الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الجزائر ، نظرة جديدة للتاريخ الوطني أكثر من ضرورية (8)

العربي عقون

2012 / 3 / 2
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


الحلقة الثامنة والأخيرة

...//...

في الواقع ، كانت أفريقيا التي ظلت تحمل هذا الاسم طيلة فترة معينة، ثمّ أطلق عليها اسم المغرب ظلت بالنسبة لجميع من أشرنا إليهم بلاد البربر والأفاريق - وهم الأمازيغ المترومنون الذين اعترف لهم بخصوصيتهم - ثم العرب الذين "جاءوا" لنشر الإسلام ، ذلك هو الوضع الذي كانت أفريقيا بدقّة في القرن السابع الميلادي، وما نخشاه هو أن هؤلاء الكتاب الذين رووا أحداث الفتح منذ بداياتها لا يولون أي اعتبار لأهل البلاد الذين ما هم إلا شعوب متوحشة تعبد الأصنام أو تعتنق أديان الكفّار. لا شيء من ذلك حدث، ويمكننا القول بشيء من الوثوقية أنّ مثل هذه الآراء لا تزال إلى حد الآن، رغم مرور أربعة عشر قرنا من التطور الفكري.
كانت نظرة الكتاب على اختلاف اللغات التي كتبوا بها : لاتينية وعربية وحتى أمازيغية (لأننا نكتشف في كل مرة نصوصا أمازيغية) في عمقها نظرة واحدة يمكن اختصارها في أنها سجلت أن الشعوب المغلوبة كان متاحا لها - بالنسبة للرومان لو أرادت - أن توقف المقاومة وأن تقبل الخضوع للنظام الروماني بموجب اتفاقية تحالف وصداقة وفي حال الفتح الإسلامي أن تعتنق الإسلام وفي الحالتين كانت شخصية وقيم وهوية الشعوب معترف بها ولم تكن محلّ نفي على الإطلاق.
كتاب القرن الحادي عشر الميلادي كانوا أكثر موضوعية مثل ابن خرداذبّة الذي قام بجرد كامل للقبائل الأمازيغية وابن عبد الحكم من ذات الفترة الذي نجد فيه معلومات دقيقة ولو نسبيا عن الأفاريق، وأخر كاتب ظهر في فترة متأخرة كان للنويري وهو مصري من القرن الرابع عشر الميلادي وضع جدولا للفتوحات هو الأكمل حيث يتساوى الجميع : أمازيغ وعرب وأفاريق وروم .
وماذا عن الدين ودوره كنظام هو الأرقى في تنظيم المجتمع ، لم يغب ذلك عن أعين وأقلام الكتاب القدامى وليس أقل مما تمثله كأداة سيطرة سياسية واقتصادية.
نقرأ في "المناقب" وهو نوع من المديح لأبي محرز خلف: "... أخي نهايتنا قربت وأفعالنا مقيتة وحياتنا مترفة والعالِم أضحى آثما والقاضي طاغية والبائع غشاشا والمؤمن خائنا والأخوة مخادعين والأبناء بلاءً والجار مؤذيا والصديق مقلقا والسلطان شيطانا (يقصد الفاطميين)... والعفيف ضعيف والمسلم مماحك ... وكل ترك دينه حتى صار الأمان يشترى والخيانة يدفَع لها ثمن والدين سلّما نحو الثراء" ( ). ما أروع هذه الواقعية في تسجيل الوقائع فهذا النص على قِدمه هو وحده الذي يبقى معْلما شامخا ينبغي أن نستدل به في دراساتنا وفي تعريف الموقف الواجب اتخاذه إزاء التاريخ، وما أروع هذا النصّ القادم من أعماق التاريخ! على عكس بعض النصوص لكتاب آخرين حجبت التاريخ على طريقتها بصفة شبه كلية.
نصل الآن إلى هذا المؤرخ والجغرافي في الآن ذاته الذي كتب مؤلَّفه ما بين 1060-1070 وهو كتاب المسالك والممالك، هذا الكاتب هو أبو عبيد البكري تعتبر مساهمته في التعريف بالوضع الاجتماعي والاقتصادي لمغارب العصر الوسيط مساهمة أساسية وخاصة في ما يهمّنا هنا فقد أرجع الرأي العامّ المشترك للمثقفين والموظفين (وهم أحدهم) وقادة الشعب ومنهم أراد أن يفهم ما رأته عيناه، فبالنسبة لهؤلاء جميعا تمثل المغارب منطقة شاسعة عامرة بالحضارة من خلال مدنها ومعالمها وبالتاريخ من خلال التأثيرات والإبداعات التي أقامها الإغريق والقرطاجيون والرومان وهي أعمال إبداعية يعتبرها الجميع جزءا من تراث غني.
وصف البكري تذكير تاريخي ضروري لفهم أفضل لجوانب جغرافية في الأساس، يعطي للمغارب مخططا يجعل بعض الأشياء تختلط علينا، أشياء لا يزال يلفها النسيان ومع البكري نسبح في فضاء شاسع بعيدا عن كلّ تقييد أو تضييق، وما أروعه حتى في مجال الدين ذاته يبدو كونيا ! يتحدث عن هيبون فيشير إلى أنها مدينة "أوغوشطين" (القديس أوقوستينوس) كبير رجال الدين المسيحي، وفي سياق آخر كتب أنّ مفهوم "الله الواحد" وصل لأول مرة إلى المغارب على يد "أبناء عيسى بن مريم" (المسيحيون) وهذا صحيح تماما.
لقد لفت اهتمامنا أكثر كتّابا غير معروفين كثيرا ولكنهم أقدم بكثير، لأننا ترى أنّ في نصوصهم الكثير من التفاصيل المتعلقة بالمجتمع وبالحضارة في المدن والقرى ومعلومات عن المباني واللغات والتقاليد والعادات ووضع التعمير السكاني والبنيات الاجتماعية وذهنيات الشعوب، في تلك الأزمان كان المحللون والمؤرخون يكتبون بلغة الحقيقة دون الخوف من أن توجّه لهم تهمة العمالة لغزو ثقافي من أي نوع كان.
لقد غرزت النزعة إلى الحقيقة التاريخية جذورها كما أشرنا إليه في التاريخ القديم، ودامت إلى القرون الوسطى وازدادت رسوخا على يد أخر الكبار من المؤرخين المغاربيين وهو ابن خلدون الذي لا نقترب منه دون أن تأخذنا الرهبة فعمله -الغني عن كل بيان- شاسع وعميق شامل لكل تاريخ المغارب بحث فيه وحلل عِلل الوقائع وهو كتاب كوني لأن ابن خلدون أرّخ للحضارة عموما،وتظهر عبقريته في اتساع نظرته إلى حدّ أنّه خرج بفكرة أنّ تاريخ المغرب يفهَم على ضوء التطور الذي كان عالم البحر المتوسط والشرق مسرحا له.
وفي نهاية هذه النظرة العامّة خطرت ببالنا فكرة في شكل استنتاج عامّ وهي وجود حضارة شمال أفريقية وضمنها أخذت الحضارة الجزائرية ملامحها الخاصة، وعلى اعتبار أن كلّ حضارة هي تجميع لعناصر مركبة منذ البدايات وفي جوانب مختلفة فإنّها بذلك فقط تكُون حضارة، وأن كل محاولة للحدّ من تنوع مكوناتها يشوهها ويحدّ من توهجها وإشعاعها.
ثمّ ماذا ! ألا نملك القوة والإرادة لنحب وطننا كما هو، وكما هو لنا، وأخيرا ويوما عن يوم كما نراه ينمو ويتقوى بفضل إسهامات كلّ أبنائه
عبر العصور يواصل الشعب مساره ، ما ينبغي هو اقتفاء أثره خطوة خطوة، وفي كل مرة؛ لقطف ثمار أعماله وتشرّب كل قيمه من مروياته الشفوية وفكره المدوّن، والتواصل معه في نقاط ضعفه وحتى ضمن حدوده التي كانت في وقتها ترسم طريق الاعتراف بالهوية والثقافة الوطنية.
وحري بنا أن نواصل الإسهام في التراث المشترك بقسطنا من الحقيقة كما فعل من سبقونا ففي التاريخ تواصل عبر كل تقطّع !
ماذا يمكن فهمه من الرؤى الجديدة التي تظهر هذه الأيام كمحاولة لتجريد التاريخ من معناه ومدلوله وتبرير ذلك على أنّه من أجل المصلحة العليا للأمة، في حين أن ما يراد سلبه من التاريخ هو الذي يشعرنا بهويتنا وبقوتنا.


(*) هذا النص الممتد هنا على صفحات الحوار المتمدن على 8 حلقات مقتطف من :
DJENDER (Mahieddine), Introduction à l histoire de l Algérie, ENAG éditions, Alger 2006, pp. 7-31.؛
وقد اعتمدنا في هذه الترجمة الطبعة الثانية الصادرة عن المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية (رغاية، الجزائر) سنة 2006.
( 1) - Abou Zakaria , Chronique, trad. R. le Tourneau, in Revue africaine, 1er et 2ème trimestre, 1960, p. 99.
(**) كتب المؤلف الكلمة العربية كما هي وبالحرف اللاتيني.
(***) العبارة الأصلية : Le Territoire de l Historien وقد رأينا تعريبها بمجال المؤرخ لان الترجمة اللفظية : إقليم المؤرخ غير مستساغة في رأينا.
(****) كورتيس Cortes هو مجلس التشريع في إسبانيا.
( 2) مصطلح الـ Economisme يعبّر عن نزعة في العلوم الاجتماعية تعتبر كل الظواهر الاجتماعية ظواهر اقتصادية، كما يستعمله بعض من يرون في الاقتصاد أيديولوجية. كما يوظفه البعض لنقد الرؤية الاقتصادية البحتة للمجتمع.
(*****) المقصود هو نشوء الشكل الحديث للدولة وهو الدولة – الأمّة.
( 3) يراجَع : Thiery (A.), Essai sur les origines et les progrès du Thiers- Etat
( 4) - voir Hist. De la Litt. Romaine, par Jean Roy et Puech, pp. 327-352.
( 5) -Manaqibs d Abou Tahir Al Tarissi, trad. de H.R. IDRIS, éd. PUF, Paris 1959 (texte français p.390, texte arabe p. 136)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. زيارة الرئيس الصيني لفرنسا.. هل تجذب بكين الدول الأوروبية بع


.. الدخول الإسرائيلي لمعبر رفح.. ما تداعيات الخطوة على محادثات 




.. ماثيو ميلر للجزيرة: إسرائيل لديها هدف شرعي بمنع حماس من السي


.. استهداف مراكز للإيواء.. شهيد ومصابون في قصف مدرسة تابعة للأو




.. خارج الصندوق | محور صلاح الدين.. تصعيد جديد في حرب غزة