الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


سيكولوجية البطالة لدى حملة الشهادات الأكاديمية في العراق

فارس كمال نظمي
(Faris Kamal Nadhmi)

2005 / 1 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


صاحب الشهادة الأكاديمية المعطـّل قسراً عن العمل،هو عقل قـُطع نسله الفكري وعطلت نزعته الاجتماعوية للتفتح،بعد أن أزدريت جهوده لبناء شخصيته العلمية على مدى زمني لا يقل عن عقد ونصف من الدراسة والتفكير الموضوعي،فضلاً عن النفقات الجدية المقتطعة من خزانة الدولة خلال هذه المدة التي تزيد عن عمر جيل بأكمله.وهذا يعني ببساطة أن انتشارالبطالة بين أصحاب الشهادات من فئات عمرية مختلفة في أي مجتمع،يعني إخصاءاً اعتبارياً ونفسياً لأجيال متعاقبة من نخب ذلك المجتمع،تكنوقراطاُ ومثقفين.أما إذا كان هذا الإخصاء قد ترافق مع تحميل ثروات ذلك المجتمع وموارده الغزيرة على بغال الفساد والاستبداد والعولمة الشرهة،ثم سوقها وتفريغها في خزائن خارج الحدود،ليعاد شحنها من جديد على هيأة أسلحة وسلع استهلاكية تباع قسراً وطوعاً على أبناء ذلك المجتمع،فإن مفهوم (البطالة) في هذه الحالة،يتخذ مضموناً تدميرياً ذا طابع قصدي،يستدعي بالتبعية تداعيات سوسيولوجية وسيكولوجية خطيرة،قد تصل الى حد تفتيت الهوية الوطنية للفرد،ونقض عقده التشاركي مع المجتمع،وحجره في زنزانة الاغتراب النفسي واليأس الوجودي والتعصب الفكري والعنف الدفاعي الأعمى.وللأسف،أصبح العراق أنموذجاً اقليمياً وعالمياً لهذه الوظيفة التدميرية للبطالة.
ففي الدراسات التي حاولت حصر نسبة البطالة في العراق،جاءت النتائج متقاربة اجمالاً خلال السنوات العشرة الماضية،إذ يشير الاقتصادي العراقي الدكتور كاظم حبيب الى أن هذه النسبة بلغت في نهاية القرن الماضي وبداية القرن الجديد (65)% من اجمالي الأيدي القادرة على العمل،ثم استمرت على حالها بعد سقوط النظام السابق قي نيسان 2003م بسبب حل الجيش وقوات الشرطة والأمن والحرس الجمهوري وبعض الوزارات والمؤسسات،علماً أن البطالة بين النساء تزيد عن ضعف البطالة بين الرجال،.فيما أشارت تقديرات الأمم المتحدة الى أن نسبة البطالة تصل حالياً الى (72)% (1).أما التقديرات الرسمية الصادرة عن وزارة التخطيط والتعاون الانمائي في شباط 2004م فقد أشارت الى نسبة (48,7)% من السكان الناشطين اقتصادياً(2).كما توصل أحد الاستطلاعات الذي أجراه موقع (الاستفتاءات العربية) على شبكة الانترنيت الى أن (53)% من أفراد عينة الاستطلاع يعتقدون أن البطالة في العراق وصلت الى حجم (الكارثة)،فيما وصفها (32)% منهم بأنها (مشكلة كبيرة)(3).
وقد تزامن هذا الارتفاع الحاد في عدد العاطلين،مع تدهور المستوى المعاشي للفرد العراقي منذ فرض الحصار الاقتصادي في بداية تسعينات القرن الماضي وحتى عشية الحرب الأخيرة وما بعدها.فقد تبين خلال المسح الاقتصادي والاجتماعي الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء في العام 1993 أن (الفقر المطلق) تجاوز نسبة (90)% في العراق(4).كما قدرت احدى الدراسات المحلية في اواسط التسعينات أن (98)% من سكان العراق يعيشون عند حد الكفاف أو دون مستوى خط الفقر(5).أما معدل الدخل السنوي للفرد العراقي فقد تردى الى مبلغ (300 – 350)دولار في العام 2002م بعد أن كان (4400) دولار في العام 1979م(6).فكان من نتائج هذا التدهور أن حراكاً واسعاً حدث من المهن التي تحتاج الى تحصيل اكاديمي باتجاه المهن التي لا تحتاج ذلك،إذ توصلت إحدى الدراسات المحلية في العام 1994 الى أن المطرب صار أفضل في مكانته الاقتصادية من عميد الكلية وأن الحمّال يتفوق على معلم الابتدائية في دخله المعاشي(7)،فضلاً عن أن جيوشاً من العاطلين كان ومايزال يتم تخريجهم كل عام من مختلف الجامعات والمعاهد العراقية،الى جانب عشرات الآلاف من أصحاب المهن العليا ممن هاجروا الى الغرب،إذ تحدد إحدى الاحصائيات أن عدد الأكاديميين وأصحاب الكفاءات العلمية الذين تركوا العراق وأقاموا في الخارج في العام 1999م وحده بلغ (23000) فرد(8).فما هي الاجراءات التي اتخذتها الحكومة المؤقتة الحالية للتعامل مع كل هذه المعطيات الكارثية؟
إذا ما عدنا الى الحلول الارتجالية التي طرحتها وزارتا التخطيط والعمل لتطويق التفشي المستمر للبطالة،لن نجد أكثر من اجراءات شكلية وتصريحات مكتبية متفائلة أمام وسائل الإعلام عن (انجازات) مكاتب التشغيل،وعن توفير فرص عمل (وهمية) تقدر بمئات الآلاف في مختلف مؤسسات الدولة!فقد أصبح من المعلوم على نطاق واسع في الشارع العراقي أن مقاولات الإعمار لم ولا تمنح لشركات عراقية مباشرة،إذ يوضح الدكتور كاظم حبيب بأنها تمنح الى شركات أمريكية تمنحها بدورها الى شركات أخرى غير عراقية،خاصة الخليجية،وعندما تستقر عند مقاول عراقي تكون المبالغ قد تقلصت الى نسبة (10 –15)% من المبلغ الأصلي,ولذلك فإن المنحة الأمريكية البالغة (18)مليار دولار لن يتبقى منها فعلياً لصالح الاقتصاد العراقي أكثر من (4) مليار دولار(9).وهذا يعني أن أكثر من (85)% من المنح المقدمة لإعادة اعمار العراق يمكن عدّها (عمولات) ذهبت وستذهب مباشرة الى أرصدة أفراد وشركات لا يعرفون حتى موقع العراق على الخارطة.إن هذه الوقائع الاقتصادية المتصلة عضوياً بأشد أنواع الفساد الاداري الذي لم يشهد تأريخ العراق الحديث له مثيلاً،ابتداءاً من تفكيك مصانع العراق وجرف تربته وتسليب نفطه،ثم تهريبها بالشاحنات الى الدول المجاورة على مرأى ومسمع الجميع،وانتهاءاً بشفط ملايين الدولارات من عقود تنظيف المدن وصبغ المدارس وبناء الأرصفة واستيراد الأدوية ومواد الحصة التموينية،إنما تؤشر بوضوح حجم العواقب الاجتماعية والنفسية لهذه المآسي الاقتصادية،ومنها محنة البطالة,ففي بلدان لم تمر باستبداد وحروب واحتلال كالتي مر بها المجتمع العراقي عبر أكثر من ثلاثة عقود،توصلت الدراسات الى أن ارتفاع نسبة البطالة فيها أدى الى ارتفاع نسب الاكتئاب والقلق ونوبات الغضب ولوم الذات،والى انخفاض في تقدير الذات،ونشوء نزعات نحو مركز التحكم الخارجي (أي عزو أسباب الأحداث الى قوى غيبية خارجية بدلاً من عزوها الى النشاطات البشرية)،والى تدهور ملحوظ في النظام المعرفي والانفعالي،لدىالأفراد العاطلين عن العمل(10).فماذا بشأن الآثار المدمرة المستمرة التي تركتها وتتركها البطالة في شخصية الفرد العراقي،لاسيما اذا كان حائزاً على تحصيل أكاديمي يؤهله لمهنة راقية،للعقل دور أساسي فيها؟
وللحصول على مؤشرات احصائية تفيد في التعامل الفاعل مع أبعاد هذا السؤال،أجرينا مسحاً معلوماتياً شمل عينة من الجنسين،تضم حملة شهادات أكاديمية عاطلين عن العمل،من اختصاصات علمية متنوعة،بضمنهم من يحمل شهادة عليا في اختصاصه،ومن مناطق سكنية مختلفة في مدينة بغداد.وقد تم حصر أهم النتائج بالآتي:
* (80)% مضى عليهم أكثر من (3) سنوات عاطلين عن العمل،أي إن بطالتهم بدأت خلال العهد السابق وما تزال ممتدة حتى اليوم.
* (44)% يرون أن (الاحتلال الأمريكي) هو المسؤول عن أستمرارأزمة البطالة الحالية،مقابل (41)% يرون أن (الحكومة الحالية) هي المسؤولة عن ذلك،فيما ألقى (15)% فقط بالمسؤولية على (تدهور الوضع الأمني) و (النظام السابق).
* (90)% أكدوا بأنهم سيهاجرون من العراق نهائياً لو أتيحت لهم فرصة للعمل والاستقرار في الخارج،مقابل (10)% أعربوا عن ترددهم.ولم يرفض أي من أفراد العينة فكرة الهجرة بشكل قطعي.
* (83)% حددوا مصدر عيشهم الحالي بـ(إعانات من الأهل والأقارب)،مقابل (17)% بـ(مدخرات شخصية).ونفى جميع أفراد العينة أن يكونوا قد تلقوا أي مساعدات من وزارة العمل أو من أي جهات دينية أو خيرية.
* وعندما وجه سؤال افتراضي الى أفراد العينة،نصه ((لو قيل لك أن ثورة شعبية ستندلع لقلب الأوضاع الحالية وإعادة توزيع الثروات بشكل عادل،فما موقفك منها؟))،أجاب (82)% بأنهم سيشتركون فيها،و(10)% بأنهم يؤيدونها دون المشاركة فيها،فيما عبّرت النسبة الباقية (8)% عن موقف غير محدد.
* (67)% أوضحوا موقفهم من الانتخابات القادمة بعبارة (لا تعني لي شيئاً)،فيما أعرب (23)% عن (عدم التأييد) لإجرائها.
* وعند سؤال العينة عن التأثيرات التي تركتها البطالة على حالتهم النفسية،اتضح أن (86)% باتوا يشعرون بالاكتئاب،وبالعجز،وبضعف الثقة بالنفس.وعند سؤالهم عن تأثيرات البطالة في علاقتهم بعوائلهم،أوضح (81)% منهم أن العلاقة أصبحت (لا تطاق)،مقابل (19)% قال بأنها أصبحت (متوترة).
* أما عن مشاعر هؤلاء العاطلين من حملة الشهادات نحو وطنهم،فقد وصف (70)% منهم شعوره بـ(الاغتراب)،و(18)% بـ(النفور)،و(8)% بـ(الانتماء)،و(4)% بـ(اللامبالاة).ولم يبدِ أي من لأفراد العينة شعوراً بـ(التعاطف) مع الوطن.

إن قراءة شاملة لمضامين هذه المؤشرات الرقمية،تجعلنا نتلمس استنتاجاً ثلاثي الأبعاد،نضعه أمام أنظار الرأي العام العراقي وكافة أصحاب القرار والتأثير والرأي في الدولة والمجتمع:
1- أمست بطالة أصحاب الشهادات الأكاديمية ظاهرة مزمنة في المجتمع العراقي، لها امتداداتها السابقة والحالية.ولعل التكافل الاجتماعي النسبي الذي تتميز به الأسرة العراقية هو الذي أعان هؤلاء العاطلين على الاستمرار بالحياة،في ضوء تلكؤ الجهات الرسمية والدينية والخيرية بالقيام بدورها المتوقع في إسناد هؤلاء العاطلين.
2- أدت البطالة المزمنة الى تراكم شعور حاد بالحيف والغيظ والرغبة بالثورة لدى أصحاب الشهادات هؤلاء،يرافقه ادراك واع بأن مسؤولية استمرار حالتهم المعاشية المتردية تقع بالأساس على معطيات الوضع الجديد،الذي يقف الاحتلال الأمريكي في مقدمة احداثياته الفاعلة.ولذلك عبّروا بوضوح عن احباطهم وموقفهم العدمي من المشروع السياسي الرسمي المتمثل بالانتخابات.
3- تركت سنوات البطالة أخاديد مأساوية في نفوس أفراد هذه الشريحة المتعلمة وبعلاقاتهم الأسرية،فضلاً عن انقطاع شبه تام في صلة التعاطف والانتماء لديهم مع محيطهم الاجتماعي،لتحل محلها مشاعر الاغتراب والنفور نحو أهم مفهوم يمنح الحياة الاجتماعية معناها وجذوتها وديمومتها:(الوطن).
إن الدلالة النهائية التي تستشف من هذه المضامين الثلاثة،تؤشر بوضوح أن الطبقة الوسطى(التكنوقراط) التي قوضتها الحروب السابقة،ما تزال بعيدة عن الانتعاش لتستأنف دورها العقلاني في العمليتين السياسية والاقتصادية،بل إنها تعاني من عجز وضمور إضافيين.وهذا يعني في اللغة النفسية أن المكونات (العقلية) للمجتمع العراقي ما تزال معطلة في غيبوبة مستمرة،على حساب نشاط غير اعتيادي لمكوناته (الانفعالية)،وهذا صار ملموساً بشكل تفصيلي لمن يعايش السلوك الاجتماعي اليومي في الشارع العراقي،مما ينبيء بتهرؤ أشد لنسيجنا المجتمعي خلال المرحلة المنظورة القادمة.



المراجع
(1) كاظم حبيب / هل من سبل لمكافحة البطالة الراهنة في العراق؟/ موقع الحوار المتمدن،العدد (760) ، 1/3/2004م
(2) تقرير مؤشرات الاقتصاد العراقي ( شباط 2004م)/ وزارة التخطيط والتعاون الانمائي / بغداد .
(3) موقع الاستفتاءات العربية www.arabo.com / يناير 2005
(4) المسح الاقتصادي والاجتماعي للأسرة العراقية (1993) / وزارة التخطيط- الجهاز المركزي للإحصاء/ بغداد.
(5) فاختة شاكر رشيد (1994) / الحقوق الاقتصادية للأسرة العراقية في ظل الحصار / بغداد .
(6) كاظم حبيب / مرجع سابق
(7) قاسم حسين صالح (1994) / المكانتان الاجتماعية والاقتصادية للمهن في المجتمع العراقي من وجهة نظر طلبة الجامعة / مجلة الآداب،العدد (42) .
(8) هاشم نعمة / هجرة العراقيين وتأثيراتها على البنية السكانية-الجزء الأول / موقع الحوار المتمدن ، العدد(941) ، 30/8/2004م.
(9) كاظم حبيب / مرجع سابق
(10) عدنان فرح و خالدة الموماني / الحاجات الإرشادية للعاطلين عن العمل في الأردن.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لحملة الشهادات الحاجات الارشادية
بشرى نادية ( 2011 / 5 / 25 - 18:49 )
شكرا على الموضوع القيم اريد استفسار حول المرجع الاخير الحاجات الارشادية للعاطلين عن العمل سنة الدراسة و صاحب الدراسة و هل هي رسالة جامعية ام دراسة شكرا مسبقا

اخر الافلام

.. موسكو تنفي اتهامات واشنطن باستخدام الجيش الروسي للكيماوي في 


.. واشنطن تقول إن إسرائيل قدمت تنازلات بشأن صفقة التبادل ونتنيا




.. مطالبات بسحب الثقة من رئيسة جامعة كولومبيا الأمريكية نعمت شف


.. فيضانات عارمة اجتاحت جنوب البرازيل تسببت بمقتل 30 شخصاً وفقد




.. بايدن أمام خيارات صعبة في التعامل مع احتجاجات الجامعات