الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزائر ، نظرة جديدة للتاريخ الوطني أكثر من ضرورية (5)

العربي عقون

2012 / 2 / 29
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


...///...
ظل المخزون المفاهيمي وترسانة النظريات المختلفة تغتني يوما بعد يوم، في الظروف الحالية للبحث العلمي من خلال إسهامات المؤرخين الأوربيين قدامى ومحدثين من جهة ومن جهة أخرى من خلال إسهامات الباحثين الأفارقة والأسيويين الذين يتزايد عددهم في حقل البحوث التاريخية، وغير بعيد عنا نجد مفاهيم الوطنية المتقدّمة والمنشورة على امتداد فترة من التطوّر الذي عرفته البلاد ما بين 1920 إلى 1936 (تبعا لنقطة الانطلاق التي اختيرت لتاريخ الوطنية) وكانت المادة التي وضعت في خدمة الباحثين والسياسيين جميعا في أي مستوى كان من أولئك الذين يرغبون في المعرفة أكثر من أي وقت مضى، والكل سعيد بنمو المعارف والدراسات التاريخية.
أصبح المجتمع ينتظر من كل الذين تولوا بعض المسؤوليات في هذا الميدان، ليس فقط تراكم المعارف بل تقديم ملخص عنها يكون مفتاحا لحل إشكال سياسي، هو التعريف بمجتمعنا ذاته.
موضوع الساعة خطير وحاسم وهو الأكثر أهمية، وإذا كنا في هذا الفصل نعدّ لنظرة جديدة عن الجزائر وعن مكوّناتها وعن وحدتها مستخلصة من مصادر تاريخها البعيد والقريب فإنّ هذه الفكرة تبدو مختصرة كثيرا.
يمكن القول بأنّه لم يكن من الصعب جعل الفكرة طويلة باستعراض النظريات العامّة أو الخاصّة الواردة في كتب ودوريات يتردد صداها في الصحافة واسعة الانتشار، وتزيينها بعديد النصوص والأقوال المأثورة وستكون النتيجة أنّ هذا النصّ يفقد شكله ومضمونه، فليس هناك خطر أكبر أحيانا من المعرفة الواسعة وخاصة الكتب الملفقة.
التاريخ عندنا على نحو متزايد هو عمل نضالي حيث ينبغي تقديم المعطيات وتحديد موقع الإشكالات واتخاذ موقف جريء.
أعود إلى ما كنت قد أشرت إليه في الصفحات الأولى وهو أنّ التاريخ ليس حياديا في الفترة التي نحياها وهو مثير للجدل بل ومحل انقسام ومن هنا تأتي ضرورة أن يكون واضحا، ومختصرا نسبيا، وهو ما حرصت على الأخذ به، ولدي اقتناع بأن ذلك أجدى لاستجلاء إشكالاتنا الثقافية في شأن الشخصية والهوية، ذلك أنّ نشر كتاب في جزء واحد يضمّ التاريخ الشامل للجزائر مدعوما بنصوص مختارة بعناية وبخلاصة في آخر كل فصل (عمل عصامي يحظى بمزايا بيداغوجية) أفضل من عمل ضخم من عدّة أجزاء.
الذين ينتظرون إنجاز العمل مستعجلون ولهم الحق في ذلك، وعليه تمّ اختصار المسائل وحصرها وتبسيطها ولكن ينبغي اتخاذ القرار والانتقال إلى الفعل على ضوء العلوم التاريخية، مع الأخذ في الاعتبار التيارات التي جعلت من الجزائر الحديثة جزائر جديدة تطرق بابنا.
ينبغي أن تكون هناك وحدة، لكن الوحدة يصنعها الأشخاص، إنها عمل اصطباري، مع أنّ مقتضيات الظروف تعلّق الأمل على نتيجة فورية.
الوحدة الوطنية لا تكون بمرسوم، ولا تحدد باختيار أحادي الجانب، يقول آراغون (Aragon) : لا نقيم مذهبا علميا أو سياسيا أو نلغيه كما لو أننا نبني أو نزيل مقرّّ وزارة.
إن الوحدة الوطنية كلية كالإنسان: عميق في جذوره، شخصي في مظهره، معقّد في تركيبته النفسية والاجتماعية والتاريخية، إنّنا لا نصل إلى توحيد الأشخاص فيما بينهم وإلى تكوين جماعة (Collectivité) متآلفة في تفكيرها منسجمة في إرادتها إلا عبر مسير خطوات كبيرة إلى الأمام وعبر امتلاك مواقف، ويكمن ذلك أساسا في الالتحام بحركة المجتمع الذي - في كل مرحلة من وجوده التاريخي وحتى في الحاضر - يعبّر بطريقته عن كيف يكون وعن إرادته في أن يكون.
أنْ تصنع الاستمرارية في الانقطاع الجذري لأي مجتمع إنساني: تلك هي المهمّة وذلك هو الشرط؛ وهو شرط لا غني عنه (sine qua non). فلا وجود لنظام يدوم إذا عارض الإرادة الشعبية وهذا يذكّر بما كان كورتيس(****) أراغون (إسبانيا) قد فرضه على ملوكها القدامى خلال تتويجهم وهو العمل بالعبارة الشهيرة: وجوب احترام حقوق الشعب وإلا فلا (sino no).
الفصل بين الاقتصاد والثقافة والهوية هو فصل اصطناعي وغير مشروع فالقوى المنتجة لن تزدهر إلا في جو حرية المبادرة وإمكانية العمل والانتظام بحرية؛ وفي الحياة الحقيقية الحيوية والحماس هما اللذان يصنعان ويدعمان العمل المنتج وهما ذاتهما اللذان يدفعان الفرد إلى تحقيق ذاته في كلّ أبعاد شخصيته. فالعمل المؤدّى لمجرد العيش ما هو إلا عقوبة ومعاناة إذا لم يتكامل مع التوازن الكلي للفرد الذي يقوم به بحرية وبحبّ واستطعام للذّة الحياة، وهذا في حدّ ذاته مجال الثقافة، فالإنسان باعتباره منتجا لا يسعى إلا لاستعمال قدراته المادية والفكرية وعندما ينهي مهمته تنتهي، في حين أنّ وجود الإنسان بالمعنى الواسع للعبارة، يتطلب منه كلّ روحه كما شكّلتها الحتمية الاجتماعية التاريخية؛ شيء من التعبير المطلق في جوهره. أن يقع تجاهل هذا الأمر أو ألا يرى في الإنسان إلا آلة إنتاج أو أن يظنّ بأنّ تلبية حاجياته المادّية كافٍ أو أن توضع الثقافة في رتبة ثانوية أو أن يغضّ الطرف عن كون الإنسان يمثل وحدة قائمة الذات، ذرّة اجتماعية وله حياته الخاصّة المستقلّة، هذا سيقود أنظمة الحكومة وتسيير الجماعات إلى أسوأ التجاوزات، وإلى أخطاء فادحة : إلى الشمولية التي هي إخضاع الإنسان لإجراءات التدخّل في المادّة الساكنة التي يتولّد منها مذهب "الإنسان الجديد" (كما لو أننا نستطيع خلق إنسان جديد في كلّ مرّة كلما قررنا كمن يصنع مكواة جديدة).
هذه الاعتبارات عن ارتباط الاقتصاد بالثقافة لمحاربة الخطأ الذي تنطوي عليه الكثير من الذهنيات ولاسيما في صفوف المسؤولين الذين يرون أنّه من الممكن تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمعزل عن الأوضاع الثقافية الأصيلة التي يتفاعل فيها نشاط الإنسان. كما أنّه ينبغي أن يتوقف الانقسام ما بين مختلف التيارات التي تمثل الأمة تحت ألوان ومظاهر مختلفة ومتعارضة تماما مثلما يجب وضع حدّ لفصل الاقتصادي عن الثقافي، وهو الفصل الذي أضحى لدى البعض مذهبا اقتصاديا (Economisme) والأخطر هو أنّ هذا المذهب يجسد فكرة أنّ اقتصاد مجتمع يخضع لقوانين ومسارات تقنية في الأساس منفصلة عن التطور الاجتماعي العامّ.
لقد تمكّن مذهب المادّية التاريخية لماركس وتلاميذه الأولين من جعل علاقات الإنتاج قاعدة جامعة لأفكار وفلسفات وفن وثقافة عموما، وأفكار الماركسية في هذا الجانب قديمة، وإذا كانت عبقرية نظرية ماركس وهذا ما لا ينبغي تناسيه، قد عالجت في اتساعها وعمقها مشاكل المجتمع الصناعي للقرن XIX فقد فعلت ذلك لمجتمع كانت مشاكله الثقافية واللغوية والجهوية ومشاكل الهوية والوحدة الوطنية قد حلّت خلال الفترة ما قبل الثورة الصناعية وذلك بتكوين وإنشاء الأمم (*****) في سياق الثورات الديمقراطية ما بين نهاية القرن XVIII وبداية القرن XX.
تعود بي الذاكرة إلى سنوات الشباب حيث كنت مندمجا في مشاكل مجتمعي ليس بالتمني ولا لميل خاص بي، ولكن وببساطة في السنين التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية كان الأمر عامّا لدى كلّ الشبيبة الجزائرية في تلك الفترة، فمولود معمري في "الهضبة المنسية" وهي الرواية التي شرع فيها منذ 1939 وأنهاها بعد الحرب بأسلوبه الخاصّ الولوع بالحد من سرد أوضاع شخوصه في شأن عواطفهم الداخلية، قد أعطى زخما جديدا لتلك الشبيبة القلقة التي كانت تبحث عن انطلاقة جديدة.
جاءت السياسة في أعقاب ذلك، وهي حمّى سياسية تقاسمناها جميعا، ثمّ جاءت حرب التحرير ذلك الحدث المفعم بالحماس والرجاء، فما كان لأحد خلال تلك السنوات العصيبة 40 -50 و 50- 60 أن يشعر بأنه في ظروفه مفصول عن المصير الاجتماعي.
قوة الدفع القادمة من تلك السنين لم تذهب هباء، على الأقل بين أبناء الجيل الذي عايش النظام القديم والجديد، لكنه -وهذا عادٍ- اخترقت جدار الجيل الجديد الذي لم يعش حرب التحرير الوطني ولكنه لم يتعلم من الكتاب ومن الصحافة ومن المدرسة ما ذا يربط بين الفترتين اللتين تفصلهما ثورة 1954-1962.
ذلكم هو ما يفسر ما نلاحظه في الوقت الراهن، وأوله نوع من القطيعة أو في جميع الحالات اختلافات كبيرة بين ما يفكر فيه الجيل السابق وما يفكّر فيه الشباب. ثانيه هو المنحى الخاص الذي اتخذته ذهنيات هؤلاء الشباب (الذين يشكلون الأغلبية الكبيرة من مجموع السكّان) سلوكهم وأفكارهم وتصوراتهم الخاصّة عن الماضي والحاضر والمستقبل وأخيرا الأشكال التي تكتسيها أنشطتهم المطلبية ويبرز من بين الجيل السابق والجيل الذي قبله موقفان :
1- موقف هؤلاء الذين يعتقدون أنّ المهمّة انتهت ولم يبق سوى الاحتفاظ بالاستقلال الذي تحقّق بثمن غالٍ.
2- موقف أولئك الذين بقيت لديهم قناعة أنّ بناء الوطن لم يكتمل وأنّه لا بدّ من الاستمرار الدائم تبعا لما يجدّ من معطيات أكثر ثراء وأشدّ إلحاحا.
فعند الأولين تسيطر فكرة حماية الوطن من سيطرة الشركات الأجنبية على الاقتصاد (وكأنّ هذا الخطر جديد وليس قديما قدم الحياة) وهم ضدّ ما يسمونه الغزو الثقافي(******) (كما لو أنّ الأفكار والفلسفات لا تتنقل بين الشعوب منذ نهاية النيوليثي) أمّا عند الآخرين فالفكرة هي إحكام القبضة على الدولة والعالم الخارجي وذلك بترسيخ قدم الدولة وتقويتها لتكون قادرة بذاتها على دمج الرافد الخارجي وجعْله وطنيا.
كل هذه الفوارق بين الأجيال والاختلاف في التكوين المتلقَّى أنتج توجهات مختلفة وتناقضات تضاف تبعا لذلك إلى الحالات التي نعيشها من المشاكل المعقّدة. وهو ما أشرت إليه أعلاه بصيغة أخرى.
كانت الأجيال السابقة مقيّدة بالرقابة، مختنقة بفترة حكم لا تقاسمه ذات الأيديولوجيات المعلّبة والمسيطرة فلم تستطع القيام بإنتاج فكري لترقية المعارف والنتيجة هي أنّ علوم المجتمع: التاريخ وعلم الاجتماع والآداب والفلسفة وحتى الجغرافيا بقيت متخلفة، هذا من جهة ومن جهة أخرى تطوّر المجتمع والأحداث التي تتراكم، والمطالب والطموحات كانت ترتفع كالإعصار تلحّ بشكل متزايد على ضرورة توفّر البحوث العلمية لجعل العديد من الإشكاليات المطروحة مفهومة. ومع غياب الأدوات يزداد الإلحاح على ضرورة تقديم شيء في هذا المجال، لكن الطلب كان يزداد والعرض هزيل وفي تلك الأثناء نضج المجتمع، ولئن كنا نرى أنه نضج إلاّ أنّ المؤسسات كانت متأخرة في أداء الوظائف المرجوة منها ولم يقم الاقتصاد بتجنيد مجموع القوى التي تحتاج إليها التنمية ولم يُحَلّ الإشكال الثقافي مع أنّه يهمّ كلّ التوازن الاجتماعي والجانب المعنوي للفرد، لأن الثقافة النسبة للفرد هي في النهاية الحق الذي يتيح للفرد تقرير مصيره بنفسه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلسطينيون يرحبون بخطة السداسية العربية لإقامة الدولة الفلسطي


.. الخارجية الأميركية: الرياض مستعدة للتطبيع إذا وافقت إسرائيل




.. بعد توقف قلبه.. فريق طبي ينقذ حياة مصاب في العراق


.. الاتحاد الأوروبي.. مليار يورو لدعم لبنان | #غرفة_الأخبار




.. هل تقف أوروبا أمام حقبة جديدة في العلاقات مع الصين؟