الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حل المسألة الكردية في سورية استحقاق وطني

صالح بوزان

2005 / 1 / 13
القضية الكردية


يعتبر الأكراد جزءاً من المجتمع السوري منذ آلاف السنين، ويؤلفون مع العرب والآشوريين والسريان تركيبة الشعب السوري الراهن إضافة إلى الأرمن والشركس. وتمتد جذور هذه التركيبة إلى الماضي البعيد، بل تشكل معالم تاريخ سوريا الحديث. لقد نمت بذور الوطنية السورية بين جميع قومياتها من خلال الصراع المشترك ضد مختلف الغزاة ، بما في ذلك ضد الصليبيين والاستعمار الحديث. وبالتالي فوطنية الكردي السورية لها امتدادات تاريخية وخصائص اجتماعية وحّدته مع كافة القوميات السورية الأخرى أكثر من شعوره القومي تجاه الكردي في ناغورني كارابخ مثلاً. وإذا تجاوزنا الشعارات القومية الرومانسية والميتافيزيقية، فالعربي السوري قريب من الكردي السوري من حيث التاريخ والمعانات والمصير المشترك أكثر من قربه لبني قحطان في اليمن. وأي عدوان خارجي على سورية سيؤدي إلى وقوف الكردي بجانب العربي في خندق الدفاع عن الوطن، بينما سيكتفي اليمني بإعلان تضامنه مع العربي السوري. وكيف يمكن أن يكون المسلم الباكستاني مع قضية الشعب السوري ذي الأغلبية المسلمة أكثر من أحفاد فارس الخوري(المسيحي) أحد رموز الحركة الوطنية السورية ضد الانتداب الفرنسي. لقد بات النسيج الوطني المتعدد الاثني في الخارطة الجغرافية السياسية الواحدة في العصر الحديث أقوى من العامل القومي الموزع ضمن خرائط جغرافية سياسية مختلفة. بمعنى آخر فالكيانات الوطنية المتعددة الأعراق هي أقوى من حيث التماسك من الانتماءات القومية الموزعة في دول سياسية مستقلة. ولهذا فتفضيل العامل القومي على النسيج الوطني التعددي هو خلخلة للوحدة الوطنية، وقد يخلق التربة للعبث الخارجي.
إذا نظرنا إلى الحقوق القومية الكردية(وغيرها من القوميات السورية) من هذا المنظار الوطني، سنجد عندئذ أن هذه الحقوق هي جزء من الاستحقاقات الوطنية الملحة. فمن ناحية حدث في المجتمع السوري خلال العقود الثلاثة الأخيرة تطورات كبيرة أدت إلى هذه الحالة المستعصية التي يعيشها الشعب السوري من أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية. وإذا كانت هذه الأزمة العامة حصلت نتيجة النظرة الأحادية لجميع قضايا الوطن بما في ذلك لمفهوم الوطنية والتي تبناها حزب البعث منذ استلامه للسلطة، فإن هذه النظرة نفسها هي المسؤولة عن تعقد المسألة الكردية من خلال الرؤية الايدولوجية القومية العربية الميتافيزيقية التي أخرجت الأكراد من مجال التفكير الوطني لحزب البعث. ومن ناحية أخرى، فقد سار تطور الفكر البشري خلال النصف الثاني من القرن الماضي ولا سيما خلال العقد الأخير من القرن الحالي باتجاه متقدم لتوسيع وتعزيز حقوق الإنسان والشعوب والأقليات، وبات العيش في حياة كريمة من مختلف النواحي مطلباً أساسياً في الألفية الثالثة، بغض النظر عن توجهات بعض الساسة في الغرب والشرق الذين يسعون إلى استغلال هذا المطلب النبيل لأغراض أخرى. ولا يمكن أن يبقى الأكراد خارج هذا المطلب النبيل مادام مضطهدوهم مازالوا يعتبرونهم جزءاً من المجتمع البشري، وليس كما قال علي الكيماوي:( لا أعرف ما هي الحكمة الإلهية لخلق الأكراد والكلاب والذباب).
دون الغوص في التاريخ السوري القديم والذي جرى ويجري تشويهه أحياناً أو صياغته بناء على مقتضيات أيديولوجية أو سياسية ضيقة، كما حدث في القرن الماضي. نجد أن الوطنية الكردية السورية نمت في معمعان جميع الأحداث التي صاغت تاريخ سورية الحديث. فمنذ نضال المسلمين ضد الحملات الصليبية برز الدور الملموس للأكراد المسلمين في بعض المراحل. وكان الكردي حينئذ(صلاح الدين) يقاتل من أجل الإسلام وديار الإسلام وليس من أجل العروبة أو الأكراد. وأعتقد أن محاولة توظيف صلاح الدين للقومية العربية أو الكردية هو اغتصاب للتاريخ. فمن ناحية لم يكن قد ظهر عندئذ مصطلح القومية بعد، هذا المصطلح الذي انبثق في حقيقة الأمر من المكونات الفكرية والسياسية للثورات البرجوازية الغربية أصلاً. ومن ناحية أخرى يبقى صلاح الدين النموذج الأبرز لتآخي الشعوب في ظل ايديولوجيا معينة. ويحق لكل مكونات الشعب السوري أن يمد جذوره من الناحية المعنوية لهذا القائد العظيم.
خلال كفاح الحركة الوطنية السورية ضد الانتداب الفرنسي في القرن العشرين، ساهم الأكراد مساهمة فعالة فيها. وكان المقاوم الأول والشهيد الأكبر يوسف العظمة منهم(انظر كتاب مازن بلال:المسألة الكردية)، وكان إبراهيم هنانو (وهو ينتمي إلى عائلة كردية عريقة استقرت في جبل الزاوية منذ العهد العثماني) من بين القادة الثلاث البارزين إلى جانب شيخ صالح العلي وسلطان باشا الأطرش في قيادة حركة تحرير سورية من الفرنسيين، ناهيك عن مقاومة أكراد عفرين وعين العرب والجزيرة. والغريب في الأمر أن جميع الذين كتبوا عن تاريخ سورية الحديث، قفزوا فوق هذه الحقائق، بل عندما يكتبون عن يوسف العظمة أوإبراهيم هنانو تشعر وكأنهم يكتبون عن أحد قادة القومية العربية الأكثر بروزاً، دون الإشارة إلى أي دور للأكراد في الحركة الوطنية. ويتساوى هنا بعض المثقفين العرب والساسة؛ اليمينيين منهم واليساريين حسب مصطلحاتنا القديمة. وقد يكون هذا شكل من أشكال السطو على التاريخ.
الملفت للانتباه أن الأكراد، في مشاركتهم الوطنية لتحرير سورية، لم يشترطوا على الجانب العربي أي مطلب خاص بهم لمرحلة ما بعد الاستقلال. لأنهم كانوا ينطلقون من واجبهم الوطني الذي يسري في احساسهم الفطري بأنهم يدافعون عن وطنهم كما يدافع العرب عن هذا الوطن. لقد اعتبر بعضهم أن هذا الموقف الكردي شيء من السذاجة أو تعبير عن التخلف السياسي واستمرار للتبعية الكردية المتوارثة للآخر، هذه التبعية التي جعلتهم عبر التاريخ جنوداً أشاوس لغيرهم.
أعتقد أن هذا الاستنتاج بعيد عن الحقيقة، فالأكراد كانوا دائماً يدافعون عن وطنهم. هناك حقيقة علمية تظهرها الدراسات السيكولوجية من أن الإنسان يتصرف أحياناً تصرفاً صحيحاً ليس بناء على تفكير ومعرفة آنيين، بل نتيجة تراكم شعور ووعي بسيط خلال مراحل زمنية طويلة، بحيث يتحول هذا الشعور والوعي المتراكم إلى سلوكيات وتقاليد فطرية راسخة. ولهذا لم يعتبر الأكراد أن نضالهم إلى جانب العرب ضد الفرنسيين يحتاج إلى تحالف سياسي ووضع بنود وشروط لمرحلة ما بعد الاستقلال، بل لم يفكروا بذلك أصلاً، وربما ندم قسم من الأكراد لهذا التصرف نتيجة إخلال الطرف العربي بشروط الأخوة والمواطنة المتساوية فيما بعد. غير أن الحقيقة تبقى كما هي مجردة عن رغباتنا. واستناداً إلى هذه الوقائع فشلت الدوائر الفرنسية في وضع توجهات القومية الكردية بالاتجاه المعادي للقومية العربية. ولم يكن هذا الشعور الوطني عند الأكراد فقط، بل كذلك لدى الطائفة العلوية والدرزية أيضاً، فهاتان الطائفتان تمسكتا أيضاً بسوريا الأم وأفشلتا المخططات الفرنسية لتقسيم سورية إلى دويلات.
لقد بدأ الشرخ بين السوري الكردي والسوري العربي عندما طغى الفكر القومي العربي الميتافيزيقي على الساحة السياسية. ففي كتابات زكي الأرسوزي وميشل عفلق وبقية رواد الفكر القومي العربي في المشرق لا مكان للكردي في بلاد الشام بصفته كردياً. فهو موجود على الأرض العربية، أي لا يحق له ادعاء الانتماء للأرض، وبالتالي فهو يعيش في فسحة التسامح العربي. وحسب هذه النظرية لا حقوق شرعية له إلا ما يتكرم بها العربي عليه لكونه لاجئاً. وبالمقابل يجب على الكردي أن يكون ملزماً للانخراط في صفوف الحركة القومية العربية، وإلا فعليه مغادرة هذه الأرض العربية. وجاءت الوحدة السورية المصرية لتكرس هذه الفكرة أكثر من السابق.
كانت مرحلة حكم حزب البعث أكثر كارثية من ناحية التوجه لاجتثاث الشعور الوطني السوري لدى الأكراد بالمقارنة مع المراحل السابقة. فإلى جانب مشكلة إحصاء 1962 في زمن الانفصال، جاءت كل ممارسات حكم حزب البعث تجاه الأكراد لدفعهم إلى التفكير خارج الانتماء السوري، أو لصهرهم المخطط في بوتقة القومية العربية(مذكرة محمد طالب هلال). لقد برز لأول مرة في سورية التشكيك بالأكراد، خصوصاً من خلال الموقف من أكراد العراق. فعندما أرسلت الحكومة السورية بعض قواتها العسكرية إلى العراق عام 1963 بقيادة فهد الشاعر لمساعدة حكومة البعث العراقي في حربها ضد الأكراد، أعيد كل الأكراد الذين كانوا في صفوف هذه القوات إلى الخلف. وكانت لهذه المشكلة انعكاساتها الكبيرة على الأكراد السوريين. فمن ناحية أبرزت مسألة التشكيك بالأكراد إلى المستوى الشعبي الكردي والعربي العلني، ومن ناحية أخرى دفعت الأكراد إلى التضامن مع الحركة الكردية في العراق أكثر من السابق.
استمر تسعير التعصب القومي العربي ضد الأكراد طاغياً في صفوف حزب البعث لغاية "الحركة التصحيحية" داخل حزب البعث في سورية عام 1970، بل كان الحزبيون يتصرفون مع الأكراد كرجال أمن. وفيما بعد أخذ التمييز يأخذ منحى آخر، منها تلك المشاريع الاستثنائية المعروفة للجميع.
منذ الثمانينات والتسعينات أخذت بعض الجهات في السلطة الحاكمة بزرع فكرة الغربة عن سورية لدى الكردي بطريقة أخرى من خلال العلاقة التي تشكلت بين هذه الجهات وعبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني. فقد تم توجيه أنظار الأكراد السوريين إلى كردستان تركيا كوطن للكردي السوري ودفعهم للانخراط في حركة أوجلان. لقد أرادت هذه الجهات في السلطة اجتثاث جذور الانتماء الكردي لوطنه سورية، وثانياً تبديد الحركة الكردية السورية التي تطالب برفع المظالم عن الأكراد، والتهرب من تحقيق أية حقوق كردية سورية، وثالثاً لتحضير تهمة الانفصال لأي مطلب كردي من خلال هذا التغلغل الكردي السوري في الشأن الكردي التركي. كل ذلك لخلق رأي عام عربي ضد المطالب الكردية، وبالتالي لتبرير المشاريع العنصرية ضدهم بمباركة هذا الرأي العام الذي صنعوه مسبقاً، والذي مازال مستمراً حتى الآن بنسب مختلفة.
إن الذين ينفخون في البعبع الانفصالي الكردي السوري لهم أجندة خاصة، وعلى الأكراد والعرب وكافة الساسة والكتاب في سورية معرفة هذه الحقيقة. ومع الأسف وقع بعض الأكراد في هذا المطب أيضاً. وبالمناسبة، كان لتسعير حزب البعث للنظرية القومية العربية على المستوى الجماهيري وخصوصاً بين صفوف الطلبة انعكاسه المماثل على الكردي أحياناً. فقد أعلن الحزب أنه لا يعترف بالقطرية، وبالحدود المصطنعة التي أوجدها الاستعمار، وأن الأمة العربية هي أمة واحدة. كما جرى حشو أدمغة الطلبة بالتعصب القومي العربي، وإلغاء أية قومية أخرى في الوطن العربي. كان من الطبيعي أن تحفر هذه المقولات توجهاً كردياً مشابهاً، فالشباب يتأثرون بعضهم بعضاً سلباً وإيجاباً. وبالتالي أصبح بعض الشباب الأكراد المتحمسين لقوميتهم يفكرون بعثياً كردياً. ولسان حالهم يقول: لماذا القومية العربية تجعل العربي السوري لا ينفصل عن العربي المغربي، بينما لا يحق للكردي السوري أن يفكر بوحدة المصير مع الكردي في تركيا والعراق، حيث تكون العشيرة الواحدة مقسمة أحياناً بين هذه الدول الثلاث وليس كما هي العلاقة بين العربي السوري والعربي المغربي؟. فإذا كان العربي يفتخر بشعار "أمة عربية واحدة" فلماذا لا يجب على الكردي أن يفتخر بشعار مماثل" أمة كردية واحدة". طبعاً لا أقول أن المسألة تحولت إلى ظاهرة بين صفوف الأكراد، ولكنها أثرت سيكولوجياً على التعصب الكردي أيضاً.
ما أردت قوله أن فكرة الانفصال دخيلة على مخيلة الكردي، وبعض شظاياها التي ظهرت كانت نتيجة الفكر القومي العربي الشمولي ونزعته الشوفينية التي وقفت حجرة عثرة أمام نمو وارتقاء الوحدة الوطنية الفعلية. ونتيجة الفشل في تحقيق الشعارات القومية على صعيد الأمة العربية بدأت هذه الجهات القومية العربية التفكير في صهر الأكراد في بوتقة الأمة العربية القطرية. وكان من الطبيعي تغليف ذلك بربط حقوق الأكراد بتدخلات الأيدي الخارجية(أمريكية، صهيونية). ففي هذا الشرق تبدأ الجريمة باتهام الآخر بالخيانة الوطنية لكي يكون مبرر الجريمة "مقنعاً".
أعتقد أن مرحلة الرومانسيات القومية التي سادت في النصف الأول من القرن الماضي انتهت. وتبدأ الآن مرحلة جديدة هي أكثر واقعية. ونلمس بوادر هذه الواقعية من خلال قناعة الجميع، بما في ذلك جهات من داخل السلطة، أن استمرا الوضع في البلد على ما هو عليه غير ممكن، فالشعارات القومية لم تجلب سوى الفقر والجوع والأزمة العامة الراهنة، ولا بد من الإصلاح والتطوير( من وجهة نظر السلطة) أو التغيير( من وجهة نظر المعارضة وجماعة المجتمع المدني ولجان حقوق الإنسان السورية). بغض النظر عن المصطلحات فثمة قناعة لدى الجميع(بنسب متفاوتة) أن البلد يعيش في أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية عامة نتجت عنها أمراض مزمنة مثل الفساد والرشوة(وخاصة في سلك القضاة) وتدني مستوى المعيشة والبطالة، وأهم من ذلك كله اغتراب الشعب عن الوطن وعن مستقبله.
لاحظنا في السنوات الأخيرة كثرة مشاريع الإصلاح والتطوير أو التغير العام. وبالطبع لم تر هذه المشاريع النور بما في ذلك مشاريع السلطة. غير أن هذه المشاريع كلها إما تتجاهل المسألة الكردية، أو تتطرق إليها كموضوع ثانوي لا يشكل جزءاً من الأزمة العامة في البلد. وما يلفت إلى الانتباه أن بعض قوى المعارضة، إلى جانب بعض الكتاب والمثقفين يسعون إلى طمس المشكلة الكردية بالحديث عن معاناة الشعب السوري العامة. لاشك أن هذا الحديث صحيح بنسبة كبيرة، لكن الصحيح الآخر أيضاً هو أن السلطات السورية المتعاقبة، إلى جانب كل ممارساتها تجاه الشعب السوري برمته، كانت تخص الأكراد بممارسات متميزة في الاضطهاد القومي. زد على ذلك فقد تراكمت لدى الأكراد من خلال أخوتهم في العراق وإيران وتركيا تجارب مرة بأن المعارضة التي تتكلم تجاههم بشيء من الانفتاح قبل استلام السلطة سرعان ما تنقلب عليهم بعد استلام السلطة وأحياناً بشكل أسوء من السلطات السابقة. كما أن بعض جهات المعارضة السورية تتكلم عن الديمقراطية والمساواة والحرية من زاوية حقها في ذلك فقط. بل هناك بعض الاطروحات بين صفوفها تجاه الوضع العراقي وما تسمى بالمقاومة العراقية تدل على استعدادها لممارسة الاستبداد أيضاً.
لا أعتقد أن ثمة إمكانية موضوعية لحل الأزمة العامة في البلد دون النظر إلى المسألة الكردية كجزء من هذه الأزمة. خصوصاً أن العامل الكردي في الواقع السوري الحديث ليس عاملاً راكداً كما كان في السابق. ولا أعتقد أن القفز على المشكلة الكردية السورية سيؤدي إلى تحقيق أية حركة إصلاحية تطويرية أو إلى التغير الايجابي بشكل عام. لقد بات واضحاً أن الأزمات الداخلية في العالم الثالث وحلها مرتبطان موضوعياً بالعامل الخارجي الذي أصبح أكثر حضوراً داخل هذه البلدان بعد انتقال النظام الرأسمالي إلى مرحلة العولمة، خصوصاً من الناحية الاقتصادية. فالعامل الخارجي موجود حتى في تفكيرنا اليومي وفي مجمل حياتنا الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، لقد أصبح العالم قرية صغيرة كما يقال. ولهذا أعتقد أن التهويل بخطر العامل الخارجي هو وسيلة للتهرب من الاستحقاقات الوطنية.
لا يستطيع أحد أن يتجاهل أن التطورات التي جرت على القضية الكردية في إيران وتركيا وأخيراً في العراق لن تؤثر على أكراد سورية. ولهذا لابد من تناول المسألة الكردية السورية بجدية كاملة، انطلاقاً من المصلحة الوطنية بالدرجة الأولى. فالحوار مع الطرف الكردي السوري ضرورة ملحة، وقد قامت جهات من المعارضة السورية ببعض المحاولات الايجابية على هذا الصعيد، ولا بد للسلطة أن تبادر إلى ذلك، ومن خلال هذا الحوار يمكن الوصول إلى حل وطني لهذه المسألة ولغيرها.
لقد بينت أحداث قامشلي مدى الاحتقان المتراكم في نفسية المواطن الكردي خلال العقود الماضية، هذا الاحتقان الذي قد يلحق الضرر بالجميع، وبالتالي فالقضاء على هذا الاحتقان لا يمكن أن يتم من خلال القوة، التي قد تخلق هدوءاً مؤقتاً، ولكن سرعان ما قد ينفجر الوضع بشكل أسوء من السابق.
إن الاستحقاقات الراهنة أمام سورية كبيرة. وبعيداً عن أسلوب التهم والتشهير، أرى أن التفكير الراهن على مختلف المستويات لا يدل على إمكانية الخروج من الوضع المتأزم الذي يعيشه البلد. الجميع يرون ضرورة الإصلاح والتغير، بما في ذلك جهات في السلطة. ولكن لا يوجد أجماع على برنامج وطني فكري وعملي لهذا الإصلاح أو التغير. وأعتقد أن السبب في ذلك يعود إلى البنية الاقتصادية والسياسية الشديدة التعقيد في النظام السوري، بحيث إجراء أي إصلاح حقيقي أو تغير لا يمكن أن يتم دون تغير هذه البنية. وبما أن النظام قائم أصلاً على هذه البنية، وأن التغير سيلحق أضراراً جوهرية للجهات المستفيدة من الواقع الراهن، فإن أية فكرة إصلاحية من قبل النظام أخذت تمر من خلال فلترات عديدة، مما يؤدي إلى شلّ تلك الفكرة الإصلاحية من جوهرها. أما المعارضة وبكل تياراتها، سواء تلك التي في دائرة النظام أو التي في خارجها، فهي مازالت هامشية، بل أن بنيتها هي الأخرى لا تتفق كثيراً مع التوجهات الإصلاحية الديمقراطية الفعلية. فغالبية هذه المعارضة، إذا لم نقل كلها، تغذيها منابع استبدادية لم يتم التحرر منها كاملة، ولذلك لا توجد ضمانات على توجهاتها الديمقراطية إذا ما انتقلت إلى الموقع الآخر. فالتفكير الأحادي والممارسة الأحادية مازلت هي المسيطرة لدى كافة التشكيلات السياسية السورية، بما في ذلك على الأحزاب الكردية أيضاً. ولهذا السبب نجد أن المسافة بين هذه التشكيلات السياسية والسلطة وبين بعضها بعضاً شاسعة ولا تسير باتجاه قبول التعددية في التفكير والممارسة. كما أعتقد أن هذه الحالة هي التي تفتح المجال لفاعلية الضغط الخارجي أكثر من التهم التي توزعها بعض الجهات مجاناً.
أخيراً أكرر ما قلته سابقاً، أن المشكلة الكردية في سورية جزء من المشكلة العامة. وعدم حلها أو التلاعب عليها(كما يبدو حتى الآن..) سيؤثر سلباً على تفعيل الامكانات الوطنية الفكرية والاقتصادية والبشرية للخروج من المأزق الراهن الذي يعيشه البلاد. هذا المأزق المستفحل داخلياً والمهدد بالانفجار خارجياً. وإذا لم يجر تغير جوهري في طبيعة التفكير السائد حتى الآن، هذا التفكير الذي أوصل الكيان الاقتصادي والاجتماعي والسياسي إلى هذا التشتت والتمزق، وخصوصاً على صعيد التيارات السياسية الكلاسيكية وأحزابها التي أصابها العقم بكل معنى الكلمة، فإن جميع العناصر التي تكون الأزمة العامة الراهنة في البلد، بما في ذلك المشكلة الكردية، هي قنابل موقوتة تهدد كل طموحات الشعب السوري في العيش الكريم والارتقاء إلى مصاف الشعوب المتحضرة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حالة -إسرائيل- مزرية ونتنياهو في حالة رعب من إمكانية صدور مذ


.. احتمال إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكّرات اعتقال إسرائيل




.. خيام لا تقيهم برد الشتاء ولا حر الصيف.. موجات الحر تفاقم معا


.. العالم الليلة | ترمب: أتطلع لمناظرة بايدن.. ونتنياهو لعائلات




.. الأمم المتحدة تبدي انزعاجها من إجراءات إنفاذ القانون ضد محتج