الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


محاولة لفهم الدوغما

مهدي علوش

2012 / 3 / 3
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يعود تاريخ مفهوم الدوغما الى بلاد اليونان القديمة ، حيث كانت تحمل هذا الاسم اوامر السلطة الحاكمة . بينما في فترة القرون الوسطى ، كانت الدوغما المسيحية تعني الايمان بما مصدره الوحي والكتاب المقدس . قد تؤدي مغامرة اي فرد بأنكارها الى تبرؤ وسطه الاجتماعي منه ، اذا لم يحصل له ما هو اسوء من ذلك . ولعلنا اليوم نحمّل الكلمة بعضاً من هذا المعنى احياناً .
في الفلسفة ارتبط مفهوم الدوغما منذ البداية بالمعرفة الانسانية وامكانيتها . فالشكيون اليونان مثلاً كانوا يطلقون كلمة دوغمائي على كل من يعتقد ان بامكاننا الحصول على اية معرفة عن الاشياء . ويبدو ان تصورنا الحالي عن الدوغما يعود في جانب كبير منه الى بداية ما يعرف بالازمنة الحديثة ، اي فترة صعود البرجوازية . فصراع فرنسيس بيكون ضد الدوغما ولاجل تعزيز المعرفة كان يجد تعبيره في تعظيمه لدور التجربة على حساب منهج القياس المنطقي الارسطي ( الاستنباط ) . بينما كان الاتجاه العقلاني في المعرفة ( ديكارت و لايبنتز ) يدعو الى استخدام نور العقل من اجل تبديد ظلام الايمان الدوغمائي . هيوم كان ينعت العقلانيين بالدوغمائية . كانت كان يرفض الأدعاء الدوغمائي بامكانية الوصول الى الشيء بحد ذاته . هيغل يلعن الذين ينكرون تناقض العالم واشيائه ويعتبره احادية نظر ميتافيزيقية . ماركس وانجلس يقيمون المنهج الديالكتيكي الهيغلي ( الذي هو ضد الدوغمائية ) على اساس مادي . في اوساط الماركسية نشأ صراع بين الدوغمائية والتحريفية ، كان حله ، كما هو معروف ، عملياً ونظرياً ، في اللينينية ، التي كانت تنتقدهما معاً على ان كليهما ناتج عن : عدم فهم التناسب الصحيح بين المتغير والثابت نسبياً من عناصر النظرية . اما في اوساط الفلسفة البرجوازية المعاصرة ، فقد تصدرت الوضعية الجديدة مجال ما يعرف بفلسفة العلم ، التي تحمل لواء مكافحة ما تسميه بالميتافيزيقية التقليدية . الا ان هذا لم يمنع احد ممثلي هذه المدرسة ، وهو ويلارد كواين ، من ان يخرج عليها بنفس سلاحها متهماً اياها بانها تنطوي على عناصر دوغمائية .
هذه النسبية الواضحة في تداول المفهوم ، في ظننا ، تقف وراء النظر اليه على انه يعبر عن التمسك غير المبرر بالآراء والمواقف القديمة . وهو صحيح الى حدٍ ما ، بقدر اعترافه الضمني بتطوّر وحركة الاشياء ، الا انه غير كاف على وجه الدقة . لان النسبية لوحدها تؤدي للمحاكمة على اساس ان كل فكر حي الآن لا بد وان يتقادم عليه الزمن ، فيجدر عندها استبداله بجديد ، لا يلبث هو الآخر ان يصير قديماً ، لا حاجة لنا به . وهكذا ، قد يصبح البريء من الدوغما هو من لا يحمل اي نظرية اطلاقاً . ولربما يصل الامر الى التنظير في الدفاع عن هذا الموقف ، وفي هذا مفارقة بيّنة .
وبما اننا لسنا ممن يتنكر للفكر، فاننا نرى ضرورة دراسة هذه الظاهرة فيه ، وتعريتها بأدواته .
الدوغما ( كأي مفهوم تاريخي ) يجب تناولها من جانبين مترابطين لايمكن فصل احدهما عن الآخر . ولربما يشكلان مصدر خواصها الاساسية ، اي ما يدعى بمحتوى المفهوم ، مما يساعد بالنتيجة على تحديد حجمه ( مجال انطباق المفهوم ، او ما يدعى ب الماصَدَق ) ، فيقلل من العشوائية في استخدامه . الاول هو الجانب المعرفي ، والثاني هو الجانب الاجتماعي-التاريخي .
اولاً - تناول المفهوم على انه يمثل مشكلة معرفية ، اي عندما تكون النظرية ( او اجزاء منها ) غير صادقة في معالجتها للواقع الموضوعي . فأن المشكلة تتعلق ، بالضرورة ، بالمنهج . اي انها تقع في دائرتي : المنطق الاعتيادي ( الشكلي ) والمنطق الديالكتيكي . الاول يقوم على مبدأين اساسيين - احدهما الاستنباط ، الذي يعني اشتقاق حقائق جديدة خاصة من مقدمات عامة ، وهو مبدأ نتائجه صحيحة بالكامل ، اذا ما كانت مقدماته صحيحة . فرنسيس بيكون انتقد هذا الاسلوب على انه دوغمائي ، وذلك لان المقدمات دائما غير مؤكدة . وحتى لو كانت مشتقة من مقدمات اسبق صحيحة ، فأن الاخيرة غير مبرهن عليها بصورة قطعية . لذلك فضّل المبدأ الثاني - أي الاستقراء ، الذي ينطلق من تجارب عملية محدودة كي يصل الى نتائج اكثر عمومية . وهو مبدأ ، وان كان لايضمن ، في اغلب اشكاله ، الاّ الصحة التقريبية للنتائج ، لكنه يشكل احد اهم مصادر معارفنا الجديدة . اليوم لا يوجد عالم منطق لا يعترف بأهمية استخدام المبدأين معاً . ومنذ اوخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين جرى تطوير ملموس في مجال المنطق الشكلي من اجل ضمان دقة نتائجه ، وذلك عن طريق اقرانه بالرياضيات ، ما كان ثمرته ما يدعى اليوم بالمنطق الرياضي ، لأول مرة عام ١٨٧٩ على يد غوتلوب فريغه . ورغم هذا التطور الكبير ، الا انه بقي يعالج بفاعلية ظواهر الطبيعة والمجتمع الساكنة نسبياً او المتوازنة . وبمجرد حصول اي تطور في الواقع المدروس ، فان ذلك يعني وجوب الخروج من هذه الدائرة والدخول في دائرة اوسع هي دائرة المنطق الديالكتيكي ، وهو - علم اشمل قوانين حركة وعلاقات كافة ظواهر الطبيعة والمجتمع . يحدث هذا عندما يلوح قصور النظرية عن تفسير الواقع المتغير، مما يستدعي تدقيق كافة عناصرها من مفاهيم وفرضيات وقوانين ، وفق قوانين الديالكتيك المادي ، بعد الرجوع للواقع المدروس في حركته وعلاقته مع محيطه . اي الرجوع الى الديالكتيك الموضوعي ، وعكسه في النظرية . بهذه المنهجية يحقق العقل انجازاته في تطور المعرفة ، والتي تتقدم الى الامام دائماً ، الا انها مع ذلك تبقى نسبية ، لا تحصل دفعة واحدة . ولكي نميّز بين الدوغما الفعلية والقصور المعرفي الناتج عن اسباب ثقافية - تاريخية ، لا بد من الكشف عن جانبها الثاني .
ثانياً - لعل الدوغما واحدة من بين الكثير من الظواهر الفكرية البشرية ، التي لايمكن فهمها بوضوح دون الاضاءة على الوضيفة التي تقوم بها ضمن النسق الفكري المحدد ، على حقيقة التحزب فيه ، اي انحيازه وتعبيره عن مصالح طبقية ، وبشكل مموّه على الاغلب . يصعب تشخيصها عن طريق المنطق فقط ، بدون الكشف عن دورها الاجتماعي .
ان نظرة سريعة على الخط العام للتطور الفكري للبرجوازية منذ لحظة صعودها التاريخي ، و ارتباطاً بتغير وضعها الاجتماعي ستكشف لنا : ان البرجوازية ، في البداية ، وبسبب وضعها الاجتماعي الخاص المتجسد في مشروعها الثوري ، كانت مجبرة على عرض مصلحتها الطبقية الخاصة على انها مصلحة عامة المجتمع . فكان لابد للفكر ان يقدم النموذج العام للسلوك والرؤية وطرائق التفكير ، ان يقدم نظماً فلسفية كاملة ، تطمح لأن تقدم حلولاً شاملة ، ما يمكن اعتباره نمطاً عاماً في الفكر البرجوازي . لكن هذا الوضع بدأ يتغير بتآكل وظائفها التقدمية . وظهور تناقض مصلحتها الخاصة مع المصلحة العامة ، وهو ما ادى الى تآكل القاعدة الاجتماعية للفكر البرجوازي الكلاسيكي ، والى تحول هائل في ميكانزمات عمله . تفتت الوحدة الاجتماعية السابقة ، وتذرّى المجتمع بصورة تدريجية ، وتعددت الآراء والمواقف ، بسبب بروز طائفة من المشاكل الخاصة بكل طبقة او فئة اجتماعية . واذا بنا امام تعددية واسعة للمدارس الفلسفية ، تعبر كل منها ليس فقط عن مشاكل وطموحات منظومة اجتماعية محددة ، ولربما عن امزجة وطرائق تفكير فئة معينة ايضا . فمثلاً : الوضعية الجديدة متخصصة ،على الاغلب ، للاستهلاك من قبل الانتلجنسيا في مجال العوم الطبيعية والتقنية . الوجودية تتوجه الى انتلجنسيا الادب والفن . والبرغماتية هي العطر الخاص بنمط التفكير البرجوازي الامريكي ..وهكذا . وبالرغم من نزوع كل مدرسة منها لان ترتقي الى مستوى نظام فلسفي شامل ، وذلك انسجاماً مع الخطاب القديم ، لكن هيهات اياً منها ان تصيب نجاحا في مسعاها . اذ مادامت مبادئها وادواتها تنطلق من وضع اجتماعي خاص ( اي من منظومة اجتماعية خاصة لاتملك مشروعاً تأريخياً لكامل المجتمع ) ، فكيف يمكنها اعادة تركيب او احتواء فكر أية منظومة اجتماعية اخرى ، ناهيك عن ان تكون فكراً لكامل المجتمع .
الدوغما تكمن هنا في بسط اجنحة الفكر الخاص ليغطي مجال الفكر العام .
ختاماً لابد من التأكيد على ان الدوغمائية في الفكر، بقدر ما تحاول ليْ عنق العلم والتاريخ ، من اجل فرض منطقها الخاص على باقي افراد المجتمع ، فهي بذات القدر خاصية جينية لفكر الطبقات او الفئات التي لا تمتلك مشروعاً تقدمياً للمجتمع ، او التي تجد ان في مصلحتها ابقاء الراهن ، او العودة الى راهنية متخلفة سابقة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المكسيك: 100 مليون ناخب يختارون أول رئيسة في تاريخ البلاد


.. فاجأت العروس ونقر أحدها ضيفًا.. طيور بطريق تقتحم حفل زفاف أم




.. إليكم ما نعلمه عن ردود حماس وإسرائيل على الاتفاق المطروح لوق


.. عقبات قد تعترض مسار المقترح الذي أعلن عنه بايدن لوقف الحرب ف




.. حملات الدفاع عن ترامب تتزايد بعد إدانته في قضية شراء الصمت