الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التأويل داخل حقل الإسلاميات (2)

مجدي عزالدين حسن

2012 / 3 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


3/ التفسير والتأويل:

التفسير في اللغة هو الإيضاح والتبيين والكشف، قال ابن منظور في (لسان العرب): " الفسر البيان يقال فسر الشيء وفسره أي أبانه... والفسر: كشف المغطى.. والتفسير البيان وهو كشف المراد عن اللفظ المشكل" أما في الاصطلاح فقد عرفه الزركشي " بأنه علم يُفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد وبيان معانيه واستخراج أحكامه وحكمه"

تاريخيا، هناك من نظر إلي التفسير والتأويل باعتبار أن مدلولهما واحد، في المقابل هناك من يُجري تفرقة بين التفسير والتأويل.

الفريق الأول: يمثله في الغالب المتقدمين، فعندهم يأتي التأويل بمعنى التفسير وبيان المعنى، فيقال تفسير القرآن وتأويل القرآن بمعنى واحد. وهذا ما عناه ابن جرير الطبري في تفسيره بقوله:" القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا، وبقوله أيضا: اختلف أهل التأويل في هذه الآية ومراده التفسير" وهو الأمر عينه الذي أكده ابن تيمية بقوله: " التأويل في لفظ السلف:.... تفسير الكلام وبيان معناه سواء وافق ظاهره أو خالفه فيكون التأويل والتفسير عند هؤلاء متقاربا أو مترادفا"

الفريق الثاني: يمثله في الغالب المتأخرين، حيث اشتهر عندهم أن التفسير غير التأويل، فالتفسير هو " المعنى الظاهر من الآية الكريمة. والتأويل هو المعاني الخفية التي تستنبط من الآية الكريمة، والتي تحتاج إلى تأويل وتفكير واستنباط، والتي تحمل عدة معان، ويرجح المفسر منها ما كان أقوى عن طريق النظر والاستدلال، وليس هذا الترجيح بقطعي، بل هو ترجيح للأظهر والأقوى، إذ الحكم بأن المراد قطعي تحكم في كتاب الله"
وهناك من يقسمون القرآن الكريم إلى قسمين: آيات محكمات وأُخر متشابهات وقد قاموا بنسب التفسير إلى المحكم " وعلى هذا فإن التفسير يكون قاصرا على آيات كتاب الله المحكمات التي تتناول العبادات والمعاملات فقط" . أما التأويل فمجاله المتشابه. إلا أن الغزالي له رأي آخر، إذ يقول: " في القرآن محكم ومتشابه كما قال تعالى: }منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات{ آل عمران(70) واختلفوا في معناه، وإذا لم يرد توقيف في بيانه فينبغي أن يفسر بما يعرفه أهل اللغة ويناسب اللفظ من حيث الوضع، ولا يناسبه قولهم: المتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، والمحكم ما وراء ذلك. ولا قولهم: المحكم ما يعرفه الراسخون في العلم، والمتشابه ما ينفرد الله تعالى بعلمه. ولا قولهم: المحكم الوعد والوعيد والحلال والحرام والمتشابه القصص والأمثال، وهذا أبعد. بل الصحيح أن المحكم يرجع إلى معنيين أحدهما المكشوف المعنى الذي لا يتطرق إليه إشكال واحتمال، والمتشابه ما تعارض فيه الاحتمال.

الثاني: أن المحكم ما انتظم وترتب ترتيبا مفيدا على ظاهر أو على تأويل، ما لم يكن فيه متناقض ومختلف، لكن هذا المحكم يقابله...الفاسد دون المتشابه، وأما المتشابه فيجوز أن يعبر به عن الأسماء المشتركة.. كقوله تعالى }:الذي بيده عقدة النكاح) البقرة(237) فإنه مردد بين الزوج والولي وكاللمس المردد بين المس والوطء. وقد يطلق على ما ورد في صفات الله مما يوهم ظاهره الجهة والتشبيه، ويحتاج إلى تأويله.

فإن قيل قوله تعالى: }وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم{آل عمران(7) الواو للعطف أم الأولى الوقف على الله، قلنا: كل واحد محتمل فإن كان المراد به وقت القيامة فالوقف أولى، وإلا فالعطف. إذ الظاهر أن الله تعالى لا يخاطب العرب بما لا سبيل إلى معرفته لأحد من الخلق.

فإن قيل فما معنى الحروف في أوائل السور إذ لا يعرف أحد معناها، قلنا: أكثر الناس فيها وأقربها أقاويل: أحدها أنها أسامي السور حتى تعرف بها، فيقال سورة يس وطه.
وقيل ذكرها الله تعالى لجمع دواعي العرب إلى الاستماع لأنها تخالف عادتهم، فتوقظهم عن الغفلة حتى تصرف قلوبهم إلى الإصغاء، فلم يذكرها لإرادة معنى.
وقيل إنما ذكرها كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج عنها جميع كلام العرب تنبيها أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم ... فقد ثبت أنه ليس في القرآن ما لا تفهمه العرب"

من جانبنا نقول أن حقل التأويل أكثر اختصاصا وأكثر عمقا من التفسير، وهو الأمر الذي يُعلي من شأن التأويل على حساب التفسير، ويُعلي من شأن المؤول أكثر من المفسر، طالما أن التفسير يتعامل مع الحرفي السطحي الظاهر في حين يتعامل التأويل مع روح المعنى والعمق والباطن، فالمؤول أكثر حفرا وتنقيبا من المفسر. وعلى ذلك: كل مؤول مفسر وليس كل مفسر مؤول، وخير مثال لذلك ابن عباس الذي جمع بين التفسير والتأويل.

ومن جهة أخرى، يمكننا الجمع بينهما في وحدة واحدة، وذلك عبر النظر إلى التفسير بوصفه مرحلة أولى تأتي بعده مرحلة التأويل. ولابد لكلٍ من المفسر و(المفسر المؤول) الدراية التامة بالروايات المختلفة، الأحاديث صحيحها وضعيفها، وأقول الصحابة والتابعين، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وقواعد اللغة ..الخ.

وفي ذات السياق، نورد قول نصر أبو زيد: " على مستوى تفسير النص الديني(القرآن) تلك التفرقة الحاسمة بين ما أطلق عليه (التفسير بالمأثور) وما أطلق عليه (التفسير بالرأي) أو (التأويل) وذلك على أساس أن النوع الأول من التفسير يهدف إلى الوصول إلى معنى النص عن طريق تجميع الأدلة التاريخية واللغوية التي تساعد على فهم النص فهما (موضوعيا)، أي كما فهمه المعاصرون لنزول هذا النص من خلال المعطيات اللغوية التي يتضمنها النص وتفهمها الجماعة. أما التفسير بالرأي أو (التأويل) فقد نُظر إليه على أنه تفسير (غير موضوعي)، لأن المفسر لا يبدأ من الحقائق التاريخية والمعطيات اللغوية، بل يبدأ بموقفه الراهن محاولا أن يجد في القرآن سندا لهذا الموقف. وقد أطلق على أصحاب الاتجاه الأول أهل السنة والسلف الصالح... وأصحاب الاتجاه الثاني وهم الفلاسفة والمعتزلة والشيعة والمتصوفة"

وإن كنا نتفق مع أبو زيد في التفرقة بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي، فإننا نختلف معه فيما ذهب إليه من أن التأويل (يبدأ بموقفه الراهن محاولا أن يجد في القرآن سندا لهذا الموقف) فهذا القول ليس بصحيح، لأن نقطة انطلاقة العملية التأويلية إنما هي النص نفسه. من جهة ثانية لا يجب الخلط ـ كما ذهب إلى ذلك أبو زيد ـ ما بين التفسير بالرأي من جهة والتأويل من جهة أخرى. صحيح أن التفسير بالرأي مثّل تاريخيا شكل من أشكال التأويل لكن يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه مثّل مرحلة مبكرة وغير ناضجة مهدت فيما بعد لنشوء نظرية عن التأويل داخل حقل الإسلاميات. وعلى ذلك فليست ثمة أية مطابقة أو مماهاة بين التفسير بالرأي والتأويل.

وإذا رجعنا إلى (التفسير بالمأثور) سنجده يتفرع إلى ثلاث أفرع رئيسية:
أ/ تفسير القرآن بالقرآن:
وهو يعني أن القرآن يفسر نفسه بنفسه، فما جاء مجملا في موضع ما قد نجده مفصلا في موضع آخر في النص. قال البخاري في صحيحه: " حدثني محمد بن بشار حدثنا ابن أبي عدي عن شعبة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت} الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم{ قال أصحابه: وأينا لم يظلم نفسه، فنزلت } إن الشرك لظلم عظيم{" وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: لما نزلت هذه الآية} الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم{ شق ذلك على الناس فقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه، قال إنه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح } يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم{ إنما هو الشرك"
ب/ تفسير القرآن بالسنة النبوية:
إذا لم نجد التفسير في القرآن ينبغي أن نرجع للسنة النبوية. قال الإمام أحمد: " حدثنا عبد الله بن نمير حدثنا إسماعيل عن أبي بكر ابن أبي زهر قال أُخبرت أن أبا بكر قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية } ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به{ فكل سوء عملناه جزينا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تنصب، ألست تحزن، ألست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: فهو مما تجزون به"
ج/ تفسير القرآن بأقوال الصحابة والتابعين:
إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة فينبغي البحث عنه في أقوال الصحابة، فإن لم نجده نرجع في ذلك ل أقوال التابعين، وفي ذات السياق يرى ابن تيمية " إن الصحابة والتابعين والأئمة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، وجاء قوم فسروا الآية بقول آخر لأجل مذهب اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان، صاروا مشاركين لغيرهم من أهل البدع في مثل هذا. و في الجملة من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا في ذلك بل مبتدعا وان كان مجتهدا مغفورا له خطؤه فالمقصود بيان طرق العلم وأدلته وطرق الصواب ونحن نعلم أن القرآن قرأه الصحابة والتابعون وتابعوهم وأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم فمن خالف قولهم وفسر القرآن بخلاف تفسيرهم فقد أخطأ في الدليل والمدلول جميعا ومعلوم أن كل من خالف قولهم له شبهة يذكرها إما عقلية وإما سمعية"
4/ ضرورة التأويل عند الغزالي وابن رشد:

يتحدث الغزالي بضرورة التأويل في كثير من مؤلفاته، ومما يورده في هذا الصدد، قوله في كتابه (المستصفى في علم الأصول): " إذا قيل لك: (إن الأعمال تُوزن) علمت أن الأعمال عرض لا يوزن فلابد من تأويل، وإذا سمعت: ( أن الموت يُؤتى به في صورة كبش أملح فيُذبح) علمت أنه مؤول، إذ الموت عرض لا يؤتى به إذ الإتيان انتقال، ولا يجوز على العرض، ولا يكون له صورة كصورة كبش أملح. إذ الأعراض لا تنقلب أجساما ولا يُذبح الموت. إذ الذبح فصل الرقبة عن البدن، والموت ما له رقبة ولا بدن، فإنه عرض أو عدم عرض عند من يرى أنه عدم الحياة، فإذن لا بد من التأويل"

وفي كتابه (جواهر القرآن) يقول: " فما من كلمة إلا وتحتها رموز وإشارات إلى معنى خفي يدركها من يدرك الموازنة والمناسبة بين عالم الملك والشهادة وعالم الغيب والملكوت إذ ما من شيء في عالم الملك والشهادة إلا وهو مثال لأمر روحاني من عالم الملكوت كأنه هو في روحه ومعناه وليس هو هو في صورته وقالبه" فهو هنا يبني تصوره للتأويل على ثنائية عالمي الملك والشهادة في مقابل الغيب والملكوت أو عالم الظاهر في مقابل عالم الباطن الذي ترتبط به الحقيقة. " فانظروا إلى ما ينكشف للنائم في نومه من الرؤيا الصحيحة التي هي جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة وكيف ينكشف بأمثلة خيالية فمن يعلم الحكمة غير أهلها يرى في المنام أنه يعلق الدر على الخنازير. ورأى بعضهم أنه كان في يده خاتم يختم به فروج النساء وأفواه الرجال، فقال له ابن سيرين: أنت رجل تؤذن في رمضان قبل الصبح. فقال: نعم. ورأى آخر كأنه يصب الزيت في الزيتون، فقال له: إن كان تحتك جارية فهي أمك، قد سُبيت وبيعت واشتريتها أنت ولا تعرف، فكان كذلك. فانظر ختم الأفواه والفروج بالخاتم، مشاركا للأذان قبل الصبح في روح الخاتم وهو المنع، وإن كان مخالفا في صورته، وقس على ما ذكرته ما لم أذكره، واعلم أن القرآن والأخبار تشتمل على كثير من هذا الجنس، فانظر إلى قوله قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإن روح الأصبع القدرة على سرعة التقليب وإنما قلب المؤمن بين لمة الملك وبين لمة الشيطان، هذا يغويه وهذا يهديه، والله تعالى بهما يقلب قلوب العباد، كما تقلب الأشياء أنت بأصبعيك، فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخرين إلى الله تعالى أصبعيك في روح أصبعيه، وخالفا في الصورة، واستخرج من هذا قوله إن الله تعالى خلق آدم على صورته وسائر الآيات والأحاديث الموهمة عند الجهلة للتشبيه. والذكي يكفيه مثال واحد والبليد لا يزيده التكثير إلا تحيرا ومتى عرفت معنى الأصبع أمكنك الترقي إلى القلم واليد واليمين والوجه والصورة وأخذت جميعها معنى روحانيا لا جسمانيا فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بد من تحقيقها إذا ذكرت حد القلم هو الذي يكتب به، فإن كان في الوجود شيء يتسطر بواسطته نقش العلوم في ألواح القلوب فأخلق به أن يكون هو القلم، فإن الله تعالى علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهذا القلم روحاني إذ وجد فيه روح القلم وحقيقته، ولم يعوزه إلا قالبه وصورته، وكون القلم من خشب أو قصب ليس من حقيقة القلم، ولذلك لا يوجد في حده الحقيقي، ولكل شيء حد وحقيقة هي روحه، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانيا وفتحت لك أبواب الملكوت وأهلت لمرافقة الملأ الأعلى وحسن أولئك رفيقا. ولا يستبعد أن يكون في القرآن إشارات من هذا الجنس وان كنت لا تقوى على احتمال ما يقرع سمعك من هذا النمط ما لم تسند التفسير إلى الصحابة فإن كان التقليد غالبا عليك فانظر إلى تفسير قوله تعالى كما قاله المفسرون }أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله{الرعد:17... وأنه كيف مثل العلم بالماء والقلوب بالأودية والينابيع والضلال بالزبد ثم نبهك على آخرها فقال كذلك يضرب الله الأمثال ويكفيك هذا القدر من هذا الفن فلا تطيق أكثر منه. وبالجملة فاعلم أن كل ما يحتمله فهمك فإن القرآن يلقيه إليك على الوجه الذي لو كنت في النوم مطالعا بروحك اللوح المحفوظ لتمثل ذلك لك بمثال مناسب يحتاج إلى التعبير. واعلم أن التأويل يجري مجرى التعبير فلذلك قلنا يدور المفسر على القشر إذ ليس من يترجم معنى الخاتم والفروج والأفواه كمن يدرك أنه أذان قبل الصبح"

ويبين لنا أيضا ضرورة التأويل من خلال رسالة (إلجام العوام عن علم الكلام) بقوله: " فقد سألتني أرشدك الله عن الأخبار الموهمة للتشبيه عند الرعاع والجهال من الحشوية الضلال حيث اعتقدوا في الله وصفاته ما يتعالى ويتقدس عنه من الصورة واليد والقدم والنزول والانتقال والجلوس على العرش والاستقرار، وما يجري مجراه مما أخذوه من ظواهر الأخبار وصورها، وأنهم زعموا أن معتقدهم فيه معتقد السلف، وأردتُ أن أشرح لك اعتقاد السلف، وأن أُبين ما يجب على عموم الخلق أن يعتقدوه في هذه الأخبار، وأكشف فيه الغطاء عن الحق، وأميز ما يجب البحث عنه عما يجب الإمساك والكف عن الخوض فيه"

وواضح من خلال مقدمة رسالته هذه أن الغزالي يبين هنا خطأ المجسمة والمشبهة وهم الفرق والطوائف الذين تقيدوا بظاهر النص كما هو دونما تأويل وتطرفوا في الأخذ بحرفية النص القرآني والنبوي، وهؤلاء " راعوا مجرد اللفظ ... من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم به ولسياق الكلام ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون في احتمال اللفظ لذلك المعنى في اللغة" وهي دعوة صريحة بضرورة التأويل وصرف اللفظ من معناه الظاهر إلى معنى أخر.

وأخيرا لنستمع إلى الغزالي وهو يقول في رسالة (المضنون به على غير أهله) " وكم من المنامات عرضت على رسول الله من رؤيا لبن أو حبل. فقال: اللبن هو الإسلام والحبل هو القرآن، إلى أمثال لا تحصى، وأي مماثلة بين اللبن والإسلام والحبل والقرآن إلا في مناسبة، وهو أن الحبل يتمسك به للنجاة والقرآن كذلك، واللبن غذاء تُغذى به الحياة الظاهرة والإسلام غذاء تُغذى به الحياة الباطنة"

ويؤكد الغزالي على أن " ما من فريق من أهل الإسلام إلا وهو مضطر إليه. فأبعد الناس عن التأويل أحمد بن حنبل... والحنبلي مضطر إليه وقائل به، فقد سمعت الثقات من أئمة الحنابلة ببغداد يقولون إن أحمد بن حنبل صرح بتأويل ثلاثة أحاديث فقط: أحدها قوله (ص):(الحجر الأسود يمين الله في الأرض). والثاني قوله (ص): (قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن). والثالث قوله (ص): (إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمين). فانظر الآن كيف أوّل هذا حيث قام البرهان عنده على استحالة ظاهره،...فانظر كيف أضطر إليه أبعد الناس عن التأويل... وإنما اقتصر أحمد بن حنبل على تأويل هذه الأحاديث الثلاثة لأنه لم تظهر عنده الاستحالة إلا في هذا القدر، لأنه لم يكن ممعنا في النظر العقلي ولو أمعن لظهر له ذلك في مما لم يتأوله(...) وليس الغرض تصحيح أحد التأويلين، بل لتعلم أن كل فريق وإن بالغ في ملازمة الظواهر فهو مضطر إلى التأويل إلا أن يجاوز الحدّ في الغباوة والتجاهل... ومن ينتهي إلى هذا الحدّ من الجهل فقد انخلع من ربقة العقل"
الآن وقد عرفنا ضرورة التأويل. فما هو التأويل؟
5/ مفهوم التأويل:

يورد الغزالي مفهومه للتأويل في كتابه (المستصفى في علم الأصول) بقوله:" التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز" وإذا قارناه مثلا مع تعريف أبو منصور الماتريدي (ت333هـ) وهو من علماء التفسير والكلام أيضا، وله كتاب في تأويلات القرآن حيث يعرفه بقوله: " التأويل هو ترجيح أحد المحتملات بدون القطع" لاعتبرنا تعريف الماتريدي محاولة مبكرة في وضع مصطلح التأويل ولعرفنا إلى أي مدى تطور ونضج المعنى الاصطلاحي للتأويل مع الغزالي.

ومن جهة أخرى إذا قارناه، بأحد لاحقيه، مثلا بالتعريف الذي أورده ابن تيمية(ت728هـ) للتأويل الذي سبق وأن أوردناه، حيث يعرّف فيه ابن تيمية التأويل كما ورد عند المتأخرين، بقوله هو " صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به" وإذا علمنا أن ابن تيمية تفصله عن الغزالي ثلاثة قرون، لخرجنا بنتيجة مفادها التأثير الكبير الذي أحدثه الغزالي فيمن جاء بعده، فهم في الغالب لم يخرجوا من عباءته في هذا المضمار.

ويظهر أيضا متابعة ابن رشد(ت595هـ) له في تعريفه للتأويل حيث يقول: " معنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز، من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُدِّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي" ويظهر هذا التأثير جليا إذا قرأنا قول الغزالي:" الآيات والأحاديث لا يتعذر الاهتداء إلى معرفة معانيها الصحيحة إذا راعينا هذا المنهج في تأويلها، واتبعنا في ذلك ما جرت عليه عادة العرب في استعمالهم لألفاظ اللغة العربية استعمالا حقيقيا أو مجازيا"
6/ فرق الباحثين في التأويل:

يرى الغزالي إشكال(المعقول والمنقول) قد قسّم الخائضون فيه إلى خمس فرق:
الفرقة الأولى: هم الذين جردوا النظر إلى المنقول،...، فهؤلاء صدّقوا بما جاء به النقل تفصيلا وتأصيلا، وإذا شوفهوا بإظهار تناقض في ظاهر المنقول وكلفوا تأويلا امتنعوا وقالوا: إن الله قادر على كل شيء.
الفرقة الثانية: تباعدوا عن هؤلاء إلى الطرف الأقصى المقابل لهم، وجردوا النظر إلى المعقول، ولم يكترثوا بالنقل. فإن سمعوا في الشرع ما يوافقهم قبلوه.
الفرقة الثالثة: جعلوا المعقول أصلا، والمنقول تابعا.
الفرقة الرابعة: جعلوا المنقول أصلا، والمعقول تابعا.
الفرقة الخامسة:الجامعة بين البحث عن المعقول والمنقول، الجاعلة كل واحد منهما أصلا مهما، المنكرة لتعارض العقل والشرع وكونه حقا، ومن كذب العقل فقد كذب الشرع، إذ بالعقل عرف صدق الشرع وكيف يكذب العقل بالشرع، وما ثبت الشرع إلا بالعقل. وهؤلاء هم الفرقة المحقة" وواضح من سياق النص أن الغزالي ينسب نفسه إلى هذه الفرقة الأخيرة. ويفصل أكثر في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) بقوله: " وأنى يستتب الرشاد لمن يقنع بتقليد الأثر والخبر وينكر مناهج البحث والنظر، أو لا يعلم أنه لا مستند للشرع إلا قول سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبره. أو كيف يهتدي للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر، وما استضاء بنور الشرع واستبصر، فليت شعري كيف يفزع إلى العقل من حيث يعتريه العي والحصر أو لا يعلم أن حظى العقل قاصر وأن مجاله ضيق منحصر، هيهات قد خاب على القطع والبت، وتعثر بأذيال الضلالات من لم يجمع بتأليف الشرع والعقل هذا الشتات" وبالتالي فإن مشكل التأويل الذي اختلف الخائطون فيه يقودنا إلى التساؤل عن التأويل صلاحيته وشروطه، مجاله ومواضعه.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الاسلام صعب جدا
ابراهيم المصرى ( 2012 / 3 / 3 - 23:04 )
أقرأ ولاأفهم فماذا يفعل من لايعرف القراءة؟هل الله يرسل دينا لايفهمة الا الفلاسفة والعباقرة؟


2 - المشكلة ليست فيما يفهمه الفلاسفة
مجدي عزالدين حسن ( 2012 / 3 / 4 - 11:50 )
تُعجبني مقولة للشيخ الإمام محمد عبده، وردت في إحدى مؤلفاته، يقول فيها:(لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتاب الله، وعن رسوله من كلام رسوله، بدون توسيط أحد من سلف أو خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك أن يحصّل من وسائله ما يؤهله للفهم....فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه) المشكلة ليست في ما (يفهمه) الفلاسفة، فعلى الأقل، هم لا يلزمون أحد بإتباع (فهمهم) للدين. ولكن المشكلة في رجال الدين أنفسهم، الذين (يفرضون) (فهمهم) علينا بوصفه الدين ذاته. والويل كل الويل لمن (يخرج) عن هذا الفهم الذي إرتضوه. المشكلة فيمن يُنصب نفسه (إلهاً)، مانحاً نفسه تفويضاً إلهياً، يرضى به عن من يشاء، ويُكفر به من يشاء.

اخر الافلام

.. رغم المعارضة والانتقادات.. لأول مرة لندن ترحّل طالب لجوء إلى


.. مفاوضات اللحظات الأخيرة بين إسرائيل وحماس.. الضغوط تتزايد عل




.. استقبال لاجئي قطاع غزة في أميركا.. من هم المستفيدون؟


.. أميركا.. الجامعات تبدأ التفاوض مع المحتجين المؤيدين للفلسطين




.. هيرتسي هاليفي: قواتنا تجهز لهجوم في الجبهة الشمالية