الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


التوازن بين الالتزام الإسلامي والانفتاح على الثقافات المختلفة -الماوُرديّ نموذجًا- :

هدى قزع

2012 / 3 / 19
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات


التوازن بين الالتزام الإسلامي والانفتاح على الثقافات المختلفة "الماوُرديّ نموذجًا" :

في شوارع البصرة زمن العباسيين، كان هناك طفل صغير لم يتجاوز الرابعة من عمره ، ورث عن أبيه صناعة (ماء الورد) يقضي النهار كله أمام أبواب المساجد، يبيع ماء الورد لطلاب العلم ورواد المدارس مقابل دراهم معدودة ، يتقوَّى بها على متاعب الحياة. وقد أصبح هذا الصبي من قادة الفكر وحملة مشاعل العلم ومن أبرز رجال السياسة، وقاضيًا من أعدل القضاة، وأديبًا ناضجًا ومؤلفًا عظيمًا في شتى فروع ثقافة أمته ، إنه أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوُرديّ ، والملقب بقاضي القضاة ، من فقهاء الشافعية المعدودين ، ولد في البصرة عام 364هـ ، وتوفي في بغداد عام 450 هـ .
قضى مراحل حياته الطيبة الحافلة بجلائل الأعمال في البصرة وبغداد وأعمالها من الأمصار القريبة ، وكانت تلك الجهات في ذلك الوقت مسرحًا للفتن والدسائس من الداخل والخارج ، ومقام الخلافة في بغداد من الضعف والوهن وخور العزيمة ، بحيث أصبح الخلفاء آلات مسخرة وأدوات لا قيمة لها بين الترك والديلم . يقول أبو الفداء في حوادث سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة :" وفي هذه السنة قبض بهاء الدولة بن عضد الدولة على الطائع لله عبد الكريم ، وكنيته أبو بكر بن المفضل المطيع لله بن جعفر المقتدر بن المعتضد ابن الموفق بن المتوكل ؛ بسبب طمع بهاء الدولة في مال الطائع . ولما أراد بهاء الدولة ذلك أرسل إلى الطائع وسأله الإذن ليجدد العهد به ، فجلس الطائع على كرسي ودخل بعض الديلم كأنه يريد تقبيل يد الخليفة فجذبه من سريره والخليفة يقول: إنّا لله وإنا إليه راجعون ، ويستغيث فلا يغاث وحمل الطائع إلى دار بهاء الدولة وأشهد عليه بالخلع" . وكان الشريف الرضي حاضرًا واقعة القبض على الطائع وخلعه فبادر بالخروج من دار الخلافة وقال في ذلك أبياتًا من جملتها:
أَمسَيتُ أَرحَمُ مَن أَصبَحتُ أَغبِطُهُ لَقَد تَقارَبَ بَينَ العِزِّ وَالهَونِ
وَمَنظَرٍ كانَ بِالسَرّاءِ يُضحِكُني ياقُربَ ما عادَ بِالضَرّاءِ يُبكيني
هَيهاتَ أَغتَرُّ بِالسُلطانِ ثانِيَةً قَد ضَلَّ وَلّاجُ أَبوابِ السَلاطينِ
وإنّا لنقرأ من أخبار ذلك العصر الشيء الكثير عن الفتن بين الشيعة وأهل السنة. ففي أوائل حياة الماوردي كانت فتنة القرامطة ومذبحتهم الكبرى في الكوفة ؛ وفي أواخرها كان اشتداد نفوذ الباطنية وشيوع دعوة "الحسن بن الصباح" ؛ وفي هذه الآونة كانت دولة بني حمدان في حلب وحروبهم ومنازعاتهم ؛ وفي هذه الفترة من التاريخ الإسلامي كانت حكومة الفاطميين في مصر أيام خلافة العزيز بالله ثم الحاكم بأمر الله . أما في الأندلس فكانت خلافة هشام بن الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وحروب المنصور بن ابي عامر وانتصاراته التي شرفت الحكم الإسلامي في تلك الديار .
ومبتغانا من سرد حوادث تلك الأيام التدليل على روح العصر في الأيام التي عاشها الماوردي . فمع ان هذه الأيام عجت بالفوضى السياسة ، إلا انها كانت من العصور الإسلامية الزاهرة في الإنتاج الفكري والأدبي؛ فلا غرو أن ينبغ في هذا العصر من الفلاسفة والحكماء ابن سينا ، والخيام ، والمعري , ومن النحويين واللغويين: أبو سعيد السيرافي والحسين ابن زكريا اللغوي ، وابن جني ، والجوهري . ومن المحدثين والأئمة : الماوردي ، والصيمري والإسفرايني والبيهقي والقشيري . ومن الأدباء والكتاب : أبو إسحاق الصابي ، والخطيب بن نباتة الفارقي ، والصاحب بن عباد، وابن العميد ، والحاتمي ، والثعالبي ، ومن الشعراء: أبو الحسن الأنباري ، ومهيار الديلمي ، والشريف الرضي. كل هؤلاء وغيرهم من الأعلام النوابغ عاصروا الماوردي، وحسبنا ما ذكرنا من الأسماء للدلالة على روح ذلك العصر من الوجهة العلمية .
ولاريب ان من العوامل التي أدت إلى إحياء النهضة تشجيع الحكام للعلماء العاملين . وقد كان للماوردي نصيب كبير من هذا التشجيع ، وكان عظيم القدر ، حيث ولي القضاء في أكثر من بلد وقد ذكر ياقوت الحموي في معجمه أنه تولاه في "أستوا" وهي حسب قوله كورة من نواحي نيسابور تضم ثلاثا وتسعين قرية ومركزها مدينة خيبوشان.واختير سفيرا بين قادة الدولة العباسية وآل بويه بين سنة 381 هـ. و422 هـ في عهد الخليفة القادر بالله. وقد طلب جلال الدولة بن بويه في سنة 429 هجرية من الخليفة أن يضيف إلى ألقابه لقب ملك الملوك "شاهنشاه" ؛ وهو اللقب الذي كان يحمله ملوك الفرس المجوس قبل الفتح الإسلامي فاختلف فقهاء بغداد في جواز التلقب بهذا اللقب فمنهم من وافق مسايرة لبني بويه ، ومنهم مسايرة للخليفة ، ومنهم من تحرج من الأمر وخاف من ذوي السلطان فلم يقل بهذا الأمر بنفي أو إيجاب، أما الماوردي فقد أفتى صراحة بأنه لا يجوز وتخلى عن صداقته ومودته لجلال الدولة فأرسل إليه وقال له: "أنا أتحقق أنك لو حابيت أحدا لحابيتني لما بيني وبينك وما حملك إلّا الدين، فزاد بذلك محلك عندي".
وقد ذكر أبو الفداء في حوادث سنة 419 هـ أنه عندما توفي القادر بالله وجلس في الخلافة ابنه القائم بأمر الله ، أرسل القائم أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار فأخذ البيعة عليه القائم وخطب له في بلاده . وذكر كذلك في حوادث 443 أي قبيل وفاة الماوردي بسبع سنين أنه وقعت الوحشة بين القائم وجلال الدولة على أمر من أمور التقاليد ، فأرسل القائم أبا الحسن الماوردي يوسطه ولم تنفع وساطته .
والحادثتان تدلان على ناحية جليلة من نواحي حياة الإمام الماوردي من وجهة اتصاله عمليًا بالحياة السياسية في عصره ، وتزيد من قيمة كتابيه الأحكام السلطانية وقوانين الوزارة . لأنهما لم يكتبا إلا عن روية ولم يصدرا إلا عن حكمة وتجربة ودراية . ويؤخذ من مقدمة الأحكام السلطانية أنه لم يشرع في كتابته إلا بعد أن عظم قدره ، وأصبح مقدمًا عند السلطان حيث لم يصنفه إلا امتثالًا لأمره حيث يقول:" ولما كانت الأحكام السلطانية بولاة الأمور أحق ، وكان امتزاجهما بجميع الأحكام يقطعهم عن تصفحها مع تشاغلهم بالسياسة والتدبير ، أفردت لها كتابًا امتثلت فيه أمر من لزمت طاعته ليعلم مذاهب الفقهاء فيما له منها فيستوفيه ".
ولهذه الكلمات قيمة في دحض المزاعم التي ذكرها الصفدي في الوافي بالوفيات وابن خلكان في وفيات الأعيان ، ونقلها صاحب طبقات الشافعية بتحفظ وتتلخص : في أن الإمام الماوردي لم يظهر شيئًا من تصانيفه في حياته وإنما جمعها كلها في مكان واحد ، ولمّا دنت وفاته قال لشخص يثق به : " إن كتبي لم أظهرها لأني لم أجد نية خالصة لله تعالى لم يشبها كدر ، فإذا عاينت الموت ووقعت في النزع فاجعل يدك في يدي فإن قبضت عليها وعصرتها ، فاعلم أنه لم يقبل مني شيء منها فاعمد إلى الكتب ، وألقها في دجلة وإن بسطت يدي ولم أقبضها فاعلم أنها قُبِلت وأني قد ظفرت بما كنت أرجوه من النية الخالصة.وكان بعد ذلك أن بسط يده فأظهر ذلك الإنسان كتب الإمام.
وهذا خبر لا يمكن يمكن قبوله ، فإمام جليل القدر مثل الماوردي وفي عصر مثل عصر الماوردي ، وقد اشتدت فيه المنافسة بين العلماء والأدباء والكتاب ، تربأ به همته العالية أن يفكر في مثل هذا الأمر . وقد ذكر الصفدي قبل هذا الخبر المزعوم قصة أخرى تدل على أن مؤلفات الماوردي كانت معروفة ومشهورة ، بل تدل على أنه كان ينافس غيره من علماء عصره في التأليف جاء فيها : " وكان القادر قد تقدم إلى أربعة من الأئمة في المذاهب الأربعة ؛ ليضع له كل واحد مختصرًا في الفقه ، فوضع الماوردي الإقناع، ووضع القدوري مختصره ، ووضع عبد الوهاب المالكي مختصرًا ، ووضع الحنابلة أيضًا مختصرًا ، وعرضت عليه فخرج الخادم إلى الماوردي وقال له . قال لك أمير المؤمنين : حفظ الله عليك دينك كما حفظت علينا ديننا".
ومن مصنفاته الأخرى تفسير القرآن وسماه النكت ، وكتاب الحاوي في الفقه ،و أدب الدنيا والدين، وتعجيل النصر وتسهيل الظفر.
وقد أجمع الذين ترجموا حياته أنه كان إمامًا ثقة في الفقه والتفسير ، ورعًا في دينه ، مجاهدًا لنفسه مجتهدًا لا مقلدًا . ذكر الصفدي في "الوافي بالوفيات" أنه كان قد سلك طريقًا في توريث ذوي الأرحام القريب والبعيد سواء، فجاء إليه كبير من الشافعية فقال له"" اتبع ولا تبتدع ". فقال " " بل أجتهد ولا أقلد" فانصرف عنه.
ومن كلامه الدال على مجاهدته لنفسه ؛ ما ذكره في كتاب أدب الدنيا والدين ، إذ قال : "وما أنذرك به من حالي ، اني صنفت في البيوع كتابًا جمعته ما استطعت من كتب الناس ، وأجهدت فيه نفسي؛ وكررت فيه خاطري حتى إذا تهذب واستكمل ، وكدت أعجب به ، وتصورت أني أشد الناس إطلاعًا بعلمه ؛ حضرني وأنا في مجلسي أعرابيان ، فسألاني عن بيع عقداه في البادية على شوط تضمنت أربع مسائل لم أعرف لشيء منها جوابًا ، فأطرقت مفكرًا ، وبحالي وحالهما معتبرًا . فقالا : أما عندك فيما سألناك جواب ، وأنت زعيم هذه الجماعة ؟ فقلت : لا ، فقالا : إيها لك . وانصرفا . ثم أتيا من قد يتقدمه في العلم كثير من أصحابي فسألاه ، فأجابهما مسرعًا بما أقنعهما ، فانصرفا عنه راضيين بجوابه ، حامدين لعلمه " . إلى أن قال : " فكان ذلك زاجر نصيحة ، ونذير عظمة ، تذلل لها قياد النفس ، وانخفض لها جناح العجب".
ومن المسائل البارزة في حياة الماوردي اتهامه بالاعتزال ، جاء في "طبقات الشافعية الكبرى" لتاج الدين السبكي قول ابن الصلاح عنه: "هذا الماوردي، عفا الله عنه، يتهم بالاعتزال، وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه، وأتأوّل له، وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره، في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير، تفسير أهل السنة ، وتفسير المعتزلة، غير معترض لبيان ما هو الحق منها، وأقول: لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق وباطل، ولهذا يورد من أقوال «المشبّهة» أشياء، مثل هذا الإيراد، حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة، وما بنوه على أصولهم الفاسدة. وتفسيره عظيم الضرر، لكونه مشحونا بتأويلات أهل الباطل، تلبيسا وتدسيسا، على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق. ثم هو ليس معتزليًا مطلقا، فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم، مثل خلق القرآن، كما دل عليه تفسيره، في قوله عز وجل: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ.وغير ذلك، ويوافقهم في القدر، وهي البلية التي غلبت على البصريين، وعيبوا بها قديما". وهذا القول يهدينا إلى مزية جليلة من مزايا الماوردي ، إذ انه لم يكن رجل علم وأدب فحسب ، وإنما رجل يطلب الحقيقة ، وليس يضيره أن يجد وجهًا من وجوهها في أصول المعتزلة ، وان يوافقهم عليها وأن يجتهد في غيرها من الحقائق عند أهل السنة ، لأنه كان من أئمة المجتهدين وكبار الباحثين في الحقائق .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صفقة الاتحاد الأوروبي مع لبنان..ما خلفياتها؟| المسائية


.. بايدن يشدد على إرساء -النظام- في مواجهة الاحتجاجات الجامعية




.. أمريكا.. طلاب يجتمعون أمام منزل رئيسة جامعة كولومبيا نعمت شف


.. الجيش الإسرائيلي: 12 عسكريا أصيبوا في قطاع غزة خلال الساعات




.. الخارجية الأمريكية: هناك مقترح على الطاولة وعلى حماس قبوله ل