الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ما هذا الذي هو نحن ؟ ...في السؤال عن لحم الكينونة

فتحي المسكيني

2012 / 3 / 18
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



ليس الإنسان غير من يسأل. ولبّ الأسئلة جميعا الذي بدأ به مرلو-بونتي مغامرة المرئي واللامرئي هو هكذا تساؤل فجّ وغامض: " ما هذا الذي هو نحن ؟" . ولكن لنحترس منذ الآن: ليس ثمّة إجابة أو أطروحة جاهزة حول هذا المطلب. بل ينبّهنا مرلو-بونتي إلى ما في الأطروحات والأجوبة من زيغ وخداع. إنّ ديدن الفيلسوف هو ألاّ يدافع عن أيّة إجابة جاهزة حول أنفسنا. وذلك أنّ عليه أن ينطلق في البحث عن ذاته من أفقر معطى يعثر عليه في الأثناء: أنّه "يرى الأشياء" و"أنّ العالم هو ما نراه" . ليست الفلسفة إذن "معجما" جاهزا للاستعمال، بل هي قدرة على التساؤل عمّا نرى، أي عن نمط ولوجنا في العالم المرئي. ومثل "الإنسان النائم الذي فقد كل وجهة" ، يبدو الفيلسوف محرجا سلفا من أيّ رؤية للعالم المرئي لا يملك القدرة على مساءلتها بشكل مناسب.ووجه الإحراج هو شعوره القوي بأنّ ما يحضر أمامه داخل العالم ليس مجرّد شيء "متكلّد" و إنّما هو "يقيم علاقة فريدة بعينيّ وجسدي" . حين أرى "ينتفض كلّ محيطي القريب" ويأتي باتجاهي.
وعلى ذلك فإنّ قرب العالم المفرط منّي هو بنفس القدر سبب قاهر لاستغلاقه عنّي . إنّ رؤية العالم من حولي ورطة للعلاقة معه وليس أداة لمعرفته. فأنا ليس مجرد "جسد" طبيعي أي مادة عضوية أو حيوانية بلا مشروع خاص، بل أنا رؤية ترى. ووجه الخطورة في هكذا فكرة هو التنبيه المضاعف إلى أنّه كما أنّه لا وجود لـ"رؤية من الداخل"، كذلك فإنّ "اللجوء إلى ’’الخارج’’ لن يحمي أبدا في حد ذاته من أوهام الاستبطان" . ليس هناك فاصل طبيعي أو مادي أو نظري بين المرئي واللامرئي في رؤيتنا لأنفسنا أو للعالم. فالرؤية "إيمان إدراكي بالأشياء وبالعالم" سابق على كل ادعاء موضوعي حول أجسادنا، وليس نقلا بصريا آليا لشيء غريب عنّا.
بل أكثر من ذلك: إنّ حياتنا النفسية تشبه شيئا "لامرئيا يوجد في مكان ما خلف الأجساد الحية" . هو لامرئي لأنّه ليس موضوع تملّك أو تشيئة أبدا. فقد ظنّ الإنسان أنّ الإدراك الذي جعله يؤمن بوجود العالم الذي يحيط به يمكن هو أيضا أن يُحاط به ، أي أن يشيّئ الإدراك نفسه. والحال أنّه قبل أن أكوّن علما عن جسدي، "علّمتني تجربة لحمي بما هي غلافُ إدراكي أنّ الإدراك لا يولد أينما كان بل هو ينبعث من خفايا جسد" ما. إنّ "الإنسان كلّه هو هنا سلفا" ، وذلك قبل ما سيقوله العلم عن أجسادنا.
"ليس جسدي وحده هو الذي يدرك" إذن. ليس المرئي وحده هو موضوع الإدراك. بل ثمّة عالم لامرئي علينا هو أيضا أن نراه. وعليّ أن أفهم أخيرا أنّ "حياتي ...هي أخرى وهي ذاتها" معا. وينبّهنا مرلو-بونتي هنا إلى أنّ غرضه ليس الزعم أنّه "بإمكاننا أن ندرك دون جسد" بل فقط "أنّه يجب إعادة النظر في تعريف الجسد كموضوع محض" . ورأس الأمر في إعادة النظر هذه هو التمييز بين سؤال الماهية و معنى الواقعة: إنّ كينونتنا ليست ماهية جاهزة ونهائية، بل هي واقعة مفتوحة على جملة تجربتنا في العالم وللعالم. هو الفرق بين "أنّ" (that) ثمّة ذاتا أو عالما، وبين "ما" (what) هي هذه الذات أو ذاك العالم. "أنّ" ثمة ذات- هذه واقعة أقدم من كلّ سؤال عن الماهية. و"ما" تكون أيّ ذات ليس معطى علميا أبدا . لذلك ليس جسدي أو عالمي ماهية بل هو واقعة. ولذلك فأنا "أنتمي" إلى العالم قبل كل علم . ولذلك فما أؤسس عليه معنى كينونتي هو "إيمان" وليس "حجة" .
لكنّ هذا الإيمان ليس مجرد اعتقاد كسول، إنّه ضرب عنيد من "التفكّر": فإنّه "يظّهر كمسيرة نحو ذات مجهولة" . فهذا النوع من التفكّر "يستردّ كلّ شيء إلاّ ذاته" . بل "يمكن لقدرتنا على العودة إلى ذواتنا أن تقاس تدقيقا بقدرة [ما]على الخروج منها" . وعلى ذلك لا يخلو التفكّر من "سذاجة" ما، إذ مازال يشترط لإنشاء العالم أن يمتلك قبلُ مفهوم العالم كشيء قائم سلفا ، فيعوّض العالم بالشيء المفكّر فيه . ومن ثمّة فإنّ على الفلسفة أن تبحث عن "انطلاقة مغايرة" .
علينا أن نقبل بهذا: " أنّ العودة إلى الذات هي كذلك خروج منها"، وذلك أنّ الإنسان يكون دوما قد بدأ "خارج نفسه" . ولذلك علينا الكفّ عن أيّ طمع "أنانوي" ينتهي دوما بالسقوط في ضرب من "ليل الهوية" الذي لا مخرج منه. في الواقع إنّ الكينونة "لا تدين بشي لحالات وعيي" . إنّ علينا أن نفصل بين "الأنانة" و "الإنّية": أنا لست "أنا" جامدة ، تقف فوق عالمي لتموضعه وتعرفه، كأنني "مجال ترنسندنتالي" فوق عالمي، بل أنا "نفسي" التي هي ضرب من "اللاشيء" الذي أصنع منه ذاتي. أنّ الأنا هو لاشيء معناه أنّه "ليس له طبيعة" . ومن ليس له طبيعة لا يوجد في أيّ موضع بعينه. أنا وضع فقط علي أن أضطلع به. ولذلك فإنّني دوما أكثر ممّا أزعم أنّني إياه. "وما أكونه جملة يفوقه ما أكونه بالنسبة إليّ أنا ذاتي" . أيّها البشر، "لسنا العلة الملائمة لكلّ ما نحن إياه" !
ولذلك لا يوجد "إدراك أوّل للإنية والكينونة" علينا أن ننطلق منه أو أن نعود إليه مثلما تريد فلسفة الوعي والتفكّر. في البداية أنا لاشيء. و"لأنني لاشي فإنّه عليّ أن أكون وضعي" ، أي أن أحتمل عدمي وسلبيّتي بشكل مناسب وصارم، وهي لمهمّة جدّ صعبة . وليس ذلك سوى أن أحتمل "السؤال المركزي الذي هو نحن" ، والذي يفرّعه مرلو-بونتي إلى الأسئلة القصوى حول نفسي من قبيل: " العالم ذاته، أين هو ؟ ولم أنا، أنا ذاتي ؟ وما هو عمري الحقيقي ؟ وهل أنا وحدي حقا من أكون أنا ؟ أليس لي في مكان ما، نظير أو توأم ؟"
لنقل "أنا مجال تجارب حيث ترتسم عائلة الأشياء" ، وليس مجرّد "متأمّل عالم" معزول في أنانته. لكنّ التجربة هنا لها معنى أكثر من إمبريقي: إنّ التجربة هي النسيج الذي يشدّ جسدي إلى العالم الذي أعيشه وفق الإيمان الإدراكي الذي لي عنه. التجربة هي "لحم الزمن" الذي يجعلني أشعر أنّني "امتداد للحم" العالم الذي من حولي. لا فاصل بين لحم جسدي ولحم العالم، بين "جسدي الموضوعي وجسدي الفينوميني" . ليس جسدي "قطيعا تائها من الإحساسات" بل هو "جزء من اللحم الدائم للعالم" . ولذلك كذبة هو الفاصل الحديث بين "الذات" و"الموضوع" : "إنّ الأشياء تمرّ إلى داخلنا تماما كما نمرّ نحن إلى داخل الأشياء" .
بذلك نحن مطالبون بالانتقال من السؤال : "من أنا ؟" إلى سؤال أكثر عينيّة، ألا وهو "ماذا ثمّة ؟ أو حتى ما الثمّة ؟" .ماذا ثمّة في أنفسنا، متى وقفنا على أنّنا محض رؤية ترى ولا ترى ؟ - إنّ ما هو ثمّة في أنفسنا هو : "أنّ العالم لحم كلّي" . ومن ثمّة أنّ جسدي يستطيع أن يدرك العالم "دون أن يكون عليه الخروج من ’’ذاته’’ لأنّه ليس كلّه داخل ذاته" . ولأنّ العالم لحم فليس ثمة فاصل بين العالم والجسد : "إنّ جسدي لحم منطبق على لحم لا يحيط به العالم ولا العالم محاط به" . ما ثمّة هو "تداخل وانشباك (entrelacs) بين الواحد والآخر" . ولكن ما معنى "اللحم"(la chair) هنا ؟ وكيف نفرّق بين "الجسد" و "اللحم" ؟
في الحقيقة، إنّ السرّ هنا لا يتعلق بالتفريق بل بفهم الانشباك بين الجسد وعالمه. وأوّل خطوة علينا القيام بها هي تحرير معنى "الجسد" من "الشيئية" التي تُلبسها إياه العلوم الحديثة. ليس الجسد شيئا أو واقعة. ولذلك هو ليس "في" العالم؛ بل هو تجربة عالم حيث يتداخل الرائي والمرئي "بحيث ما عدنا نعرف من يَرى ومن يُرى" .
ولكن متى "أصير لحما" ؟ - لا يكفي أن ألاحظ "جسدي" كواقعة في العالم المحسوس حتى أصير "لحما". ولهذا يؤكّد مرلو-بونتي بحرص خاص أنّه "ليس ثمة اسم في الفلسفة التقليدية ليقول ذلك" . وهو يعرّفه كالتالي:
" إنّها هذه المرئيّة (Visibilité) وهذه العمومية التي هي مرئية وعمومية الحسي في ذاته، هذه الغفلية الفطرية (anonymat inné) التي هي غفليتي أنا ذاتي هي التي كنا سميناها منذ حين لحما" .
وكما أنّ المرئيّ ليس "مادة" فإنّ اللحم هو أيضا ليس مادة مكوّنة من جسيمات ما، ولذلك هو أيضا ليس "واقعة" أو شيئا أو "جوهرا"، وزيادة على ذلك ليس "تصوّرا" يبنيه التفكّر، بل هو "شيء عام" بين الفردي والفكرة، أو هو أقرب ما يكون، حسب مرلو-بونتي إلى ما سمّاه القدماء "الأسطقس" بالمعنى الذي يُطلق فيه على عناصر الماء والهواء والنار والتراب :
"إنّه ضرب من مبدأ مجسّد (incarné) يجلب معه أسلوب كيان في كل مكان يوجد فيه جزء صغير منه، فاللحم بهذا المعنى هو ’’أسطقس’’ الكينونة" .
لكن إذا لم يكن اللحم "واقعة" بالمعنى الفيزيائي، فهو "وقائعية" (facticité): "ما يجعل الواقعة واقعة" . وليس أقلّ ملامح الطرافة في هذا المفهوم المثير أنّه يبيّن لنا في آخر المطاف "أنّه لا وجود هنا لمشكلة الأنا الآخر لأنّني لست أنا الذي أرى وليس هو الذي يرى، ولأنّ مرئية مجهولة تسكننا نحن الاثنين، تسكننا رؤية بشكل عام بمقتضى هذه الخاصية التي تنتمي إلى اللحم، كونه هنا والآن، خاصيته أن يشع في كل مكان ودائما" .
هنا يسقط "الوهم الأنانوي" وتنتبه الذات إلى أنّها رائية ومرئية في آن، تقع "تحت بصر الأشياء" كما تراها، في نوع من النرجسية الطريفة: أن نشعر أنّنا لا نمتلك العالم بل هو الذي يمتلكنا. "ولأوّل مرة لا يتزاوج الجسد مع العالم، إنّه يحتضن جسدا آخر" . وبدلا من ضجيج الذات المتعالية الحديثة حول سيادتها على الطبيعة، ينبّهنا مرلو-بونتي إلى أنّ تجربة الرائي المرئيّ تعلّمنا أنّ اللحم هو "التفاف المرئي على الجسد الرائي والتفاف الملموس على الجسد اللامس"، إنّه "كل الحياة اللمسية لجسدي" . ولأنّ اللقاء مع الأشياء هو ممّا لابد منه، فإنّ انبثاق اللحم في أفقنا يجعنا نقف على أنّ المرئيّة التي تلفّ أجسادنا، لحم الكينونة هذا، إنّما هو "الوسط" حيث تتكون الذوات والموضوعات، فهو ليس "ذرة الكينونة" بل يأتي إلينا "كعنصر أو كرمز عيني لطريقة كيان بعامة" .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل تؤكد إصرارها على توسيع العملية البرية في رفح


.. شرطة نيويورك تعتدي على مناصرين لغزة خلال مظاهرة




.. مشاهد للدمار إثر قصف إسرائيلي على منزل عائلة خفاجة غرب رفح ب


.. أحمد الحيلة: قرار الجنائية الدولية بحق إسرائيل سيحرج الدول ا




.. في ظل تحذيرات من تداعيات عملية عسكرية.. مجلس الأمن يعقد جلسة