الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الطريق إلى الحقيقة: سؤال المنهج

مجدي عزالدين حسن

2012 / 2 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


المنهج والحقيقة:
" إن المنهج، بحد تعريفه، طريق من شأنه أن يوصل سالكه إلى نهاية معينة بعد أن ينطلق به من بداية أولى ويمر به في مراحل مختلفة" ويعرف "ديكارت" المنهج على النحو التالي: " جملة من القواعد المؤكدة التي إذا ما راعاها ذهن الباحث عصمته من الوقوع في الخطأ، وتمكن من بلوغ اليقين في جميع ما يستطيع معرفته بدون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة"
على هذا الصعيد، ثمة أسئلة تُطرح: هل حقا ثمة رابط ما بين المنهج والوصول الآلي للحقيقة؟ وواضح أنه تساؤل عن جدوى الارتباط بين الحقيقة من جهة والمنهج وعما إذا كان يُوصل لها من الجهة الأخرى: فهل حقاً بوسع أية منهجية أن أتبعناها أن توصلنا إلى (الحقيقة كما هي)؟ أم أن الأمر على خلاف ذلك؟ إلا أننا يجب أن نفهم أن " التقابل القائم بين الحقيقة والمنهج لا يعني أن أحدهما يستبعد الآخر، وكأن من واجبنا أن ننكر على الإجراءات المنهجية التي تتبعها العلوم في كل ادعاءاتها عن الحقيقة من حيث المبدأ" لأن ذلك يطرح سؤال: وهل تكمن الحقيقة في القول اللا منهجي؟ وفي ظل هذا السياق يمكننا النظر إلى الإسهام الغادامري ـ حول تفكيك مفهومي المنهج والحقيقة ـ بوصفه تأملا نقديا لمفهوم الحقيقة المنهجية الذي طغت به العلوم على الوعي الحديث، وهو ما يعتبر أحد الإنجازات الرئيسية للهرمنيوطيقا في هذا الصدد. والهرمنيوطيقا بذلك " لا تمنح العلم شرعية نسبية فحسب، وإنما تُسهم أيضا في تأسيسها. وهذا التأسيس لا ينشأ بكل تأكيد عن موقف يرجع إلى مؤسسة العلم نفسها" بل يرجع الفضل بذلك إلى الهرمنيوطيقا.
إذا رجعنا إلى التساؤل السابق فسنجد أن الإجابة المقدمة على مستوى الهرمنيوطيقا وتياراتها المختلفة تقوم على فرضيتين متباينتين: الفرضية الأولى تتمثل في أننا نحتاج في أية عملية تأويلية لنص ما من النصوص إلى إتباع مجموعة من الخطوات المنهجية حتى يكون في إمكاننا التوصل إلى حقيقة النص، وبالتالي فبدون أية منهجية ما سيكون من العبث الحديث عن حقيقة ما. ويمكننا أن ندخل كل التيارات التأويلية التي تبنت هذه الفرضية وندرجها تحت مسمى "الهرمنيوطيقا ذات التوجه الميثودلجي". في المقابل تتبنى بعض تيارات الهرمنيوطيقا الفرضية الثانية المتمثلة في أنه ليس بوسع أية منهجية أن أتبعناها أن توصلنا إلى (الحقيقة كما هي). ودعواها في ذلك أن المنهج يحدد بشكل مسبق طريقة رؤيتنا لهذه الحقيقة، فتصبح (الحقيقة كما نراها نحن)، رغم إدعاءنا القائل بتوخي الحقيقة الموضوعية واليقين.
الهرمنيوطيقا ذات التوجه الميثودلجي:
إذا نظرنا إلى تاريخ الهرمنيوطيقا وتحديداً في ما اصطلحنا على تسميته بالهرمنيوطيقا التقليدية ـ خصوصاً عند "شليرماخر" وخلفه "دلتاي"ـ سنجد المبدأ التالي: المتمثل في أننا كمؤولين بإمكاننا التوصل إلى حقيقة أي نص ما، إذا اتبعنا مجموعة من الخطوات المنهجية. والخطوات المنهجية تعني هنا تلك التي تتوخى الموضوعية، وتستبعد أي تأثير من لدن الذات التي تقوم بعملية التأويل. إن ما تهدف إليه الهرمنيوطيقا المنهجية إنما يتمثل في محاولتها الرامية إلى الاستحواذ الكلي على الموضوع، وذلك من منظورها لا يتأتى إلا من خلال مجموعة من الأدوات والقواعد التي تحاول الذات من خلالها أن تفهم الموضوع أو حقيقة النص كحالة تنطبق عليها القاعدة العامة. وهنا نلمس نوعا من الفصل، فصل الذات عن الموضوع. " وعلى هذا فإن المنهج يخلق حالة انفصال أو ثنائية بين الذات والموضوع، ويجعل الذات مستبعدة من عالمها أو تنظر إليه من الخارج من خلال مجموعة من القواعد والأدوات المنهجية التي تريد أن تفرضها عليه. ذلك هو مفهوم المنهج على نحو ما انبثق من عقل بيكون وديكارت، وظل سائدا في الفكر الغربي"
" ظلت الهرمنيوطيقا الكلاسيكية أسيرة المنهج، وبالتالي لم تستطع أن تتخلص من النزعة الموضوعية في تفسير النص، وهي النزعة التي ارتبطت بنموذج المنهج السائد في العلم الطبيعي الحديث: فشليرماخر ينظر إلى النص باعتباره وسيطاً لغوياً موضوعياً ينتقل من خلاله فكر المؤلف إلى القارئ أو المفسر، وهذا الوسيط اللغوي يكون موضوعياً لأنه يمثل الجانب المشترك الذي يجعل عملية الفهم ممكنة. وعلى نحو مشابه ينظر "دلتاي" إلى العلامات اللغوية باعتبارها أساساً عاماً تتموضع من خلاله أو تتخارج الحياة والأحداث الباطنية، وبذلك يمكن فهم عمل أي شاعر أو مبدع عظيم أو عبقرية دينية أو فيلسوف حقيقي باعتباره تعبيراً حقيقياً عن حياته الروحية أو الباطنية من خلال رموز وشفرات على هيئة علامات حسية قابلة للإدراك"
حاول "دلتاي" من خلال نظريته التأويلية أن يلتمس أساسا منهجيا وتطبيقيا يظهر من خلاله اختلاف واستقلال العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية، وبذلك فقد كانت مهمته محصورة ومحددة بوضع منهجية بحث تكون كأساس تقوم عليه كافة العلوم الإنسانية، وبحيث تمتلك هذه الأخيرة أدواتها المنهجية التي تتميز بها وتستقل بها عن منهجية البحث المتبعة في علوم الطبيعة، والتي كانت النموذج المحتذي في حقل العلوم الإنسانية آنذاك. ولذلك فرق "دلتاي" بين (الشرح/التفسير) و(الفهم/التأويل)، حيث ذهب إلى أنه إذا كان بالإمكان تقديم شرح وتفسير لظواهر الطبيعة، فإنه من المستحيل بمكان شرح السلوك الإنساني. إن الحالة الإنسانية بالإمكان فهمها وتأويله لا شرحها وتفسيرها.
وعلى الرغم من جدية مشروع دلتاي في اتجاه تأسيس العلوم الإنسانية على أساس تأويلي، فإن ذلك كله لم يشفع له عند غادامر الذي ينتقده بقوله: " على الرغم من ذلك، ترك دلتاي نفسه تحت وطأة التأثير الكبير لنموذج العلوم الطبيعية، حتى حينما كان يسعى الى أن يبرر بدقة الاستقلال المنهجي للعلوم الإنسانية." وفي ذات السياق، يمكن أن نستلهم التمييز الذي أجراه "كارل بوبر" على مستوى المنهج حيث يورد في كتابه (أسطورة الإطار)، قوله: " نستطيع أن نميز تمييزا منطقيا بين منهج نقدي خاطئ ومنهج نقدي على صواب، المنهج الخاطئ يبدأ من السؤال: كيف يمكن أن نؤسس أو نبرر أطروحتنا أو نظريتنا؟ وبهذا يؤدي إلى الدوجماطيقية، أو إلى ارتداد لا نهائي، أو إلى المبدأ النسبوي القائل بالأطر العقلية الخاضعة للامقايسة. وعلى العكس من هذا، يبدأ المنهج الصائب للمناقشة النقدية من السؤال: ما معقبات أطروحتنا أو نظريتنا؟ وهل هي جميعا مقبولة لنا؟ إنه بهذا منهج يقوم على المقارنة بين معقبات النظريات المختلفة أو إن شئت قلت: معقبات الأطر المختلفة، ويحاول اكتشاف أي من النظريات المتنافسة أو الأطر المتنافسة له معقبات تبدو الأفضل لنا. وبهذا نجده منهجاً على وعي بإمكان الخطأ الكائن في كل المناهج، على الرغم من أنه منهج يحاول أن يستبدل بجميع نظرياتنا نظريات أفضل"
على الصعيد نفسه، وفي " مواجهة هرمنيوطيقية غادامر الجدلية التي لا تهتم بالمنهج، كان المنهج هو رد الفعل في الجدل المعاصر جدا حول الهرمنيوطيقا... حيث نجد مفكري الهرمنيوطيقا المعاصرين مثل بيتي Betti وبول ريكور وهيرش، وهابرماس...، يحاولون إقامة الهرمنيوطيقا علما لتفسير النصوص يعتمد على منهج موضوعي صلب" ولذلك نرى "ديريك فريمان"Derek Freeman (1916-2001) في اختياره لعنوان كتابه: Dilthey’s dream)) يشرح دلالة اختياره لهذا العنوان بقوله: " حلم دلتاي استعارة واضحة للانشقاق/الافتراق الأساسي الذي بدأ بالتطور( أو بالنمو والاتساع) في القرن التاسع عشر، في نماذج البحث في العلوم الإنسانية: بين تلك المناصرة للعلم الطبيعي وبين النماذج المثالية. وقد اتسع الانشقاق ـ بين هذه النماذج ـ إلى درجة كبيرة جدا عبر القرن العشرين" "فريمان" في كتابه هذا حاول جسر هذا الانشقاق وتجاوزه بما أسماه ب(الفهم العلمي الموحد) على مستوى علوم الطبيعة وعلوم الإنسان. حيث يرى أن ثمة بارقة أمل لتحقيق ما دعا إليه، قائلاً " يجب أن تعتمد المصطلحات ـ من ناحية قيمتها التكيّفية ـ في عملية تحليل تنوع السلوك الإنساني على فهم علمي موحد للعلوم الطبيعة وحالات الوجود الإنساني. هذا الفهم العلمي الموحد، والذي بحثنا عنه لفترة قصيرة جدا، ما زال محدودا جدا، لكنه الآن يتقدم بصورة أسرع وأكثر أهمية من أي وقت مضى من تاريخنا الاستثنائي كنوع. ومن هذا نحن يمكن أن نأخذ أمل"
الحقيقة أو المنهج: عدم إمكانية المنهج ضمان الحقيقة:
يهدف "غادامر" من خلال كتابه:( Truth and Method ) إلى تقويض المقولة المستوردة من مجال العلوم الطبيعية والقائمة على مبدأ التلازم بين الحقيقة والمنهج، وأن المنهج هو وسيلتنا في بلوغ الحقيقة. وبيان أنه إذا كانت هذه العلاقة بين المنهج والحقيقة قد أثبتت نجاحها على مستوى العلوم الطبيعة، فإن الأمر لجد مختلف في حالتها على مستوى علوم الإنسان. هنا " ترتبط العلوم الإنسانية بأشكال من التجربة تقع خارج نطاق العلم: بمعنى أنها ترتبط بتجارب الفلسفة، والفن، والتاريخ نفسه. وهذه هي جميع أشكال التجربة التي ارتبطت بها حقيقة لا يمكن التحقق منها بوسائل منهجية ملائمة للعلم." وبالتالي فهو يرى أن المنهج، بمعناه العلمي الحديث، بالضرورة لا يمثل الوسيلة المناسبة على مستوى علوم الإنسان في سبيل بلوغنا إلى الحقيقة. معيداً بذلك النظر في مفهومي المنهج والحقيقة. حيث يذهب إلى رفض الأول سواء أكان الهدف منه دراسة النص أو الوصول إلى حقيقته. والسبب في ذلك، حسب ما يذهب إليه غادامر، يرجع إلى أن " المنهج لا ينتج في النهاية إلا ما يبحث عنه أو لا يجيب إلا على الأسئلة التي يطرحها. إن أي منهج يتضمن إجاباته، ولا يوصلنا إلى شيء جديد" وبالمقابل هو يعد المنهج شيئا لا ينفصل البتة عن ذاتية الذات التي تتوسله ليوصلها إلى نتيجة، وأن هذه النتيجة لا تعني بأي حال من الأحوال الحقيقة (بألف ولام العهد) أبدا كما هو الحال في العلوم الطبيعية. وحتى على مستوى حقل هذه الأخيرة، فإننا واجدون تغيراً وتبديلاً كبيراً على مستوى التصور النيوتني لمفهوم الحقيقة الذي قام على أساس الفيزياء القديمةـ فيزياء نيوتن ـ والذي ما لبث أن إنهار تحت وقع الضربات المتوالية بيد الفيزياء الجديدة ـ فيزياء إينشتاين ـ والتطورات التي حدثت على الصعيد العلمي وخاصة في العلوم الطبيعية وعلوم الحياة، حيث ظهرت نظرية التطور الدارونية، ونظريات الكوانتم والنسبية. حيث أثرت هذه التطورات العلمية في طريقة النظر لمفهوم الحقيقة.
نفهم من ذلك أن الهرمنيوطيقا الفلسفية عند "غادامر" قللت من جدوى الارتباط بين الحقيقة من جهة والمنهج الموصل لها من الجهة الأخرى، حيث ذهبت وجهة النظر الغادامرية إلى أن الإشكالية كلها إنما تتمثل في الربط ما بين المنهج والوصول الآلي للحقيقة. ورأت أنه ليس بوسع أية منهجية أن أتبعناها أن توصلنا إلى (الحقيقة كما هي) وأن المنهج ليس في المحصلة النهائية سوى قالب وإطار جاهز تم إعداده مسبقا لنقيس بناءاً عليه الحقيقة. وما يعنيه هذا القول الغادامري أن الحقيقة من هذا المنظور الميثودولوجي إنما تم تجهيزها وإعدادها بشكل مسبق، مما يُفضي إلى النتيجة التالية: أن ما يوصلنا إليه المنهج في خاتمة الأمر ليس هو الحقيقة وإنما حقيقته هو بالذات.
تتمثل أزمة المنهج حسب "غادامر" في عملية إدخاله للنص في قوالب معدة مسبقا وأطر جاهزة يقيس المؤول بناء على هذه القوالب والأطر حقيقة النص. وعلى العكس من ذلك فإن "الرؤية التأويلية تزعم عدم إمكانية المنهج ضمان الحقيقة. فالفهم ليس مسألة اكتساب معرفة حقيقية بشأن واقع معطى سلفا، بل على العكس من ذلك، فهو بحد ذاته حدوث متحقق، أي: شكل من أشكال الفعل والخلق الذي ينطوي على نتائج من ذاته ولذاته" وهو الأمر الذي يعني أن هرمنيوطيقا "غادامر" تصدر من وجهة نظر ترى أن حقيقة الوجود أو الأشياء لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تُسجن داخل قمقم المنطق وتصوراته الصورية والعقل وإنشاءاته الذهنية. هذا لا يعني أن "غادامر" ينفي إمكانية تعقل هذا الوجود ، فذلك تبسيط مخل بالفهم الحقيقي لغادامر. نعم يمكن تعقل الوجود ولكن ليس بوسعنا إدعاء أن نتيجة ذلك تمثل حقيقته اليقينية المطلقة.
إذن، الإشكالية كلها إنما تتمثل في الربط ما بين المنهج والوصول الآلي للحقيقة. مما يجعلنا نقول أن مشكلة "غادامر" هي مع المنهج المسكون مسبقا بأوهام اليقينية والموضوعية وتملك الحقيقة المطلقة. فكل ذلك يؤدي بنا حسب التحليل الغادامري إلى الوصول إلى ما يعنيه النص بالنسبة لنا، إلى حقيقة النص كما نراه نحن، وبالتالي إلى الوصول إلى مقاصدنا في النص وليس ما قصد إليه النص. وبهذا المعنى فنحن نستمع إلى ذواتنا ولا ننصت للنص ولا نعطيه مساحته حتى يبوح لنا بأسراره الدفينة وتطلعاته المشروعة. فما هو الأساس الذي ارتكز عليه "غادامر" في رؤيته هذه؟
وفي الجواب على ذلك نقول أن " غادامر قد وجد في هرمنيوطيقا هايدغر الفينومينولوجية أساسا يرتكز عليه ويتجاوز في نفس الوقت من خلاله لا فحسب أسلوب التفكير التقليدي في الميتافيزيقا الغربية، وإنما أيضا أسلوب التفكير في الهرمنيوطيقا الموضوعية لدى أسلافه. ففي كتاب "الحقيقة والمنهج"، نجد هناك ـ من ناحيةـ إنكارا لفكرة الحقيقة المطلقة ولذلك النوع من اليقين الذي نعثر عليه بالمصادفة، ونجد هناك ـ من ناحية أخرى ـ إنكارا لمصادرة المنهج الذي وفقا له تتأسس الحقيقة على نوع من اليقين الذي لا يقبل الجدل وعلى نحو مكتمل من خلال تقدم منهجي. فالمنهج لدى غادامر ليس الوسيلة الوحيدة للاقتراب من الحقيقة، كما أن الحقيقة بدورها ليست مطلقة يقينية مكفولة الضمان من خلال خطة مرسومة"
من جهة أخرى، فإن تأويلية "غادامر" لا تدعي توخي الموضوعية والمنهجية طريقاً للوصول إلى الحقيقة والاستحواذ عليها " من خلال مجموعة من الأدوات والقواعد التي تحاول الذات من خلالها أن تفهم الموضوع أو الظاهرة كحالة ممثلة لقاعدة عامة...(فهي ترى أن) الفهم الحقيقي يبدأ من واقعة وجودنا في العالم على نحو لا تنفصل فيه الذات عن الموضوع أو الوعي عن عالمه الذي يحيا فيه، من خلال خبرة أولية سابقة على كل تفكير منهجي" وبالتالي فإن عملية الفهم تتجاوز، في نظر "غادامر"، إطار المنهج، أياً كان هذا المنهج إلى تحليل عملية الفهم نفسها في فعالياتها وملابساتها التاريخية. يقول غادامر " إن الظاهرة الهرمنيوطيقية ليست أساسا مشكلة منهج إطلاقاً. وهي لا تُعنى بمنهج للفهم بواسطته تخضع النصوص لبحث علمي مثل جميع الموضوعات الأخرى للتجربة العلمية. لأنها لا تُعنى ابتداءَ بتأسيس المعرفة المحققة، مثل النموذجً المنهجي للعلم على الرغم من أنها تُعنى أيضا بالمعرفة والحقيقة"
بناءاً على ذلك، فإننا مع غادامر " نجد التصور القديم للهرمنيوطيقا بوصفها المنهج الخاص بالعلوم الإنسانية (دلتاي) قد أُهمل وضُرب عنه صفح، بل نجد فكرة "المنهج" ذاتها قد حوكمت، ومكانة "المنهج" نفسه قد اهتزت. ذلك أن عنوان كتاب "غادامر" ينطوي على تهكم: فالمنهج عنده ليس هو الطريق إلى الحقيقة، بل من دأب الحقيقة، على العكس، أن تفوت رجل "المنهج" وتروغ منه. والفهم في تصوره ليس عملية ذاتية لإنسان بإزاء موضوع وقبالته، بل الفهم هو أسلوب وجود الإنسان نفسه. والهرمنيوطيقا ليست فرعا مساعدا للدراسات الإنسانية بل هي نشاط فلسفي يحاول تفسير الفهم على أنه عملية أنطولوجية في الإنسان" ويؤكد "غادامر" اختلافه مع هرمنيوطيقا "ديلتاي" ذات التوجه الميثودلجي، التي هدفت إلى إعادة تأسيس العلوم الإنسانية على أساس منهجي جديد يتلاءم وطبيعتها بعد أن أوضحت عدم صلاحية تطبيق منهج العلم الطبيعي عليها، بقوله " ليست الهرمنيوطيقا المطورة هنا(يعني في كتابه الحقيقة والمنهج) منهجية للعلوم الإنسانية، لكنها محاولة لفهم ما هي العلوم الإنسانية حقيقةً- خلف وعيها الذاتي المنهجي- وما يربطها مع مجموع تجربتنا للعالم " ويؤكد قوله هذا في موضع اخر، بقوله: " مناهج العلوم الإنسانية ليست هي قضية النقاش هنا(يعني في كتابه) فنقطة بدايتي هي أن العلوم الإنسانية التاريخية،(...)، تمتلك إرث إنساني يميزها من كل الأنواع الأخرى للبحث الحديث، ويجعلها قريبة من التجارب الأخرى التي تقع خارج نطاق العلم، خاصة تلك التجارب المميزة للفن(...) لذلك لم يكن في نيتي أن أنكر ضرورة العمل المنهجي ضمن العلوم الإنسانية. ولم أكن أقترح إنعاش النزاع القديم عن المنهج بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية."
الهرمنيوطيقا عنده إذن، ليست منهجا يقودنا إلى الحقيقة بصورة أتوماتيكية كما يظهر ذلك جلياً من خلال وجهة نظر "شليرماخر" و"ودلتاي". وإنما هي فسحة للتلقي والتلاقي أو مساحة للابتكار والتواصل. فالظاهرة الهرمنيوطيقية، في الحقيقة، ليست البتة قضية منهج، وإنما هي تأسيس لتجربة الإنسان في العالم عبر فهم وتأويل النصوص. " بيد أن الممارسة التأويلية، وإن افتقدت لمنطق المنهجية العلمية، فإنها تملك (منطق السؤال/الجواب)، وذلك بفتح حوار مع النص من خلال شقوقه وطبقات الغياب فيه"
يريد "غادامر" من خلال كتابه "الحقيقة والمنهج" أن يخلص إلى أن استخدام المنهج وخاصة في مضمار العلوم الإنسانية لا يكفي لضمان الحقيقة. ف" الحقيقة عنده لا تطلب منهجياً بل جدلياً. هذه الطريقة الجدلية هي في الحقيقة نقيض المنهج، وهي وسيلة للتغلب على نزوع المنهج إلى أن يشكل العقل ويصبه في قالبه ويحدد مسبقا طريقة الشخص في رؤية الأشياء، فالمنهج، إن شئنا الدقة، غير قادر على كشف حقيقة جديدة، المنهج لا يفعل أكثر من التصريح بصنف الحقيقة المضر سلفا في داخله. في المنهج تمسك الذات الباحثة بالزمام وتقوم بالقياد والتحكم والتلاعب. أما الجدل فيترك الموضوع الذي يقابله يلقي أسئلته الخاصة التي تتعين الإجابة عنها. لم يعد الموقف التأويلي هو موقف سائل وموضوع يتوجب فيه على السائل أن يشيد "مناهج" تكفل له أن يوقع الموضوع في قبضة فهمه، بل أصبح السائل، على العكس، يجري استجوابه: يستجوبه الموضوع ويلقي عليه أسئلته" فالجدل من منظور هرمنيوطيقا "غادامر" إنما يُفهم باعتباره طريق الوصول إلى محصلة التلاقي بين أفق الذات المؤولة المنطلقة من أرضية الحاضر الراهن، وبين أفق "التراث" أو النص القابع في الماضي. " إن هدف الجدل عند غادامر هو هدف فينومينولوجي بشكل واضح: أن يجعل الشيء الذي نحن بصدده يُفصح عن نفسه ويسفر عن وجهه. فإذا كان "المنهج" ينطوي على ضرب من المساءلة تفتح جانباً واحداً من الشيء، فإن التأويل الجدلي يفتح نفسه لأسئلة الشيء ويتقبل أن يكون هو المسئول لا السائل. بذلك يمكن للشيء الذي يلاقيه أن يكشف عن نفسه وعن وجوده الخاص. يقول غادامر إن ما يجعل ذلك أمرا ممكنا هو "لغوية" الفهم الإنساني ( الصبغة اللغوية للفهم) و"لغوية" الوجود نفسه في حقيقة الأمر"








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - كأن غادامر يؤمن بالحقيقة لا بالمنهج؟
محمد أيتا ( 2012 / 2 / 26 - 16:31 )
تشكر أستاذنا المحترم .... مرة أخرى.
لكني أرى أن غادامر رغم قوله: -لذلك لم يكن في نيتي أن أنكر ضرورة العمل المنهجي ضمن العلوم الإنسانية. ولم أكن أقترح إنعاش النزاع القديم عن المنهج بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية.-
أراه يستهين بالمنهج، وما قوله هذا إلا دليل على ذلك التخفيف من خطورة المنهج، وأنا أرى أن العكس هو الصحيح، فالإنسان المعاصر لم جد طريق التطور المشهود إلا بعد اكتشاف المنهج وأهميته، بينما كان سابقا أشد إيمانا ب-الحقيقة-، الدينية، والسياسية ... والفلسفية ... فقد انهارت امبراطورية الحقيقة في الوقت الذي يتم فيه تشييد برج -المنهج-، وانطلاقا منها أرى أننا في العالم الإسلامي لا ينقصنا غير -المنهج-، بينما تستعمرنا -الحقائق المطلقة-، لذلك لا أرحب شخصيا بأية فلسفة تحتقر -المنهج- قريبا، أو بعيدا.
خاصة إذا كانت توحي بوجود -حقيقة- سابقة للمنهج، إن الباحث الحقيقي إذ يتبع منهجا ما فإنه لا يقدم فرضية مجردة، تقبل النقض حتى نهاية ابحث، وبعده، وهذا لا يسمى -بناء حقيقة مسبقة- في نظري.


2 - غياب المنهجية في واقعنا تجعلنا حائرين
سامي بن بلعيد ( 2012 / 2 / 27 - 04:19 )
مثل هذا الطرح العميق حول (الحقيقة والمنهج ) يدفع الانسان الى بذل جهود مضنيه لادراك ما بين السطور نظراً لغياب قواعد العمل المُمنهج في اطار واقعنا وثقافتنا التي تميل الى العاطفية اضافة الى القصور الحضاري لامتنا في ملامسة مناهج العلوم الطبيعية ناهيك عن غياب العلوم الانسانية لذلك لا يستطع المرء ان يسبح بأفكاره مع النصوص وهو لا يستطع ان ينزل بها الى الظل
ولكني ارى ان غادامر ومن خلال ما طُرح أعلاه لا يختلف إلاّ مع المنهج الذي يدعي الحقيقة المطلقة لانه يحمل مقاصد من رسمه واعده مسبقاً ،فبالتالي فهو يخدم الذوات ولا يخدم الموضوع
كما انه يقول ان المنهج لا يكفي لادارة العلوم الانسانية لانها بحاجة الى منهج جدلي يقوم على التجربة والمراقبة فالمنهج الجدلي يبقي على استقلالية الاشياء ويترك للاشياء ان تظهر ما فيها من خلال مسائلة الآخر لها ... اي على اعتبار ان الاشياء تبقى كما هي على طبيعتها لا ان يأتي المنهج الذي يدعي الحقيقة ويقنن للاشياء كيفما تريد ذاته بدلاً ان تكون على سجيتها الطبيعية ومعالجتها بالطريقة المنهجية التي تخدم الحقيقة العامة
فأنا ارى ان غادامر لم يلغي المنهجية ولكنّه ظهر بمظهر الاكثر


3 - شروط الفهم عوضاً عن قواعده
مجدي عزالدين حسن ( 2012 / 2 / 27 - 10:12 )
النقلة النوعية التي أحدثتها الهرمنيوطيقا الفلسفية عند غادامر تمثلت في تركيزها على توضيح ما (يحدث فعلا) في عملية الفهم خلافا لما كان سائدا في التأويلية التقليدية التي وضعت بؤرة اهتمامها في عملية تشريع قوانين للتأويل أو منهجية معينة له. أصبح السؤال في ظل هرمنيوطيقا غادامر: كيف يكون الفهم ممكنا؟ بديلا للسؤال القديم الذي كان المنطلق الأساسي للنظريات الرومانسية في التأويل: كيف نفهم النص؟ بمعنى آخر الهرمنيوطيقا مع غادامر فلسفة وليست معرفة تقنية تمكننا من تشريع قوانين للتأويل أو منهجية معينة له بالمعنى الذي قصدته النظريات التقليدية في التأويل. وكان غرض انهماك غادامر في معالجته لمشكلات التأويلية، هو أن يوضح فقط بنية الفهم المسبقة والدور الكبير الذي تلعبه الأحكام المسبقة في عملية الفهم. ف(الفهم) يتطلب (فهما مسبقا). وعلى النقيض تماما، من منطلقات التأويلية التقليدية، لم تعد الحاجة تتمثل، تحديداً، بإعطاء التأويل السليم قواعده، بل برزت، بالأحرى، ضرورة اشمل تسعى إلى تفسير شروط إمكان الفهم ذاتها. وعلى ذلك اهتم غادامر بتبيان الشروط التي يمكن في ظلّها أن يحدث الفهم، وليس في وضع قواعد وتشييد مناهج للفهم


4 - شروط الفهم عوضاً عن قواعده
مجدي عزالدين حسن ( 2012 / 2 / 27 - 10:32 )
النقلة النوعية التي أحدثتها الهرمنيوطيقا الفلسفية عند غادامر تمثلت في تركيزها على توضيح ما (يحدث فعلا) في عملية الفهم خلافا لما كان سائدا في التأويلية التقليدية التي وضعت بؤرة اهتمامها في عملية تشريع قوانين للتأويل أو منهجية معينة له. أصبح السؤال في ظل هرمنيوطيقا غادامر: كيف يكون الفهم ممكنا؟ بديلا للسؤال القديم الذي كان المنطلق الأساسي للنظريات الرومانسية في التأويل: كيف نفهم النص؟ بمعنى آخر الهرمنيوطيقا مع غادامر فلسفة وليست معرفة تقنية تمكننا من تشريع قوانين للتأويل أو منهجية معينة له بالمعنى الذي قصدته النظريات التقليدية في التأويل. وكان غرض انهماك غادامر في معالجته لمشكلات التأويلية، هو أن يوضح فقط بنية الفهم المسبقة والدور الكبير الذي تلعبه الأحكام المسبقة في عملية الفهم. ف(الفهم) يتطلب (فهما مسبقا). وعلى النقيض تماما، من منطلقات التأويلية التقليدية، لم تعد الحاجة تتمثل، تحديداً، بإعطاء التأويل السليم قواعده، بل برزت، بالأحرى، ضرورة اشمل تسعى إلى تفسير شروط إمكان الفهم ذاتها. وعلى ذلك اهتم غادامر بتبيان الشروط التي يمكن في ظلّها أن يحدث الفهم، وليس في وضع قواعد وتشييد مناهج للفهم

اخر الافلام

.. نتنياهو بين إرضاء حلفائه في الحكومة وقبول -صفقة الهدنة-؟| ال


.. فورين أفارز: لهذه الأسباب، على إسرائيل إعلان وقف إطلاق النار




.. حزب الله يرفض المبادرة الفرنسية و-فصل المسارات- بين غزة ولبن


.. السعودية.. المدينة المنورة تشهد أمطارا غير مسبوقة




.. وزير الخارجية الفرنسي في القاهرة، مقاربة مشتركة حول غزة