الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في سعادة الانسان من وجهة نظر اسلامية

سعد شاكر شبلي

2012 / 3 / 10
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


تتطابق التعاليم الإسلامية القيمة بشأن السعادة الإنسانية وبيان الخير والشر مع المنهج الطبي بشأن صحة الإنسان وسلامته ، فقد كان النبي الأكرم محمد (ص) يلفت أنظار المسلمين إلى الورع عن محارم الله كأفضل الأعمال في جدول الأعمال الخيرة الايجابية التي يبحث أكثر الناس عنها ، وذلك من خلال الاجتناب عن المعاصي في تحقيق التكامل المعنوي للبشر ، وهو بذلك كالطبيب السيار الحاذق الطاهر القلب على رأس المريض ، يحمل معه في حقيبته المعاجين اللازمة للتضميد والمعالجة ، فإذا وجد قلوباً عمياء ، أو أرواحاً صماء، قام بمعالجتها وأنقذ الناس من الموت المعنوي والانهيار الخُلقُي .
ويعتمد جل الأطباء منهجان في معالجة المرض : أحدهما إيجابي، والآخر سلبي ، فيقولون للمريض في المنهج الايجابي احتقن بهذه الإبرة، استعمل هذا الكبسول ، اشرب من هذا الشراب ملعقة واحدة كل ثلاث ساعات . أما في الجانب السلبي فيقولون للمريض : لا تكثر من الملح ، لا تأكل العنب ، لا تشرب الخل ، لا تستعمل الأكلات الدسمة ، وهكذا .
والمنهج الديني الإسلامي يشبه المنهج الطبي تماماً ، فيقول للمسلم من جهة : أقم الصلاة ، أد الزكاة ليكن كسبك حلالاً ، تزوج .. الخ . ويقول له من جهة أُخرى: لا تكذبْ، لا تغتبْ.. فالجانب الإيجابي في الدين يسمى الواجبات بينما يطلق اسم المحرمات على الجانب السلبي .
أن المعالجات الايجابية لا تنفع المريض أصلاً لو لم يواظب على التوصيات اللازمة ، فالعملية الجراحية التي أجريت للمريض وقد أحسن الطبيب الحاذق فيها يمكن أن تصطدم بمشكلات جمة – قد تكون فاقدة للأثر – إذا تهاون المريض في العمل بتوصيات الطبيب ، فقام ببعض الحركات الزائدة أو لم يتحفظ على الجرح في التلوث بالميكروبات مثلاً .
وهناك حالات ينحصر العلاج فيها بالحمية فقط تكون فيها المناعة الذاتية قادرة على أن تنجي المريض من الانحراف وأن ترجعه إلى وضعه الاعتيادي .
نستنتج مما تقدم : أن السلامة منوطة بالمواظبة على توصيات الطبيب الايجابية منها والسلبية ، ولكن النظرة الثاقبة ترينا أن أثر الجانب السلبي في العلاج أ"قوى من أثر الجانب الإيجابي .
وعلى هذا المنوال تنسج التعاليم الإسلامية نسجها في تحقيق السعادة المعنوية. فالإنسان السعيد يطبق التعاليم الايجابية والسلبية ... فيأتي بجميع الفرائض ويترك جميع المحرمات، ومع ذلك فإن كفة الابتعاد عن الذنوب(الجانب السلبي) ترجح في ميزان السعادة البشرية على كفة الإتيان بالواجبات (الجانب الإيجابي) .
وهنا نجد أن القرآن الكريم والسنة النبوية وأعمال السلف الصالح تعرف التقوى أعظم رصيد للسعادة، وأن الغاية العظمى من القرآن وتعليمه هي تربية الناس على التقوى، فالتقوى بمعنى اجتناب المعاصي والابتعاد عنها و المتقي هو المجتنب عن المعاصي.
وفي علاقة هذا مع الفرد والمجتمع ، فإن أغلب المآسي التي تصيبهما ناشئة من التلوث بالذنب والمعصية ، والأمم التي انهارت انهياراً تاماً ، ولم يبق منها في التاريخ إلا اسمها ، كان السبب في انهيارها عدم المبالاة بذنوبها بموجب قول الله تعالى في سورة الأنفال ؛ الآية : 54 { كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم } ، وفي سورة الدخان ؛ الآية : 37 { أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين } ، وفي سورة النساء ؛ الآية : 6 { فأهلكناهم بذنوبهم } .
إن المآسي المختلفة التي تعلق بالبشر وليدة التلوث بأنواع الذنوب واللامبالاة في ارتكاب المعاصي والمحرمات. كما أن المريض الذي يخالف أوامر الطبيب ويترك الحمية يبتلي ويجازى بأنواع المصائب والمشاكل الدنيوية والأخروية ، بموجب قوله تعالى في سورة الروم ؛ الآية : 41 { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا } ، وفي سورة البقرة ؛ الآية : 114 { لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم } ، وفي سورة المائدة ؛ الآية : 33 { ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } .
والذنوب عبارة عن مخالفة القوانين الإلهية ، وإتباع الأهواء والرغبات التي تلح عليها النفس ، من دون رادع أو مانع ، وكقاعدة أولية وأصل ثابت يمكن القول : إنه مع غض النظر عن التعاليم الدينية ، يكون من السهل متابعة الشهوة والرغبات النفسية ، وإطلاق العنان للإرادة النفسية بحرية كاملة .
غير أن وجود الموانع العديدة والحواجز القوية التي لا يمكن اختراقها التي تصادف الأفراد في حياتهم اليومية تمنعهم من ممارسة إرادتهم بحرية كاملة ، كما هو الحال مع رغبة بعض الأفراد في تجاوز القانون الطبيعي بتقليد الطيور وملاحقتها بالطيران ، إلا إن القدرة على مقاومة الجاذبية تمنعهم من هذه الرغبة ، وهناك الحواجز الصحية التي تمنع مريض السكر من تناول بعض الأكلات والفواكه والحلويات ، كما تعد القوانين الوضعية من الحواجز المهمة التي تقف أمام الميول البشرية ، مثلما هو الحال مع الحكومات التي تريد أن تظل قائمة ويكون لها مجتمع منظم ، فعليها أن تضع القوانين التي تحدد لكل فرد حقوقه وواجباته ، فتسمح ما هو ضمن القانون وتمنع ما سواه ، وتعاقب المعتدي على حقوق الآخرين . وقد يستاء البعض لتحديد حريته بهذه القوانين ويحب أن يكون حراً ليفعل ما يريد لكن السلطة التنفيذية للقانون تجبره على الانقياد له .
إن هذه الموانع والحواجز عن حرية الإنسان نجدها في جميع بقاع العالم ، بغض النظر عن الدين والعنصر ، وأن الخروج عليها يعتبر ذنباً وإجراماً ، وقد اعتنى الإسلام بها جميعاً وأوجب على إتباعه إتباعها ومراعاتها ، فالجري وراء الميول النفسية التي تخالف القوانين الكونية والصحية والاجتماعية ممنوع في القانون الإسلامي .
إن الجانب للأكبر من الذنوب في الإسلام عبارة عن تنفيذ هذه الرغبات غير المشروعة . حيث يعتبر الانتحار بجميع صوره ذنباً في الإسلام، وكذا الإضرار بالنفس والإلقاء باليد إلى التهلكة يعتبر ذنباً، وهكذا الذنوب الاجتماعية والإخلال بالأمن والنظام والتجاوز على أموال الآخرين ونفوسهم وأعراضهم... وبصورة موجزة فإن كل الميول المنافية لسعادة المجتمع ممنوعة، وارتكابها يعد ذنباً وإجراماً.
ولأجل الوصول إلى السعادة، وتحقيق الكمال اللائق بالإنسان من الناحية التربوية، لا بد من الالتفات إلى أصلين مهمين هما :إحياء الاستعدادات الفطرية المفيدة، وإماتة الميول المنحرفة والاتجاهات الشريرة . حيث يعد الإنسان احد الموجودات الحية في العالم، ويتركب وجوده من سائر العناصر المكونة للموجودات الأخرى.. لكنه يمتاز عنها بخصائص ومميزات تفصله عن سائر الأحياء. وإن الإنسان يختلف عن الأشجار والأزهار، وعن الحشرات والحيوانات في جهات متعددة، ومن جملة هذه الفروق:-
- إن الحيوانات لا تحتاج في بلوغها الكمال المحدد لها إلى تعليم وتربية.
- إن الغرائز التي أودعها الله تعالى في الحيوانات هي التي ترشدها بانتظام، وفي جميع مراحل حياتها إلى مطالبها، وهي تسلك طريق تكاملها بصورة صحيحة...
- إن الإنسان يحتاج إلى التعليم والتربية، فأنه إن لم تكن تربيته مطابقة لأساليب علمية وعملية لا يصل إلى الكمال اللائق به.
- يستحيل أن تظهر استعدادات الإنسان الفطرية ومواهبه إلى حيز الخارج. وبعبارة أوضح فأن الإنسان يحتاج إلى المربي الممتاز الذي يستطيع من أن ينمي القابلية والمواهب الفطرية التي يملكها ومنذ الطفولة بالأساليب التربوية الصالحة من جانب. ومن جانب آخر يعمل على دحر الصفات الوراثية الشريرة والاتجاهات التي لا تلائم السلوك الصحيح .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - جميل جدا
ابراهيم المصرى ( 2012 / 3 / 11 - 01:28 )
اشكرك رؤيتك جميلة جدا واول مرة اسمع الكلام دا أستفدت جدا من قراءتى مقالك دمتم بالعافية


2 - الموضوع رائع
احمد العراقي ( 2012 / 3 / 11 - 19:03 )
سلام عليكم
تحية طيبة
نشكر الاستاذ سعد شاكر على هذا الموضوع الجميل والمشوق . ولقد ابهرني هذا الموضوع السعاد الانسانية ونظرة الاسلام به وانه لشئ جميل ان يتطرق احدنا الى هكذا مواضيع شيقه وتذكرنا بديننا وبسعادة الانسان به . واشكرك مره اخرى ومجهود جميل اسأل الله ان تكون مثواك الجنه ....


3 - للروعة عنوان وللمنطق بيان
شمس الاصيل ( 2012 / 3 / 11 - 21:35 )
كلام مثالي استوفى جميع شرائط الحديث عن الموضوع بكافة تفاصيله سلمت اليد التي خطت والعقل الذي فكر تمنياتي ان تكون هكذا مواضيعنا مستمدة من اسلوب علمي تحليلي بعيد عن كل تعصب او انحياز وبعيدة عن كل مايثير الشبهات وان تستدل بالمنطق والحجة والتحليل المنطقي عن سائر ما سواها


4 - استعارة رائعة
علي الصياغ ( 2012 / 3 / 11 - 21:44 )
استعارات رائعة من آيات قرانية واحاديث نبوية اضافت للموضوع نورا أضاء دواخل من قرأ واستمتع فحلق في فضائات من انوار ربانية وحكم نبوية لايسعنا الا ان نثني على الجهد المبذول في تبسيط المعاني وايصال الفكرة دمتم بود


5 - ابداع
نادية العراقية ( 2012 / 3 / 12 - 07:02 )
مقالة ممتازة ووصف راقي للأنسان
رغم وجود كلمات صعبة لكنها مفهومة وقيها شرح مفصل لجوانب مختلفة في الانسان
سلمت يمناك على هذا الابداع


6 - مقالة جميلة
عراقية ( 2012 / 3 / 12 - 07:19 )
كلمات واختيارات جميلة ومعبرة عن حالات انسانية واقعية ومختلفة والحزن واضح فيها
تحياتي


7 - موضوع رائع وجميل وشيق
مهدي الجنابي ( 2012 / 3 / 12 - 21:11 )
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
تحية وتقدير
في الحقيقة انها كلمات جميلة بوصف السعادة الأنسانية لقد حققت الغاية المنشودة من الموضوع وأغنيت المتلقي نسأل الله ان يجعل هذا الجهد المتميز في ميزان حسناتك مع تحياتي لك

اخر الافلام

.. تأييد حكم حبس راشد الغنوشي زعيم الإخوان في تونس 3 سنوات


.. محل نقاش | محطات مهمة في حياة شيخ الإسلام ابن تيمية.. تعرف ع




.. مقتل مسؤول الجماعية الإسلامية شرحبيل السيد في غارة إسرائيلية


.. دار الإفتاء الليبية يصدر فتوى -للجهاد ضد فاغنر- في ليبيا




.. 161-Al-Baqarah