الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مفهوم الضمير...أو كيف صار للإنسان ذاكرة ؟

فتحي المسكيني

2012 / 3 / 21
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


فريديك نيتشه
جنيالوجيا الأخلاق، ترجمة فتحي المسكيني.

من الممكن سلفاً أن نحرز أنّ مفهوم "الضمير"، الذي نلتقي به هنا في هيئته العليا، والتي تنزع إلى حدّ الغرابة، إنّما له بعدُ وراءه تاريخٌ وتحوّلٌ-في-الشكل طويل. أن يحقّ للمرء أن يكفل نفسه، وبفخرٍ، ومن ثمّ أن يحقّ له أن يقول نعم لذات نفسه- هو، كما قيل، ثمرٌ يانع، بيد أنّه أيضا ثمرٌ متأخّر:- كم كان ينبغي على هذا الثمر أن يظلّ معلّقا على الشجر مُرّا ومُزّاً ! ولِزَمَنٍ أطول طيلةً بكثير، ما كان ثمّة شيءٌ يُرى عن هكذا ثمرٍ أبداً- ما كان لأحد أن يعِد به، وإنْ كان كلُّ شيء على الشجرة قد هُيّئ له وكان نحوه بالذات يربو !-" كيف نصنع للحيوان البشريّ ذاكرةً ؟ كيف نطبع على هذا الذهن المؤقت، الذي هو في شطر منه أثلمٌ وفي بعضه هاذٍ، على هذا النسيان المتجسّد، شيئاً على نحو بحيث يبقى حاضراً ؟"... هذا المشكل السحيق القدم هو، كما يمكن للمرء أن يخمّن، لم يُحلّ رأساً عبر الأجوبة والوسائل الناعمة؛ بل ربّما لم يكن ثمّة شيءٌ أكثر إخافة وإيحاشاً في ما قبل تاريخ الإنسان برمّته، من تقنية الذاكرة. "يسِمُ المرءُ شيئاً، حتى يبقى محفورا في الذاكرة: فوحده ما لا يكفّ عن إيلامنا، يظلّ في الذاكرة"-إنّ ذا هو المبدأ الرئيسي في علم النفس الأقدم تماما (ومع الأسف الأطول باعاً) على الأرض. بل قد يمكن للمرء أن يقول إنّه حيثما لا يزال على الأرض إلى الآن أبّهةٌ وجِدٌّ وسرٌّ وألوان قاتمة في حياة إنسان أو شعب، ثمّة شيء من الرعب يترك أثره، ذاك الذي به قبلُ في كلّ مكان على الأرض كانت تُوعَد وعودٌ وتُؤخذ رهونٌ وتُقطَع عهودٌ: إنّه الماضي، الماضي الأطول مدى، الأعمق غورا، الأشدّ غلظة، ينفث فينا ويطفح من تحتنا، عندما نأخذ الأمر "جدّاً". إذ لا يجري الأمر أبداً من دون دم واستشهاد وتضحية، متى رأى الإنسان ضرورةً في أن يصنع له ذاكرةً؛ إنّ التضحيات والنذور الأكثر هولا (ومن ذلك نذر الولد البكر)، والتشويهات الأشدّ فظاظةً (مثل الإخصاء)، والأشكال الطقوسية الأكثر فظاعةً لكلّ الشعائر الدينية (وكلّ الأديان إنّما هي في أساسها الدفين منظومة من الفظاعات)- كلّ ذلك ينبع في أصله من تلك الغريزة التي حدست في الألم أقدر وسيلة على تقوية الذاكرة. وبمعنى ما فإنّ التنسّك إنّما ينتمي إلى هذا المضمار: أنّه يجب أن نجعل بعض الأفكار لا تُمحى، حاضرة أينما ولّينا، عصيّة على النسيان، "ثابتة"، وذلك بهدف تنويم النظام العصبي والذهني عبر هذه "الأفكار الثابتة"- وإنّما طرائق الحياة وأشكالها النُّسُكيّة وسائلٌ من أجل أن نخلّص هذه الأفكار من التنافس مع الأفكار الأخرى جميعاً، من أجل أن نجعلها "لا تُنسى". وبقدر ما تكون الإنسانيّة سيّئة "على صعيد الذاكرة"، بقدر ما يكون وجه تقاليدها أشدّ رعباً على الدوام؛ وإنّ صرامة النُّظم الجنائية إنّما تمنحنا بخاصّة مقياساً لمدى العناء الذي تجشّمته حتى تظفر بالنصر على النسيان، وتُبقي على بعض المقتضيات البدائية للعيش معاً ضمن اجتماع ما، حاضرةً لدى عبيد اللحظة، عبيد الهوى والرغبة. نحن الألمان، لا نعتبر أنفسنا من دون شكّ شعباً فظّاً قاسيَ القلب، أو حتى مستهترا غافلا عن غدٍ؛ ولكن لينظر المرء فقط في نُظمنا الجنائية القديمة، حتى يدرك مدى العناء الذي تُجُشِّمَ على الأرض حتى نربّي "شعباً من المفكّرين" (نعني : شعب أوروبا الذي لا تزال تجد عنده إلى اليوم أقصى ما يمكن من الثقة والجدّ وانعدام الذوق والتمرّس بالأشياء، والذي هو بهذه الخصائص يملك الحقّ في أن يشتّل كلّ أنواع الموظفين المتنفّذين في أوروبا). هؤلاء الألمان قد صنعوا لأنفسهم ذاكرةً عبر الوسائل الأكثر رعباً، عسى أن يصبحوا أسياداً على غرائزهم العاميّة الدفينة وعلى غِلظتهم الفظّة: ليتفكّر المرء في العقوبات الألمانية القديمة، كالرجم مثلاً (-إذِ الأسطورة تُسقط حجر الطاحون على رأس المذنب) والدولابِ (الاختراع الأخصّ واختصاص العبقريّة الألمانية في ميدان العقاب) والخازوقِ والنَهْش والدَهْسِ تحت سنابك الخيل ("تقطيع الأوصال") وسَلْقِ الجاني في زيت أو خمر ( وهو أمر كان لا يزال معمولا به في القرنين الرابع عشر والخامس عشر) والسلخِ الذي كان رائجاً ("تقطيع الجلد إلى سُيور") واستئصالِ اللحم من الصدر؛ أو أيضا أن يعمد المرء إلى فاعل السوء فَيَطْلِيه عسلاً ويتركه للذباب تحت شمس حارقة. بمساعدة هكذا صور وحوادث، سوف يحفظ المرء في الذاكرة خمسةً، ستّة من "أنا لا أريد"، بالنظر إليها هو قد أعطى وعده، حتى يعيش منتفعًا من المجتمع،- وبالفعل ! بمساعدة هذا النوع من الذاكرة لابدّ وأنّ المرء في آخر الأمر سيستردّ "عقله" ! – آهٍ، العقل، الجدّ، السيطرة على المشاعر، كلّ هذا الشيء الكئيب الذي نسمّيه التفكّر، كلّ هذه الامتيازات ومظاهر الأبّهة في الإنسان: ما أغلى ما دفعنا من أنفسنا من أجلها ! وكم من الدماء والرعب في أعماق كلّ "الأشياء الجميلة" ! ...
ولكن كيف أتى هذا "الشيء الكئيب" الآخر إلى العالم، هذا الشعور بالذنب، بل "الضمير الشقيّ" برمّته ؟ - ها نحن نعود بذلك إلى أصحابنا جينالوجيّ الأخلاق. لنقل مرّة أخرى – أم أنّني لم أقل ذلك من قبلُ- هُمْ لا يُرجى منهمُ شيءٌ. تجربةٌ خاصة غريرة، "حديثة" تماماً؛ لا معرفة ولا إرادة معرفة بالماضي؛ فما بالك بغريزة تاريخية، هي هنا تحديدا ضرب من "النظرة الثانية" التي لا مندوحة منها – وعلى ذلك هم يشتغلون بتاريخ الأخلاق: ومن العدل أن ينتهي ذلك ضرورةً إلى نتائج، ليس لها مع الحقيقة سوى علاقات أقلّ من هشّة. فهل سبق لجينالوجيّ الأخلاق هؤلاء أن دار في خلدهم، ولو من بعيد، شيءٌ عن أنّ "الذنب"، هذا المفهوم الأخلاقي الكبير، على سبيل المثال، إنّما قد نشأ عن المفهوم الماديّ جدّا "ديون" ؟ أو أنّ العقاب، من حيث هو قصاص، قد تطوّر تطوّرا تاما على حدةٍ من كلّ افتراض مسبق حول حرية الإرادة أو عدم حريتها ؟ - وذلك إلى حدٍّ بحيث أنّ ذلك يحتاج دوماً على الأرجح إلى درجة عالية من الأنسنة، من طريقها يبدأ الحيوان "إنسان" في القيام بتلك التفريقات التي هي أكثر بدائيّة من قبيل "عمداً" و"سهواً" و"عرضاً" و"مكلَّف" ومقابلاتها ووضعها في الحسبان عند تقدير العقاب.إنّ هذه الفكرة الرخيصة، التي هي في الظاهر جدُّ طبيعية، وجدُّ قاهرة، التي تُستخدَم اضطراراً عند تفسير كيف نشأ الشعور بالعدالة على الأرض بعامة، أنّ "المجرم يستحق العقاب، لأنّه كان يمكنه أن يتصرّف بشكل آخر"، إنّما هي في الواقع شكل متأخّر تماماً، بل حتى متلطّف، من الحكم والاستنتاج الإنساني؛ أمّا من ينزاح بها إلى البدايات، فإنّه يتعدّى على علم نفس الإنسانية الأقدم عهداً، تعدّياً سافراً. إنّه الزمن الأطول من التاريخ البشريّ الذي أثناءَه لَمْ يكن يُعاقَبُ بأيّ حال من الأحوال، لأنّ المرء يعتبر مقترفَ الأذى مسئولا عن فعله، وبالتالي ليس تحت الافتراض المسبق بأنّ المذنب وحده ينبغي أن يُعاقَب: - بل بالحريّ، على نحو ما يعاقب الآباء أطفالهم إلى اليوم، من غضب على مضرّة لحقت، يُصبّ على فاعل الضرر،- بيد أنّ هذا الغضب إنّما يُمسَك به في حدود ويُغيَّر منه من جهة الفكرة القاضية بأنّ كلّ ضرر إنّما له في كلّ الأمور شيءٌ يعادله ويمكن أن يُسدّد عيناً، ولو كان ذلك أَلَـماً لمن ألحق بنا ضرراً. من أين استمدّت قوّتَها هذه الفكرةُ العتيقة، الغائرة الجذور، التي لم يعد ممكنا اليومَ اقتلاعُها، فكرة التعادل بين المضرّة والألم ؟ لقد أوحيت بذلك للتوّ: من علاقة التعاقد بين الدائن و المدين، التي هي قديمة قدم "الذات القانونية" بعامة والتي تحيل، من جانبها، على الأشكال الأساسية للشراء والبيع وتبادل السلع.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. -دبور الجحيم-.. ما مواصفات المروحية التي كانت تقل رئيس إيران


.. رحيل رئيسي يربك حسابات المتشددين في طهران | #نيوز_بلس




.. إيران.. جدل مستمر بين الجمهوريين والديموقراطيين | #أميركا_ال


.. مشاعر حزن بالفقدان.. إيران تتشح بالسواد بعد رحيل رئيسها وتبد




.. شهداء وجرحى في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في مدينة بيت لاهيا