الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول هيمنة التفسير المجازي

معاد محال

2012 / 3 / 8
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


" "هذا من فعل الله" ليس تفسيرا لظاهرة ما، إنما هو اعتراف بأنه ليس لدينا
تفسير لهذه الظاهرة، وأحيانا يؤدي هذا الموقف-وهذا هو الأخطر- إلى
عدم بذل الجهد العلمي المطلوب لمحاولة إيجاد تفسير معقول"
وضاح نصر


عادة ما يُقصد بكلمة"تفسير" البحث عن الأسباب المادية الكامنة وراء سلوك معين، تصرف معين أو قرار معين، وفي سياقنا هذا نقصد تفسير مظاهر الطبيعة والكون وسلوك الكائنات الحية. فبالرغم من عدم توفره على العلم المطلوب والتكنولوجيا المطلوبة ليفسر بهما تعاقب الليل والنهار، حركة الرياح، صوت البرق، نزول المطر، حدوث الزلازل والعواصف...، لم يمنع ذلك الإنسان القديم من التساؤل ومن محاولة إيجاد تفسير أو مبرر لتلك الظواهر، وعندما عجز عن التفسير توقف عند حدود الفرضية، افترض وجود آلهة تقوم بذلك، ففي الحضارة السومرية مثلا نجد الإله السماء، الإلهة الأرض، الإله الهواء، الإله الماء،...وربما اختلف هذا التصور عن الآلهة من مجتمع إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، لكن القاسم المشترك بينها هو تفسير المظاهر بطريقة مجازية، فصارت الأعاصير والزلازل والعواصف والفيضانات معبرا عن غضب وسخط الآلهة، وصارت الشمس المشرقة والأرض المثمرة وزقزقة العصافير ووفرة المحاصيل معبرا عن الرضا والبهجة والسرور، وبسبب عامل الخوف وحاجة ذلك الإنسان إلى الشعور بالأمان وبرضا الآلهة، لجأ إلى تنظيم الشعائر، التضرع، تقديم القربان كأضاحي ومختلف الطقوس الموجهة لتلك الآلهة.
ومع مرور الزمن حلت الفرضية محل التفسير، فصارت النية الإلهية هي التي تقف وراء كل ظاهرة ومصادفة، ووراء كل حادث مهما بلغت بساطته وتفاهته، فكانت تلك بداية جمود العقل البشري الذي تم التخلص منه نسبيا من خلال الفلسفة اليونانية، جهود العلماء العرب ومفكري عصر الأنوار، لكن بالطبع لم يُقضى عليه، فالتفسيرات المجازية التي ترعى ذلك الجمود لا تزال حاضرة وبقوة في المجتمعات العربية، بعضها اكتسب صفة "علوم" لها "علماؤها" ومحاضريها وجهات تمويلها وإعلامها الخاص، وأضحت تنافس علوم الرياضيات والطبيعة وعلوم النفس.
وعن طبيعة تلك التفسيرات/ الافتراضات المجازية وصمودها أمام لغة العلم ولغة المنطق، فبالرغم من أن مصدرها الأصلي هو الخيال فإنها تمر بسهولة إلى داخل عقل متلقي اعتاد لاوعيه على استقبال كل ما يطرق بابه دون إخضاعه لأي تحليل ذهني عقلاني، وذلك بسبب ارتباطها الوثيق بمؤسسة الدين، وأقوى تلك الافتراضات التي لا تزال متداولة إلى اليوم لها ارتباط بالدين، أو بالأصح تم ربطها بالدين لجعلها خارج الإرادة البشرية والإرادة الطبيعية وخارج حدود المنطق وبالتالي خارج نطاق الإدراك الحسي والمعرفي، ومعها يستحيل إخضاعها للاختبار، فلا يجد المتلقي بعدها سوى التصديق. فحين يتم تفسير ظاهرة شهاب السماء مثلا بوجود نجمة تقوم بحرق الشيطان الذي يتجسس على الملائكة، يصعب الإنكار لأن الشياطين والملائكة كائنات خارجة عن الإدراك الحسي، ويسهل التصديق نظرا لتطابق التفسير مع إيمان المتلقي (إيمان وليس معرفة) بقصة العداوة بين الشياطين والملائكة وبأن كل ما في الكون بما فيها نجوم السماء هو مسخر لخدمة إله الملائكة، لكن المشكل يكمن فيما بعد هو حينما يقلل هذا المتلقي من شأن أبحاث علوم الفيزياء والفضاء التي تحاول إيجاد تفسير معقول لتلك الظاهرة وغيرها من الظواهر بحجة أنه يملك "التفسير" الصحيح.
وتستمر حملة التفسيرات ليصل بأصحابها الحد إلى الدعاء بمعرفتهم التامة بنوايا الإله الخالق، وتصل درجة نفاقهم وريائهم إلى تفسير الوقائع والأحداث اليومية-التي غالبا ما تكون وراءها حسابات شخصية وصراعات من أجل المصالح- بتدخل الخالق، بطريقة تسيء بشكل واضح إلى الخالق نفسه، فيصبح الله وراء كل حادثة اغتيال وكل حادثة سير مدبرة ووراء اغتناء كل لص الذي يعلق لافتة "هذا من فضل ربي" على باب قصره كي يبعد عنه الشبهات. ويطيب لبعض أنصار وحواشي بعض الحكام العرب الترويج لخطاب مفاده أن السر وراء قوة نظامهم هو نصر الله، مع العلم-وهم خير العالمين- أن أي نظام في العالم خصوصا في دول العرب يستمد قوته عن طريق السيطرة على القطاعات الحلوبة ومنابع الخيرات في أرض الدولة وما يترتب عن تلك السيطرة من أكل لأرزاق أبناء الأرض بالباطل، لكن "من الصعب تحركهم ضده لأنهم يعتقدون أن الله يقف بجانبه" كما قال أفلاطون(322-348 ق.م)، أو حين تقوم جماعة ما بمؤامرة ضد شخصية ما أو ضد زعيم معين، وبعد نجاحهم يُرجعون سبب سقوطه إلى "انتقام الله" من شخص لا يستحق -حسب ادعاءهم- اعتلاء المناصب، لاحظوا كيف يُنزلون الله من عرشه السماوي ويحشرونه ضمن صراعاتهم الدنيوية الدنيئة، فأنت ببساطة تستطيع أن تحرق منزل عدوك وتنسب فعلتك إلى الله، ثم تقنع الناس بأن الله قد انتقم منه بسبب خطاياه. فلو كان علينا اعتماد هذا المنطق، وكان علينا أن نفسر كل انتصار بنصر الله وكل هزيمة بانتقام الله، فلم لا نفسر قوة أمريكا وإسرائيل وانتصاراتهما المتوالية بنصر الله لهما، وفشلنا الدائم وهزائمنا المتوالية بانتقام الله منا؟ فكيف يفضلنا الله على أمريكا ويجعلنا مذلولين أمامها؟ وكيف يخيرنا على باقي الأمم ويجعل كلمتنا هي السفلى وكلمتهم هي العليا؟
الباحث الكيميائي في المختبر حينما يكون بصدد إنتاج محلول ما، فهو يعلم أن عناصر معينة في ظروف معينة تؤدي إلى نتيجة معينة، وإذا جاءت النتيجة مخالفة يكون الخلل في العناصر أو في الظروف، هو لا يقول أن القدر أراد تلك النتيجة أو جاءت نتيجة تدخل إلهي، بل يرجع السبب إلى العناصر أو إلى الظروف، هذا هو المنطق البسيط، لكل نتيجة سبب ولكل سبب نتيجة، والطامة الكبرى التي تكمن في التفسير المجازي هي فصل النتيجة عن السبب، وعن ظروف الواقع، وربطها دائما بالإرادة الربانية، فتجد الفرد منا حينما يصاب ببلاء يصيبه الارتياب من نفسه ويشك في أفعاله إن كان قد أغضب الله في شيء، أو تجد الطالب المقبل على الامتحان يقضي وقته في الدعاء عوض قضاءه مع كتبه. لقد سقط الفرد منا ضحية افتراضات مجازية توفر عليه عناء بذل الجهد لمواجهة الواقع وظروف الحياة بثقة وتوازن نفسيين، فكيف لهذا الفرد أن يفكر في إمكانية الغوص في أعمق المحيطات أو في إمكانية السفر إلى أبعد نقطة في الفضاء وهو يعتقد أن حادث انزلاق في الطريق أو حادث عثور على ورقة نقدية وراءه نية مخفية؟ فإذا انزلقت يوما في الطريق فاعلم أن المشكل هو في نوعية حذائك أو في نوعية الطريق أو في وجود حاجز تعثرت به، وإذا عثرت على قطعة نقدية فاعلم أنها سقطت من شخص فكنت أنت أول من يراها بعده، وإذا كانت أمريكا وأوربا في هذا الرقي والازدهار فهناك عوامل وأسباب أدت بهما إلى ذلك، وإذا كنا نحن في هذا التخلف والانحطاط فهناك أسباب وعوامل أدت بنا إلى هذا، عوامل نستطيع إدراكها وتجنبها لاحقا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الميدانية | المقاومة الإسلامية في العراق تؤكد أن الرعب آتٍ إ


.. ناشط أميركي يهودي يعلن إسلامه خلال مظاهرة داعمة لـ فلسطين في




.. 91-Al-baqarah


.. آلاف اليهود يؤدون صلوات تلمودية عند حائط البراق في عيد الفصح




.. الطفلة المعجزة -صابرين الروح- تلتحق بعائلتها التي قتلها القص