الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الفلسفة للجميع 1 - ميلاد الفلسفة: متى وأين ولماذا؟

محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)

2012 / 3 / 4
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


يمكن الحديث عن فجر للفلسفة امتد طيلة قرنين من الزمن، القرن السادس والخامس قبل الميلاد، وذلك من طاليس (حوالي 625 – 547 ق.م) إلى سقراط (حوالي 470 – 399 ق.م). لم يكن الفلاسفة الأوائل مجرد فلاسفة، بل كانوا فلاسفة ومفكرين وشعراء وزعماء طوائف في نفس الوقت، وكان السؤال الذي أرقهم وحاولوا الإجابة عنه هو السؤال التالي: ما هو أصل الأشياء؟ (ومن ثمة ما هي طبيعتها وما سبب التغير وهل يوجد عنصر أو مبدأ أصلي ثابت هو أصل كل متغير؟).
لم يتبق لنا من نصوص هؤلاء الفلاسفة أي شيء تقريبا، فما تبقى لا يتعدى بعض المقاطع المتناثرة (بالنسبة لـ "أنكسيمندر" مثلا لا نتوفر إلا على أربعة اسطر تقريبا تعرف بـ"كلام أنكسيمندر"). والسبب الأساسي هو أن مؤلفات هؤلاء الفلاسفة الأوائل الذين عاشوا قبل سقراط – القبل سقراطيون أو القبسقراطيون- دمرت في الحرائق المتتالية التي شبت في مكتبة الإسكندرية التي كانت تضم الغالبية العظمى من المعارف القديمة.
ورغم قلة ما وصلنا عنهم، فإننا نعرف أن فلاسفة الطبيعة الإغريقيون هؤلاء قد وجهوا تفكيرهم واهتمامهم نحو موضوع أساسي هو الطبيعة. لقد واجهوا مسالة التغير التي بدت لهم مسالة محيرة. فالتغير يحيل على التعدد وعلى مسألة الثبات ولذلك توصلوا إلى الفكرة التالية: لا بد من وجود شيء ما (عنصر، مبدأ) يعتبر أصل جميع الأشياء المتعددة والمتغيرة، أي الأصل الواحد للظواهر المتعددة، الواحد الذي هو أصل المتعدد. لقد ركزت هذه الفلسفة على وجود "شيء ما" وجودا أزليا، نبعت منه بقية الأشياء الأخرى. ولم يهتموا بمصدر هذا "الشيء الأزلي" الأول وهل هو ناتج عن العدم مثلا، وإنما انصب التفكير على كيفية صدور الأشياء عن "شيء واحد أول".
قدم هؤلاء الفلاسفة كيفية وطريقة في التفكير كما قدموا أيضا مضامين وأجوبة. وبالرغم من تقديمهم لأجوبة عن أسئلتهم فإن أجوبتهم ليست بنفس أهمية أسئلتهم، فالأسئلة متجددة أما الأجوبة فهي رهينة تاريخها.
ظهرت الفلسفة في "أيونيا" على شاطئ آسيا الصغرى في القرن السادس قبل الميلاد. وكانت هذه المنطقة على اتصال وثيق بثقافات الشرق، كما كان سكانها يتقنون فنون ركوب البحر. وتعتبر "أيونيا" موطن ميلاد هوميروس الذي تنسب غليه كتابة ملحمتي الإلياذة والأوديسة. ثم تطورت الفلسفة في صقلية قبل أن تصل على أوجها في أثينا.
لكن لماذا ظهرت الفلسفة عند اليونان ولم تظهر عند غيرهم من الشعوب؟
لقد توفرت عدت شروط جعلت ميلاد الفلسفة ممكنا عند اليونان في القرن السادس قبل الميلاد بالتحديد. والحديث عن الميلاد يعني أن الفلسفة تفكير جديد وطريقة جديدة في التفكير. ومن بين ابرز تلك الشروط ما يلي:
- ظهور الكتابة: فالكلام الشفوي يعاني من التغير والتردد والحيرة والتأثير العاطفي، بينما يتميز النص المكتوب، بالمقابل، بالدقة والصرامة، وبوجود قار أو نهائي وبالنسقية (ورغم أن سقراط اشتهر بكونه فيلسوفا محاورا فإننا لا نعرف إلا سقراط الذي تقدمه محاورات أفلاطون).
- التقسيم الاجتماعي للعمل الذي مكّن "المواطنين الأحرار" من ممارسة التأمل والتفكير لأن فئة أخرى (العبيد) تقوم بالأعمال اليدوية.
- ظهور العلم الذي يشكل قاعدة للتفلسف.
- التفاعل مع ثقافات الشرق الأخرى (حضارة مصر وما بين النهرين). فلقد ظهرت أول مدرسة فلسفية في "ملطية"، وهي مدينة توجد خارج بلاد اليونان الأصلية، أي توجد على هوامش اليونان، وكانت مجرد مستعمرة تقع حاليا على ساحل تركيا: توجد قبرص وفينيقيا في جنوبها الشرقي، ويوجد بحر إيجة والبحر الأسود في شمالها، وتوجد اليونان الأصلية وجزيرة كريت في غربها. وهكذا يُلاحظ أن ملطية من الناحية الجغرافية تقع في منطقة تفاعلات خصبة.
- الرغبة في البحث عن "النظام والحدود" ورفض العشوائية التي تبهر العين في الظاهر، ولهذا ارتبط ظهور الفلسفة بالثنائيات: الحقيقة/الخطأ، الخير/الشر، الانسجام/التنافر، المظهر/العمق، العقل/المادة، الحرية/الضرورة، الوحدة/الكثرة، الفوضى/النظام، النهائي/اللانهائي.
- ارتباط ميلاد الفلسفة بمفهوم أساسي هو "اللوغوس" (العقل والخطاب في نفس الآن).
- توفر الشجاعة الفكرية للمغامرة عبر التساؤلات وعوالم اللغة.
- التحرر (ابتداء من القرن السادس قبل الميلاد) من تأثيرات المعتقدات الدينية والأسطورية.
- التحرر من التسلط السياسي، الشيء الذي تجسد في إشراك جزء هام من السكان (المواطنون الأحرار) في تسيير ومراقبة الشأن العام.
إذا كانت الفلسفة من اختراع اليونان، فإن ذلك تم في قلب الأساطير ولتفسيرات الميثولوجية. لقد ووجهت الأساطير بالشك والنقد بل وبالرفض من طرف الفلاسفة الأوائل. ومن نتائج ذلك استعادة الإنسان التحكم في زمام مبادراته لأنه كان مجرد "لعبة" تسيرها آلهة الأساطير، رغم أن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال القضاء على الأساطير.
قام هوميروس وهوزيود في القرن الثامن قبل الميلاد بتدوين مجموعة من الأساطير الإغريقية وهو ما جعل هذه الأخيرة خاضعة للمساءلة والتفكير، فالأساطير تم سجنها في الكتابة بعدما كانت تسبح في عالم الشفوي. (ومن الأوائل الذين انتقدوا الأساطير "كزينوفان" الذي لاحظ أن آلهة الأساطير تشبه البشر).
إن تضافر عدة تحولات ثقافية وتطور اقتصادي وتفاعل حضاري واهتمام جماعي بالشأن العام (السياسة) يشكل مجموعة الأسباب التي أدت على ميلاد هذا النوع الجديد من التفكير الذي هو الفلسفة (وإذا كان كل الفلاسفة رجالا في البداية فغن ذلك يعود لإقصاء المرأة وهو الأمر الذي سيتغير في القرن العشرين). وبالرغم من أهمية تأثير الثقافات الشرقية على اليونان، وبالرغم من تضمن تراث الأمم الشرقية لأفكار فلسفية، فإن هذه الأفكار ظلت منعزلة عن بعضها البعض كما ظلت حبيسة التفكير السحري والأسطوري والديني كما أنها لم تتمكن من التشكل في نسق. وخلافا لفكرة "المعجزة اليونانية" التي يدافع عنها إرنست رينان، لتفسير ظهور الفلسفة فجأة عند اليونان دون غيرهم من الشعوب، تقدم فكرة تضافر العوامل المختلفة تفسيرا عقلانيا لهذا الميلاد المتميز. فالتأثر الإغريقي بالآخر لا يلغي فكرة العبقرية اليونانية.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. تركيا تدرس سحب قواتها من سوريا


.. أوضاع إنسانية صعبة في قطاع غزة وسط استمرار عمليات النزوح




.. انتقادات من الجمهوريين في الكونغرس لإدانة ترامب في قضية - أم


.. كتائب القسام تنشر صورة جندي إسرائيلي قتل في كمين جباليا




.. دريد محاسنة: قناة السويس تمثل الخط الرئيسي للامتداد والتزويد