الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهوانية الجسد و شهية الرقابة

عزالدين غازي

2012 / 4 / 6
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني


لقد عرف القرنين الماضيين اهتماماً واسعاً بالرغبة الجسدية، وأخذ هذا الموضوع يأخذ حبزه ومكانته ضمن التجربة المعرفية والفلسفية للإنسان، حتى أنه أضحى ممكناً الحديث عن فكر وفلسفة للجسد لاسيما حينما انعطفت الفلسفة نحو تحرير الانسان وفهمه مع ثلة من الفلاسفة والعلماء أمثال سيغموند فرويد الذي ركز على كينونة الرغبة لدى الفرد بكل تجلياتها اللوبيدية والمتسامية. وإذا كانت الرغبة في أدبيات التحليل النفسي ما هي الا تجل من تجليات سياق أشمل وهو غريزة الايروس أو الحب يُعبّر بها عن حيوية الكائن البشري واندفاعاته نحو الامل والتجديد والحياة، وإذا كانت غريزة الموت أو ثناتوس يعبر بها عن العدمية والموت، فإن التداخل بين هذين المتناقضين شكلا هو ما يجعل الذات الغائرة بين العدمية والمعيوش مفهوما فضفاضاً في الأديان، فتناولته الفلسفة بتعاليم تسعى إلى معرفة الحقيقة عن الذات وعن المقدس والطابو وفك التناقض الملتبس عنها، ذلك ما يعرف بمصير الكائن (الدازاين) عند هيدغر( 1)، أو إرادة القوة لدى نيتشه( 2) كتأسيس للمعرفة ضد السلطة بما فيها المقدس، واتجهت الفكرة كما عبر عنها جورج باطاي يبلورة صلة داخلية للذات بين الأفق الذي تحمله التجربة الجنسية والاسقاطات المنبثقة عن هذه التجربة، وهذا كما يقول فوكو "لا لأنها مضامين جديدة لحركات سحيقة القدم، بل لأنها تجيز التدنيس دون موضوع تدنيس خاو منطو على نفسه لا تتوجه أدواته إلا إلى ذاتها"(3 ).

إن تحليل مفهوم الرغبة بدأ تشكله انطلاقا من تصورات نقدية عقلانية مكتفية بذاتها خارج عن كل التأثيرات الدينية/الميتافيزيقية أو حتى الاديولوجية كذلك، وهذا ما يحيلنا إلى مفهوم آخر وهو مفهوم الحداثة الذي أعاد بناء النسيج الاجتماعي من جديد في عالم الاقتصاد المتسم بالآلية والمجتمع الصناعي المتسم بالمظاهر المادية، ومن هنا تشكلت مفاهيم أرادت أن توازن بين الضبط الجماعي والحرية الفردية وأهمها الرغبة التي بدأت تفكر في الانفلات عن تكنولوجيا العقلنة التي تعبر عن أدق دقائق التجربة الباطنية للذات بتخومها وحدودها الممكنة انطلاقاً من إبراز وإظهار الجسد الميت والعاري ومقابلة الكائن بالطبيعة في حالة تتلاشى فيها علاقة الموت بالجنسانية أو ديمومة الرغبة الخاصة بكل كائن أو فرد ختى اضحى الجديث عن تداعيات وضرووات تكنولوجيا الجسد كاسطرة للمعيوش وعودة للمقدس بشكل آخر.

إن فكرة الكشف عن لاوعي الذات بما فيها من أسرار الجسد وأهميته وسيلة مقصودة لمنع الجنس أو نفيه في أعمق أعماق الوعي وشكلا لإحلال الحياة الجنسية في قلب الوجود وربط الخلاص بالتحكم في الحركات الغامضة لها( 4) ذلك ما نجده في المجتمعات الإسلامية حيث تحول إلى خطاب ديني مسيطر بالإمساك بتلابيب الرغبة في معرفة الجنس لدى الإنسان "المسلم" ورغم التخطيب الديني للجنس المتمثل في الشريعة المنظمة للنكاح فإنه سرعان ما يتحول إلى أداة رائعة مستغلا غواية الناس في إتباع السنن وما كتب من قبل، وإرادته في ذلك العودة بالحركات المتمردة إلى حظيرة الطوق( 5) وذلك ما يتبين بشكل جلي في بعض الآيات عند الحديث عن الضبط الديني للسجد.

إن إنتاج الحقيقة هي إرادة المعرفة في استجلاء حقيقة الخطاب _حول الجسد_ والتأريخ لها( 6) ومهما بلغ شأن العلم الذي رغم زعمه بمعرفة موضوعه، فإنه يعاني دوماً من نقص الإرادة في معرفة الرقابة، قثمة شيء يرقد في ثناياه لا يعرفه. وهكذا فعلاقة المعرفة بالرقابة تمكن لا وعي الفرد والجسد من قوانين وتحديدات هي عبارة عن تماثلات ولا تماثلات وماهيات واختلافات تحددها قبليات تاريخية، وشروط إمكانية المعرفة ومبادئ التنظيم في زمن معين بالمجال المعرفي الابستيمي كمفهوم إجرائي محدد لجملة من الروابط والعلاقات القائمة بين كثرة من المعارف المتنوعة في حقبة زمنية معينة ( 7)، يشد عضد الخطابات اللاخطية في تشكيلاتها المتقطعة. ففي الحقيقة الدينية سواء في المسيحية أو الإسلام أوغيرهما، هي حقيقة لمعرفة جنس الفرد، أي حقيقة الذات الإنسانية، فالإلحاح الكلي على أسرار الجسد وأهميته وسيلة لإحلال الحياة الجنسية في قلب الوجود. ففي الشريعة الإسلامية مثلا نجد نصوصا دينية: سور النساء و البقرة و النور.. وغيرها لتقنين ممارسة الجسد، وهذا اعتراف تحول فيما بعد إلى تخطيب المباح والمحضور من خلال إرساء ثقافة المكتوب الجسدي كمعيوش اجتماعي، وقد امتد ذلك إلى واقع المؤسسات والممارسات السلطوية الطبية والدينية والسياسية حيث الرقابة الذكية للذات تحت شرعة الأخلاق. إن المبرر الحقيقي للتسامح الديني للجسد هو الإجبار البيولوجي له، لذلك يعتبر كل واجبات الفرد الجسدية من متع ومشاعر وأحاسيس وأحلام خطيئة ونجاسة وتدنيس تتطلب المراقبة والعقاب.

إن تتبع الأثر التاريخي للسلطوية المتمركزة على الحياة من إرادة ومعرفة ومراقبة ومعاقبة بتحليل الأفكار العلمية والدينية للتصرفات والممارسات الجنسية، يكمن في الجسد لأنه الشرعة الأخلاقية الكامنة وراء كل أخلاق، كما أن لكل جسد أثر مبدع وفني لحياة ووجود متفردة( 8)، وأن في قلب كل استبداد حريات عنيدة. وهذه المقاومة فتحت شهية رقابة السلطوي، مما أحيى المقدس الديني للجسد في الثقافة العقلانية، قديمها وحديثها، وأدى بوضع الجسد في حالة من التوازن والانسجام أو ما هو متحكم فيه بكل سلطة بيولوجية ممكنة، وبكل فيزيولوجية عميقة وفي كل الحساسيات العضوية المتضامنة مع الطبيعة: فالجسد الجمالي ببلاغته الجسدية تمثلته الديانات بعمق شديد منذ نشأتها وأصبح الآن تحت راية الايروتيكية ممثلا ببلاغة اللباس والتعري( 9) في الشارع والسينما والتلفزيون والمسرح والرقص وما ينشأ من نشوة داخلية للجسد، والجسد الطبيعي كذلك أمسكه التاريخ فطوعه تطويعاً وكذلك فعلت المجتمعات والأنظمة والإيديولوجيات.

إن ممارسات الجسد البيو- فزيائية في الحقيقة هو تعري للمخفي والكامن لأمراض مكبوتة ومخفية كمراة حقيقة للبؤس الاجتماعي للجسد من جريمة وشذوذ وانحراق وتهميش واغتصاب وعنف وصعلكة ونفي وتعذيب، حبث نرى ما لا نرغب فيه بإرادة سلطوية تبتغي استخفاء التجلي الفزيائي للممارس الجسدي.ولتعرية حقيقة ذلك يجب البحث عن عيوب الذوات المهمشة في المجتمع المزيف والخائف من أن تكشف عيوبه التاريخية، ولا مناص من تقويض ذات السلطة وسلطة الذات وسلطة المجتمع ومجتمع السلطة( 10) بشكل من المقاومة المتساوية للسلطة في الامتداد والمعاصرة، فالمقاوم مثل السلطة في قوته حركة وإنتاجية تتوطد وتتخثر وتنتظم لكنها تتوزع استراتيجيا، فما ان توجد علاقة السلطة توجد هناك امكانية للمقاومة، أما السلطة بإمكانها تعديل سيطرتها في شروط محددة وحسب إستراتيجية للرقابة وللسيطرة كذلك ( 11).

يشهد جميع نقاد فوكو على أنه قطع الصلة في كتابه "إرادة المعرفة" بوضوح مع النزعة الطبيعية التي اتسمت بها كتبه السابقة وهو يريد كذلك أن يبين في هذا الأخير أن المرء الخاضع للسلطة ولأشكال عنفها الدائم والمتخفي تحت رايات الحرية الجنسية أن يتعرف على الأشياء في ذاتها وفي حيويتها الأولية، أن يتعرف حتى على طراوة الرغبة خلف الممنوع الجنسي المريب، فإذا كانت السلطة شيء قبيح وجائر ولعين فان من تمارس عليه مستحسن وجميل( 12). إن قراءة هذا العمل كما يقول فوكو بنفسه هناك لحظات تكون التبسيطات فيها ضرورية من أجل قلب الديكور من حين لآخر والانتقال من المع إلى الضد فتكون ثنائية هذا التضاد مفيدة "للمتلقي" مؤقتا( 13).

وهكذا فإن آليات الهيمنة والمراقبة تنتج في الغالب أفراداً خنوعين مستسلمين مسلوبي الإرادة والفعل وبالتالي تصبح الحياة أكثر نرجيسية وعدوانية وضمنية بينهم، فإرادة القوة والتحكم والسلطة كما يقول حسن الموصدق ( 14) إنما توجد في قلب أي مؤسسة أو نظام مؤسساتي سواء كان اجتماعياً أو أخلاقياً أو ثقافياً أو سياسياً معقبا على أن خصوم فوكو يعترضون على النسبية والسلطة التي يمكن ردهما بسهولة وما هو السبيل للخروج من هذه الدوامة الكامنة بين رغبة إرادة القوة وإرادة المعرفة.مع أنه أردف بقوله أن النسبية الفوكوية إذا ما تم لها الغلبة ستصبح قوة إرادة معرفية مسلطة على الجميع ( 15).

الهوامش والمراجع:

(1 )-عمر مهيبل،الموت والرغبة، الرغبة كتجل وجودي للموت والعدم عند جورج باطاي، مجلة نزوى،ع 29 سنة 2002 ص.75.
( 2)- نفس المرجع والصفحة.
( 3) - نفس المرجع والصفحة.
( 4)- ميشال فوكو ، لا لسيطرة الجنس، محاورة برنار هندري ليفي، بيت الحكمة ع.1س.1.ابريل 1988.ص 61.
( 5)- نفس المرجع ، ص.65.
(6) - نفس المرجع ، ص.63.
( 7)- العسادي، عبد العزيز ، المعرفة والسلطة عند فوكو من خلال "إرادة المعرفة" العرب والفكر العالمي ، العددان 17و18 شتاء/ربيع 1992.ص.101.
(8)- نفس المرجع ص.110.
( 9)- بارث رولان، الجسد أيضاً وأيضاً، ترجمة أ.ابو زيد، العرب والفكر العالمي،العدد 7 ، صيف 1989.صص.143-149.
( 10) - الموصدق حسن، البيولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة (4) تكنولوجيا الرقابة الاجتماعية في اعمال ميشال فوكو،مجلة العرب الثقافي،بتاريخ 16/8/2007.ص.11.
(11) - ينظر ميشال فوكو ، لا لسيطرة الجنس، محاورة برنار هندري ليفي، بيت الحكمة ع.1س.1.ابريل 1988.ص .75.
(12) - نفس المرجع .ص .71.
(13) - نفس المرجع و الصفحة.
(14)- الموصدق حسن، البولوجيا السياسية بين سلطة المعرفة ومعرفة السلطة .مفهوم الحقيقة عند فوكو، الفكر العربي المعاصر ، العدد 144-145، مركز الانماء القومي 2008 ص.33.
(15)- نفس المرجع والصفحة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عمليات نوعية للمقاومة الإسلامية في لبنان ضد مواقع الاحتلال ر


.. مؤسسة حياة كريمة تشارك الكنائس القبطية بمحافظة الغربية الاحت




.. العائلات المسيحية الأرثوذكسية في غزة تحيي عيد الفصح وسط أجوا


.. مسيحيو مصر يحتفلون بعيد القيامة في أجواء عائلية ودينية




.. نبض فرنسا: مسلمون يغادرون البلاد، ظاهرة عابرة أو واقع جديد؟