الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فلسفة الإصلاح والحرية عند الكوكبي

ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)

2012 / 3 / 8
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


إن قيمة الشخصية الفكرية على قدر ما في رؤيتها من استشراف للمستقبل. وبالتالي فان حقيقة ما في مواقفها وأحكامها وتصوراتها تتخذ مع مرور الزمن هيئة "الحكمة النظرية والعملية" لتجنيب الوعي الاجتماعي مغبة الانحدار صوب مختلف نماذج اللاعقلانية، أو الانحطاط باتجاه جهل قيمة التجربة التاريخية وتجاهل آثارها الخطرة بالنسبة للمستقبل.
وبما أن إشكالية الاستبداد والحرية ما زالت قائمة في العالم العربي، وبما أنها تتخذ صيغة مثيرة للعقل والوجدان الاجتماعي والقومي السليم، ومليئة بالعصيان والهذيان لغريزة الذهنية التقليدية بمختلف أشكالها، من هنا يصبح الرجوع إلى منابع الفكرة العقلانية والإنسانية المؤسسة لفكرة الحرية الاجتماعية والقومية ليس تذكيرا بماض، بقدر ما هو إعادة تأسيس للفكرة الواقعية والعقلانية. بمعنى إعادة إنتاج الفكرة المستقبلية من خلال الرجوع إلى مصادر الفكرة المستقبلية كما هو الحال عند الكواكبي وليس إلى إتباع وأتباع السلفيات المتشددة ونتائجها المحتومة بانغلاق العقل والمستقبل كما هو الحال عند مختلف نماذج الحنبليات الأولى (كابن تيمية) والأخيرة (كالوهابية). والفرق بين الاتجاهين هو فرق جوهري بين الفكرة العقلانية والإنسانية بوصفها مرجعية عملية أيضا، وبين فكرة العبودية الهائمة بالنصوص الميتة. وما جرى ويجري في سوريا الآن لا يشذ عن بقاء هذا الصراع بين نموذجين لم يحسم بصورة متجانسة بعد لصالح الحرية على الاستبداد، والعقل على النقل، والدولة على السلطة، والقومية (العربية) على الجهوية (الخليجية)، وسوريا على أعدائها، أي لصالح المستقبل الحقيقي. وليس مصادفة أن يصبح من يؤسس لواقع "اغتيال العقل" تجسيدا له ولكن بمعايير السلفية المبطنة، أي أن يتحول بعض رجال الفكر والثقافة والعلم إلى دعاة وهابية مأجورة ورعاة وطنية وقومية مخذولة!
إن الرجوع إلى شخصية الكواكبي يعني فيما يعنيه بصدد الحالة السورية والحرب حولها وفيها ومستقبلها، الرجوع إلى إحدى المرجعيات النظرية والعملية، الوطنية والقومية، الأخلاقية والعقلية الكبرى من اجل استشراف المستقبل بما يضمن لسوريا استقرار وديناميكية الدولة والمجتمع والنظام السياسي على أسس الشرعية الذاتية والواقعية العقلانية.
فعندما تطرق الكواكبي إلى قضية إزالة الاستبداد، فانه أشار إلى انه لا يضع إلا القواعد الكبرى، التي حصرها في ثلاث قواعد. الأولى هي أن تشعر الأمة بضرورة الحرية. وان يكون معنى الشعور هنا هو ضرورة إدراكها للخلاص من الاستبداد كنظام وظاهرة، لا من المستبد الفرد. أما القاعدة الثانية، فهي النشاط السلمي التدريجي، بمعنى ترك العنف والقوة، والاستناد إلى الحكمة، لان الوسيلة الوحيدة الفاعلة، حسب نظره، "لقطع دابر الاستبداد هو ترقي الأمة في الإدراك الإحساس". أما القاعدة الثالثة فهي معقولية البديل والتخطيط الواعي له. أو ما عبر عنه الكواكبي بعبارة "انه يجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئة ما يستبدل به الاستبداد" ‎وذلك لان "معرفة الغاية إجمالا شرط طبيعي للإقدام على كل عمل. لكن المعرفة الإجمالية في هذا الباب لا تكفي مطلقا. بل لا بد من تعيين المطلب تعيينا واضحا موافقا لرأي الكل أو لرأي الأكثرية، التي هي فوق الثلاثة أرباع عدد أو قوة، وإلا فلا يتم الأمر".
إن هذه الصيغة التدريجية في برنامج الأولويات الضرورية لإزالة الاستبداد تعكس في جوهرها الرؤية العقلانية والإصلاحية لمشروع البديل ومضمونه الاجتماعي السياسي والثقافي القومي. إذ ليست القواعد الثلاث هنا، سوى فاعليتها الداخلية الموحدة وإدراكها الاجتماعي السياسي بالنسبة للنظام القومي. وبالتالي تحويل الشعارات والمبادئ الكبرى إلى بديهيات معقولة.
فقد تعامل الكواكبي مع ما اسماه بشعور الأمة بوصفه نظاما وظاهرة شاملة تقوم على أساس إدراكها لضرورة الحرية والتخلص من الاستبداد. ولا يعني إدراك الحرية هنا سوى بلوغ الوعي القومي ذاته على انه بديهية سياسية. لاسيما وان الكواكبي يضع في فكرة الحرية المعنى السياسي والاجتماعي ككل واحد. ومن ثم تضمينه إياها أبعاد قومية واجتماعية وثقافية. فهو لم يتكلم عن حرية جميع شعوب الإمبراطورية (العثمانية) في العيش المستقل، بل وعما اسماه بفروعها في تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبارهم وكلاء الأمة، وحرية التعليم والخطابة والمطبوعات والمباحث العلمية والأمن على الدين والأرواح والشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره.
لقد أدرج الكواكبي في الحرية القضايا الاجتماعية والثقافية السياسية الكبرى في وحدة متينة. إذ لم يعد العدل، على سبيل المثال، ما هو شائع في التقاليد الأخلاقية الإسلامية المتأخرة، بل العدل هو الاستعادة السياسية المتجددة للتقاليد العقلانية الإسلامية القائلة بأولوية العدل على الإسلام، انطلاقا من أن إسلام خارج العدل أو بالضد منه ليس إسلاما.إذ لا تطابق بين الإسلام الحق والاستبداد. من هنا أحكام المسلمين العقلانيين القدماء، القائلة بتفضيل الحاكم الكافر العادل على الحاكم المسلم الجائر. وأعاد الكواكبي في انتقاده السياسي للواقع هذه الفكرة بعبارة تقول: "أن الشرع والعقل يحكمان بان ملوك الأجانب أفضل منهم وأولى بحكم المسلمين، لأنهم اقرب للعدل ولإقامة المصالح العامة، واقدر على إعمار البلاد وترقية العباد. لكنها فكرة للمقارنة لا لدعوة الغزاة، أي لإثارة الحمية العقلية والأخلاقية العربية وليس بما يعارضها.
وينطبق هذا بالقدر ذاته على كافة القضايا التي ادخلها ضمن مفهوم وفكرة الحرية. فعندما تكلم عن حرية الرأي والخطابة، فانه حاول أن يعطي لها صيغة القضية المميزة للتراث الإسلامي الهائل. وفي الوقت نفسه جعل منها قضية جديدة في جدل السياسة ومتطلباتها المعاصرة. ففي الوقت الذي حاول أن يعطي لمصطلح الاجتهاد الإسلامي مضمونه المعاصر باعتباره حرية الرأي والخطابة، فانه دحض تقاليد الاجتهاد القديمة في تسميات المجتهدين المعاصرين، الذين لا يعني اجتهاد أفضلهم سوى تلقين. ولهذا دعا أمثال هؤلاء المجتهدين بالمرجحين أو المخرجين، أو الفقهاء المدققين لا غير. وذلك لأنهم لا يجتهدون في أصول الدين والاجتماعيات والأحكام، بينما الاجتهاد الحق يفترض أن يتلمس المجتهد للضرورات أحكامها، وان يأخذ بما يفرضه الزمان من متغيرات، وان يقر بمبدأ الخلاف رحمة، أي الإقرار بضرورة التعددية الفكرية. ووضع هذا المبدأ إلى جانب مبادئ أخرى في جوهر الحرية باعتبارها القاعدة الأولية الضرورية والبديهية السياسية للقضاء على نظام الاستبداد. وذلك لان فقدان الحرية يؤدي في نهاية المطاف، كما يقول الكواكبي، إلى "إبطال الأعمال وتمويت النفوس، وتعطيل الشرائع واختلال القوانين"، أي الضمور والاضمحلال الشامل للوجود الاجتماعي والقومي. وهو الحافز القائم وراء انتقاده اللاذع لـ "سياسة" ابن خلدون، رغم تقييمه الرفيع لإنتاجه العلمي. إذ لم يجد في آرائه الداعية للسكون والخلاص من المهالك عند الضرورة بالرضا بما هو موجود سوى قاعدة عبودية تتعارض مع ما يدعو إليه الكواكبي، من أن المجد مفّضل على الحياة عند الأحرار. بمعنى أولوية الحرية في السلوك، أو القاعدة الأولى لإزالة الاستبداد.
غير أن الكواكبي لم يجعل من مبدأ الحرية رديفا للمغامرة السياسية الداعمة للفوضى، بل قيدها بمبدأ الحكمة، أي بمبدأ وعي الذات السياسي وحدود القانون النابعة من علو الحرية ونظامها السياسي المفترض. ومن ثم دعوته إلى أولوية المبدأ السياسي الواعي لا إلى القوة. فقد وجد فيه أسلوب قطع دابر الاستبداد. ولم يعن ذلك آنذاك سوى صياغة المبدأ السياسي المناهض للراديكالية السياسية المغامرة. فقد حدس الكواكبي في الراديكالية السياسية المغامرة رديفا للاستبداد، وفي إمكاناتها الذاتية وآفاقها استعادة خشنة له. إضافة إلى عزلها جمهور الأمة عن الرقي في المدارك والإحساس إلى مستوى الوعي السياسي وبديهياته الكبرى. وبهذا يكون الكواكبي قد سعى لجعل قاعدة النشاط الواعي ورفض العنف بديهية في الوعي الاجتماعي، وأسلوبا في رقيه السياسي. ووضع هذه الفكرة أول الأمر في إحدى مواد برنامج (أم القرى) عن أن عمل الجمعية ينبغي أن يستند إلى الإخلاص في النية، والثبات على العمل. أما مسلكها فهو تذليل العقبات واحدة فواحدة. ثم عمق هذه الفكرة في (طبائع الاستبداد) عما اسماه بقاعدة السلمية والتدرج، أو المبدأ السياسي الذي يفترض في ذاته تحوله إلى بديهية ملزمة للجميع من خلال تجوهره في وعي الأمة ومشاعرها، أو ما اسماه بترقي الأمة في الإدراك والإحساس لقيمة السلمية والتدرج ورفض العنف والقوة.
ووضع الكواكبي هذا الترقي في وعي الأمة فيما اسماه بوضوح ودقة المطلب، وبموافقته لرأي الكل أو الأكثرية. ذلك يعني أن الطابع الملموس للبدائل يفترض وجود صيغته الملموسة في الوعي والمشاعر. وهذه بدورها غير ممكنة دون وحدة القواعد الضرورية المتحولة إلى بديهيات سياسية قادرة على التأثير من خلال بناء ما يمكن دعوته بالروح السياسي الفعال. أما هذا الأخير، فانه لم يعد ضمانة لإزالة الاستبداد فحسب، بل ولمنع تولده في بدائل المغامرات السياسية أيضا.
***








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مبيعات سيارات تسلا الكهربائية في تراجع مستمر • فرانس 24


.. نتنياهو ينفي معلومات حول إنهاء الحرب قبل تحقيق أهدافها




.. رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: نتمسك بتدمير البنية التحتية لحم


.. شركة تبغ متهمة بـ-التلاعب بالعلم- لجذب غير المدخنين




.. أخبار الصباح | طلب عاجل من ماكرون لنتنياهو.. وبايدن يبرر سوء