الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


تأملات في الضجر

ابراهيم هيبة

2012 / 4 / 16
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


كل إنسان يبدأ الحياة بالشغف ثم ينهيها بالشعور بالضجر. بمجرد ما يخطو المرء أولى خطواته في هذا العالم تترسخ لديه القناعة بأن هذه الحياة معين لا ينضب من الفرص والإمكانات؛ ولكنه حالما يبدأ يتعمق تدريجيا في الأشياء، تأخذ رياح الضجر في الهبوب، وتبدأ قناعة أخرى تلوح في الأفق: لا فرق جوهري بين الفعل واللافعل ، بين السطح والعمق. منذ طفولتي، وإلى الآن، وتجربتي مع الزمن تجري بين الانغماس التام أو الانتظار المميت. لازلت أذكر كيف كنت أشغل نفسي بنشاط طفولي، ولكن ما كانت تمر ساعات قليلة حتى كان يجتاحني الإحساس بالخواء فأرمي بكل شيء جانبا وأنزوي في مكان ما منتظرا أن تحصل معجزة أو شيء من هذا القبيل. كانت هذه أول تجربة لي مع الضجر، وكان هذا هو أول شعور فلسفي لدي بخواء الأشياء.
فيما مضى كنت اعتقد بأن البؤس مشكلة اقتصادية، لكنني عندما أنظر، الآن، جيدا في وجوه أبناء الطبقات الميسورة تتكون لدي القناعة بأن البؤس الإنساني هو أعمق بكثير مما نعتقد. عندما تنظر جيدا في تلك الوجوه تجدها تقول لك بأنها جرَّبت كل رغبة، وأشبعت كل نزوة، وبأنها تملك كل شيء إلا حلا لمشكلة الضجر. والحق أن من يبحث عن حل لمشكلة الضجر كمن يبحث عن حل لمشكلة الوجود في حد ذاته. في هذه الأيام، عندما تشتكي من الضجر أمام الناس، تجدهم ينظرون إليك بعين الريبة معتقدين أن ما تحس به من ضجر مرده إلى كونك إنسانا كسولا أو لأن حياتك اليومية تفتقر إلى التنظيم والبرمجة. ولكن الضجر الذي يجتاحني في كل يوم وليلة لا علاقة له بأي واحد من هذه الأسباب؛ إنه ليس بذلك الضجر الذي يمكن أن تقضي عليه بالانخراط في عمل جاد أو نشاط مسل؛ إنه ضجر يمتد لشهور وسنوات— ضجر عميق.
أحيانا، أكون منغمسا حتى الأذنين في نشاط خلاق، أو مجتمعا ببعض الأصدقاء، أو أكون متأملا لمنظر طبيعي، وفجأة أبدأ استشعر نوعا من الخواء يتسلل إلى روحي، إنه خواء ينزع عن الأشياء من حولك كل معنى وجاذبية؛ فيختزل، بذلك، قيمة الوجود إلى مستوى الصفر، ولا يعود عندئذ يهمك أي شيء آخر إلا إيجاد إجابة لسؤال: "ما المغزى من وجودي هنا في هذا العالم؟"
مرّ علي زمن كنت أجاري فيه الحياة في كل شيء، كنت أتأرجح بين هذه الرغبة وتلك، وأقفز من نزوة إلى أخرى، ولم أكن أعرف حتى بأن للضجر وجودا. وكيف كان لي أن اعرف بوجوده وأنا لم أنزل إلى أعماق الأشياء بعد ؟ ! إن الأشخاص الذين لا يضجرون هم بشكل بسيط مجرد أطفال مازالوا غارقين في البعد المادي للوجود ولم يبرحوا سطح الأشياء بعد.
أستطيع أن أقيس اليقظة الفلسفية لكل رجل من خلال موقفه من مشكلة الضجر؛ فكلما كان الرجل يعتبر الضجر معطى وجوديا لا فكاك منه، كلما أثبت بأنه رجل قد خَبَرَ الأشياء وعرف طبيعة الأمور. ولكن أغلب بني الإنسان لا يتفاجؤن من شيء آخر أكثر من تفاجئهم من وجود الضجر؛ إنهم لا يكفُّون في سلوكياتهم وأدبياتهم عن النظر إليه كخطأ في نمط العيش؛ فتراهم بذلك يهرولون لفعل أي شيء لتفاديه أو حتى قطع دابره. ولكن موقفا كهذا من الضجر ينم عن سذاجة ميتافيزيقية وأحكام مسبقة تتجلى في اعتقادنا بأن للحياة مضمونا أو معنى ما، فيما الحياة،على ما تبدي لنا التجارب، لا تتضمن أي معنى ولا تسير نحو أية وجهة. وعندما أشير إلى الحياة، فإنني أعني بها هذا التدفق الجارف من الرغبات الفوَّارة والدوافع العمياء التي تتابع وفق إيقاع سريع لا يترك للإنسان أي لحظة ليسترجع أنفاسه؛ فلا يخرج هذا الأخير من غمار رغبة ما حتى يجد نفسه ملزما بخوض غمار رغبة أخرى؛ ذلك أنه لا احد يستطيع أن يقيم في الفراغ الفاصل بين الدوافع والميول ـ إنه فراغ قاتل ولا تتحمله إلا نفوس قليلة.
في نسق وجودي كهذا، لا يمكن للإنسان إلا أن يكون حيوانا بئيسا يعيش حياة تأرجح لا يهدأ— تأرجح بين دفع الأهواء وجاذبية الأشياء؛ وحالما يهدأ كل هوى وتنطفئ كل رغبة يسقط هذا الإنسان في الفراغ المطلق للضجر.
ما من شك في أن كل إنسان يدب على هذه الأرض إلا و قد خبر تلك اللحظات التي يتوقف فيها كل شيء عن الحركة ويخضع العالم لجمود رهيب— وما من امرئ إلا و يعرف شيئا عن تلك الطريقة التي يتمظهر بها الزمن في أيام الآحاد أو في ما بعد ظهيرة يوم صيفي؛ فخلال لحظات زمنية كهذه، وهي نماذج مناسبة للتأمل والانعكاس على الذات، يستشعر المرء على نحو شديد الثقل الماحق للانهائية الزمن، ويسمع على نحو حاد التكتكة البطيئة لعقارب الساعة؛ إنني اتحدث هنا عن زمن يطبعه الضجر ويلفُّه الخواء وتنتفخ فيه كل ثانية إلى أن تصبح حدثا مستقلا بذاته؛ أما الدقائق والساعات فتصبح مسرحا لأهوال وعذابات لا تطاق.
عندما تتجمد الدقائق والساعات، ولا تعود الأيام تتقدم بأكثر من سرعة السلحفاة، كيف لا يمكن عندئذ للوجود أن لا يفقد كل معنى ومصداقية؟ و كيف، إذاً، لا يمكن للمرء أن يتساءل عن المغزى من كل هذا الركض وراء المثل والأهداف؟ وما الفائدة من البحث في هذا العالم عن كل تشكّل أو تغيير؟ إن هذه الأسئلة الحارقة هي ما يمثل الجانب الميتافيزيقي من الضجر، والإنطراح المفاجئ لها يكشف عن بعد آخر للحياة ما كنا لنستشعره من قبل: بُعدها السيزيفي. في بعد كهذا، يصبح الانتقال من يوم لآخر عملا عبوديا لا يحتمل، أما الحياة فتصبح دورة طويلة من الانتظار العبثي. هذا ما يمكن أن يختبره المرء في واضح النهار، أما عندما تغزوك مثل هذه الأحاسيس والأسئلة بالليل– حيث يكون المرء بمنأى عن صخب العالم وضوضاء البشر– فإن فعل الوجود في حد ذاته يأخذ بعدا مزدوجا يلامس فيه الشعور بالعجز عن مواصلة الانخراط في سخافات الحياة الإحساس بالعزلة المطلقة والتيه اللانهائي. إن المرء، هاهنا، ليجد نفسه وجها لوجه مع الزمن في صيغته الجافة، بحيث لم يعد على الإطلاق بذلك الفضاء المؤثث بالأهواء والمكاسب والطموحات ــ إنه لم يعد إلا حالة من الفراغ المطلق مطعَّمة بمشاعر اليأس والإحباط.
لطالما عرَّفنا الإنسان بأنه حيوان صانع، ولكن الإنسان لا يكون صانعا إلا لأنه يتوهم بأن لهذا العالم وجودا حقيقيا،إذ يكفيه فقط أن يحافظ على مسافة بينه وبين أشيائه ليرى بطلانها التام. إنه كائن حبيس أهوائه وتصوراته، ولو تسنى له أن يُعلِّق ميوله ونزواته لبعض الوقت، لكان بإمكانه أن يرى كيف سيتحول كل شيء إلى جماد. إن الحياة بكل مقوماتها الحسية والجمالية ما هي إلا نتاج لإفراطات الخيال وهذيانات الروح وتوترات الجسد. تعطيل مؤقت لغرائزنا يحول الحياة إلى حكاية مملة؛ وبدون حرارة الليبيدو يصبح العالم صقيعا مطلقا. وهذه هي قصتنا مع الحياة التي لا نتحملها إلا بقدر ما تفرزه قلوبنا وعقولنا من أشكال الشغف والهلوسة.
الوجود عارِِ، والإنسان لا يمكنه أن يستمر بدون مكاسب مادية أو طموحات مستقبلية؛ فهذه الأخيرة هي ما يشكل ديكور الحياة. ويكفي القليل من اليقظة الميتافيزيقية ليستيقظ المرء من سباته الأونطولوجي فيطلع على وضعه الوجودي الحقيقي: العراء. ولهذا السبب، لا تجد إنسانا واحدا على وجه هذه الأرض لا يعانق فكرة أو مثالا ما. فنحن نؤمن بالعالم الخارجي حتى ننسى عالمنا الداخلي ـ أي ذواتنا. هكذا تجدنا ننغمس في الأعمال ونكرس كل جهودنا وطاقاتنا في تشييد الصروح وإقامة الآلهة ــ وكل هذا لأجل شيء واحد: قتل الوقت.
لا شيء أثقل على قلب الإنسان من عطلة مطلقة يعيشها بلا متع ولا تسليات ولا حتى بعض المشاكل والمشاغل؛ وإن كان لكلمة الجحيم من معنى فهو عندما تفقد الحياة تأثيرها الإيروتيكي فتتحول إلى أرض جدباء يدب عليها كائن فارغ من كل هوى واندهاش ـــ وهذا الكائن نسميه في لغتنا الأدبية بالإنسان الضجور. ولأجل هذه الاعتبارات، أجد نفسي دائما منجذبا إلى معشر الكسالى والعاطلين؛ فهؤلاء يعرفون أسرارا وجودية لا يعرفها المنشغلون من أصحاب الجهد والكد أو المخدَّرون بالمطامح والمطامع. فكونهم لا يتوفرون على وظيفة يشغلونها وتشغلهم، تجدهم يدخلون في حوار مباشر مع الأشياء؛ وهذا يمكّنهم من تأمل التدفق الرتيب للزمن والانشغال المرضي —لأشباههم من البشر— بشؤون الحياة. من بين بني الإنسان جميعا، وحده الشخص الكسول الذي لا يزال بريئا؛ فإحجامه عن فعل كل خير أو شر، ورفضه الانغماس في غيبوبة الحياة العملية، يوفر عليه التورط في جريمة قتل الوقت أو الهروب من مواجهة الذات. وموقفه الفلسفي،هذا، من الأشياء مكنه من تبوأ مكانة المتفرج الكوني على سخافات البشر، وجعله المراقب الأعلى لتمظهرات الخواء واللاّجدوى في حياة كل واحد منا.
وإذا كان زملاؤنا من أصحاب الفلسفة الوجودية يعتبرون الضجر كوعي بالانفصال الجارح للكائن عن الكينونة في شموليتها، فإن النسّاك والزهاد من أباء الصحراء (Desert Fathers) كانوا يعتبرونه الطريق التي تؤدي مباشرة نحو الشيطان. ففي الوقت الذي يكون الناسك يقضي فيه دورة الزمن بين صوم بالنهار وصلاة بالليل، كانت، بين الحين و الآخر، تتسلل إلى قلبه أحاسيس وهواجس يمتزج فيها الكلل بالملل، والإحباط وعدم الرضى باليأس... ولطالما صورنا الناسك في لوحاتنا الفنية ينظر من نافذة صومعته إلى العالم الخارجي وكأنه يترقب مجيء أحدهم. إنها لحظات شك يُسائل فيها الناسك مغزى عزلته في قلب الصحراء؛ وهي أيضا لحظات غواية، فالإسكندرية بصخبها ومفاتنها لا تبعد عنه إلا مسافة يوم سيرا على الأقدام.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - مقال رائع
magdi zakaria ( 2012 / 4 / 16 - 20:02 )
مقالك رائع استاذ ابراهيم هيبه
الضجر هو مرض العصر
هل تعتقد ان الحياة المعاصره هى الحياة الحقيقيه
هل تعتقد ان الذين يعملون فى المزارع يشتغلون فى الارض يربون الحيوانات والطيور
حولهم الكلاب والقطط يضجرون
الذين يعملون فى حدائق الفاكهة ويغرسون الازهار والورود يضجرون
لقد ابتعدنا عن الارض والحياة الحقيقيه لذلك نحن اشخاص نعيش بميول انتحاريه لاننا لانعرف كيف نعيش.


2 - الطبيعه لاتحتمل ذلك
منجى بن على ( 2012 / 4 / 17 - 08:27 )
كالعاده يتحفنا السيد ابراهيم بقدرته الكبير على التلاعب بالالفاض وتركيب جمل منمقه وجميله ولكنها مجرد خواء ...فاى عاقل يقول بان الكسالا والعاطلين(اى الفاشلين)يعرفون اسرار الوجود!!؟؟ فلو كان الامر كذلك اذا ما الفائده من العلم والتعليم؟وما الفائده من العمل والاجتهاد؟وما الفائده من البحت العلمى ؟وملايين المصانع التى تنتج كل شى؟وما الفائده من الكمبيوتر والنت الذى اتاح لنا فرص التلاقى والكتابه وحرية التعبير؟علينا ان نرمى كل ذلك ونجلس كالكسالا وسوف نكتشف كل شى وبكل سهوله...انه اكتشاف خطير ورائع لم يكتشفه احد من قبل
ان تكتب خواطر وافكار غامضه وتدخل فى متاهات لانهايه لها يكون كل ذلك مقبول لان العالم يحتمل المزيد ولكن ان تدخل فى دعوه مفتوح للانغماس فى الفشل فهذا امر لاتتحمله الطبيعه ولن توافق عليه ابدا...والطبيعه لايوجد لديها اعادة تدوير ما صنعته لانها مجرد نظام عشوائى خليط بين الفوضى والنظام الا انها تنظر للاشياء السيئة الصنع وهى تموت ببط ويحدث كل ذلك دون شفقه او رحمه

اخر الافلام

.. بعد قضية -طفل شبرا- الصادمة بمصر.. إليكم ما نعرفه عن -الدارك


.. رئيسي: صمود الحراك الجامعي الغربي سيخلق حالة من الردع الفعال




.. بايدن يتهم الهند واليابان برهاب الأجانب.. فما ردهما؟


.. -كمبيوتر عملاق- يتنبأ بموعد انقراض البشرية: الأرض لن تكون صا




.. آلاف الفلسطينيين يغادرون أطراف رفح باتجاه مناطق في وسط غزة