يخفي أولاً حقيقة الخطاب الذي يُنسى في معرض الرواية. ويخفي ثانيا ما يتكلم عليه، أي الحقيقة نفسها، إذ هو بتسميته لها يحولها إلى شيء لاهوتي ماورائي، أي إلى شيء أحادي مطلق يتعالى على حدثيته ويفارق محايثته، وذلك باستخدامه مفهومات كالذات والحضور والوعي والتطابق واليقين والثبوت... هذه هي الأدوات المفهومية التي تُستعمل في خطاب الحقيقة والتي يعمل النقد على دائرة تفكيكها واختراق كثافتها. إنها البداهات المنسية التي يسكت عليها الخطاب ويستبعدها من النقد والفحص أي هي ما ينبغي مساءلته واستنطاقه"
فبذلك يمكننا القول بأن النص لا ينص على حقيقة معينة واحدة ومحددة بقدر ما أن حقيقة النص هي نتاج قراءته المشروطة، ف" أن تكون للنص حقيقته، معناه أن النص لا ينص على الحقيقة. لأن الخطاب الذي يكون مجرد نص على الحقيقة ينتهي بانتهاء الوقائع التي هي إجراءات الحقيقة. أما النص الذي يفرض نفسه، فهو الذي يحثنا دوما للرجوع إليه لفهم الواقع والحقيقة. بكلمة النص لا يقول الحقيقة بل يفتح علاقة مع الحقيقة"
الحقيقة هنا متحررة من أية نزعة مذهبية دوغمائية، ومضادة لكل نزعة موضوعية يقينية تدعي وجود الحقيقة في صورتها النهائية القاطعة. فالحقيقة تظل دائما حقيقة إنسانية، بمعنى أنها تظل (حقيقة بالنسبة لنا) وليست (حقيقة في ذاتها). وفي هذا السياق تندرج آخر كلمات "غادامر" الذي سطرها في خاتمة كتابه" "سيكون تأويلياً بائساً ذاك الذي امن بإمكان أن تكون، أو وجب أن تكون، له الكلمة الأخيرة" وما نستقرأه من المقولة الغادامرية السابقة هو: أن لا حقيقة ثابتة ونهائية للنص يجب الركون إليها والوثوق بها، ويشرح لنا ذلك علي حرب بقوله: " تقوم بين المرء وذاته وسائط وحجب ووجوه وعلاقات أو طبقات تٌلقي ظلالا من الشك على مفهومات الحضور والوعي والتمثل، وتزعزع التصور التقليدي للحقيقة بوصفها تطابق الذات والموضوع. فاليات الخطاب وإجراءاته تسهم في إنتاج الحقيقة"
أسهمت الهرمنيوطيقا في تدشين أبعاد جديدة لمفهوم "الحقيقة"، مما كان له عظيم الأثر في نقد ومراجعة التصور الفلسفي التقليدي للحقيقة وبالتالي ميلاد فهم للحقيقة قائم على التعدد والاختلاف والضدية والانفتاح، وهو ما من شأنه كما يقول على حرب: " فتح علاقة جديدة مع الحقيقة من شأنها أن تغير مفهومنا لها وأن تبدل طريقة تعاملنا معها. ففي منظور النقد ليست الحقيقة جوهرا يتعالى على شروطه أو يوجد بمعزل عن الخطاب، وإنما هي ما يخلقه النص نفسه. بكلام اخر: النص من هذه الوجهة لا يبحث عن الحقيقة بقدر ما يفرض حقيقته" الهرمنيوطيقا بذلك تدعونا إلى تغيير المفهوم التقليدي للحقيقة الناظر إليها باعتبارها مجرد معادلة حسابية صحتها تتمثل في تطابق طرفيها، فالتصور التقليدي للحقيقة ينظر إليها على أنها في المحصلة النهائية: مطابقة ما هو فكري مع ما هو واقعي، أو الدال مع المدلول، أو الذات مع الموضوع. وبدلا من ذلك تمثّل الفتح الهرمنيوطيقي في تدشين أبعاد جديدة غير معهودة لمفهوم "الحقيقة"، الأمر الذي ترتب عليه إثراء مفهوم "الحقيقة" بانفتاحه على الغيرية والضدية وقبوله بالتعدد وبالاختلاف كسمة من سمات الحقيقة الإنسانية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أفضي بنا هذا الفتح الهرمنيوطيقي إلى تغيير وتبديل طريقة تعاطينا مع مفهوم "الحقيقة" ذاته: فبداية من فجر الفلسفة النيتشوية صار من التعسف بمكان الحديث عن حقيقة أحادية ثابتة لا تتغير، بل يذهب "نيتشه" إلى ما هو أبعد من ذلك بتأكيده على أنه لا توجد حقائق البتة وإنما مجرد تأويلات فقط مما يؤدي بدوره إلى إفراز مفهوم جديد للحقيقة قائم بشكل أساسي على التأويل. وبقدر ما أسهمت وجهة النظر النيتشوية بدورها في زحزحة الإشكالية من محلها القديم وأعادت صياغة وترتيب العلاقات للعناصر المكونة لها، نقول أنها بقدر ما نجحت في ذلك، إلا أنها أخفقت أو بالأحرى ولدت إشكالية أخرى يمكن التعبير عنها في التساؤل التالي: إذا سلمنا جدلا أنه لا توجد حقائق وإنما مجرد تأويلات فقط. هل ثمة معايير نستطيع من خلالها الحكم على صلاحية تأويل ما من بين مجموعة تأويلات متعددة ومختلفة لنص واحد؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سؤال: كيف يجب أن نتعاطى مع الحقيقة؟
مجدي عزالدين حسن ( 2012 / 2 / 21 - 21:00 )
أنا أرى: (أننا) ليس بوسعنا الخروج من عصرنا (الظلامي) هذا والدخول في عصر التنوير، ما لم نُغير من طريقة (تعاطينا) مع (الحقيقة)، وما لم تتبدل رؤيتنا إليها، وما لم نُغير في شكل تفكيرنا فيها، وفي نمط تعاملنا معها. فالإنسان هو (منتج) و(مخرج) و(مؤلف) الحقيقة أولاً وأخيراً عبر ما يُخلفه الواقع الإنساني من خطابات ونصوص، سلطات ومؤسسات..الخ. من هنا أدعو إلى (موقف معرفي ثوري) يُغير من طريقة تعاطينا مع إشكالية الحقيقة (أولاً)، ويُفضي بنا إلى إستراتيجية نقدية تحملنا على ممارسة علاقتنا بوجودنا (المنسي) و(الغائب). أخيراً: الحقيقة في ظني ليست كيان قائم بذاته، وإنما هي دوماً تأتي كنتاج محصلة اشتغالنا على النصوص والخطابات، على الواقع والوجود..الخ
وبالتالي أنا هنا أصدر من موقف ينزع عن الحقيقة غطاءها القدسي ويكف عن التعامل معها كمفهوم يتعالى على شروط إمكانه، وهو ذات الموقف الذي يلفت نظرنا للطرائق وللآليات والأدوات والإجراءات والمؤسسات التي تشكلت بها (حقيقة) الحقيقة نفسها عبر التاريخ.


2 - أنت في منطقة حساسة حقا أيها اللساني!
محمد أيتا ( 2012 / 2 / 23 - 02:49 )
ما زلنا نتابع دروسك المفيدة، ولا شك أنك تضرب على الوتر، وتمشي في منطقة حساسة من خلال هذا المشروع، إذ تهدد أكبر ممتلكات الإسلاميين -ثروة الحقيقة- التي يوزعونها على من يشاؤون... وينزعونها عمن يكرهون .....
كأنني بك منذ الدرس الأول تلفت أنظارنا إلى الدور الذي تلعبه -اللسانيات-، في مجال الفكر عموما، وأنها فرض عين على كل مثقف ثوري تنويري، ألهذا قلت حصص اللسانيات في جامعاتنا، ولا يعرف عنها كثير من طلبة كليات الآداب شيئا ؟؟؟
لفت انتباهي منذ البداية عدم ذكرك لعلي حرب، مع كتابه القيم -نقد الحقيقة-، وبقية كتابه الجميلة الثائرة ضد الحقيقة، بحثا عن الحقيقة، لكنك أشرت إليه في هذا الدرس الأخير...
دمت موفقا.

اخر الافلام

.. مراسل الجزيرة: صدور أموار بفض مخيم الاعتصام في حرم جامعة كال


.. إسرائيل تهدد بحرب واسعة في لبنان وحزب الله يصر على مواصلة ال




.. المنطقة الآمنة لنازحي رفح | #غرفة_الأخبار


.. وثيقة تكشف تفاصيل مقتل الناشطة الإيرانية نيكا شكارامي عام 20




.. تقرير إسباني: سحب الدبابة -أبرامز- من المعارك بسبب مخاوف من