الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


خواطر غير سياسيه

حامد حمودي عباس

2012 / 4 / 24
المجتمع المدني


من فوق عرشي المطل على شارع طالما عشت فيه شبابي ، كنت احتسي قدح الشاي المعفر برائحة الهيل في مقهى هي الوحيدة التي بقيت لا تشكو من الهرم ، ولم تصب جدرانها بمرض الزهايمر ، فتبدو ذاكرتها وكأنها شعلة زيتها لا ينضب .. كل الوجوه من حولي غريبه ، ولم يتبرع أحد من رواد تلك المقهى بالنظر الى زاويتي التي اجلس فيها ، فكان ذلك مدعاة لفرحي بوحدتي الجميله .
فيروز تقاوم نعاسها ، وهي لا زالت تنتظرقمرها البعيد فوق سطح الدار، لتتلقفه قبل ان تحضى به جارتها فتهديه لحبيبها المفقود ، صوتها كان يتهادى نحوي من مكان لم استطع تحديده .. أحدهم يسعل بتكرار مزعج فيشوه الالوان التي أحاول فرشها على لوحة خيالي ، كنت اتمنى ان يختاره عزرائيل في تلك اللحظة ، كي انعم ولو لدقائق بمملكتي قبل ان يزيحني متطفل عنها .
الحاضرون كانوا جميعا يحملون وجوها غابت عنها معالم الفرح ، وثمة بلبل يبدو لي نحيف الجسم ، يتراقص بقلق داخل سجنه المعلق على صفحة جدار ضاع لون طلائه .. نادل المقهى يبالغ بالتردد على طاولتي لعرض خدماته ، فتضيع من سجل مخيلتي صور اردت لها ان تبقى .. الشارع كان يلهث من شدة الحر ، فدرجات الحرارة لا تريد ان ترحم من يتحرك في محيطها وباصرار تعلمته من الشرق ، حين يصار الى الاختيار بين الخير والشر ..
كم تمنيت أن استطيع الجري كذلك الطفل ، انه يطفو فوق الرصيف المقابل وبحركة لولبية حره ، يزيح من أمامه ركامات العقد البشرية المهوله .. ترى ما الحيف في أن أنط من مكاني لأصاحب الطفل المتمرد هذا فافعل ما يفعله دون خوف من سوط منتقد ؟ .. ما الضير في ان ارتدي بنطالا قصيرا كما يرتدي ؟ .. واحمل في يدي كيسا من اللب .. ما المانع مثلا أن أقف ممازحا ابنتي وهي تداعب بلسانها علبة آيس كريم تحت شجرة التوت الضخمة تلك ؟ ..
لقد أشبعنا ورق الدنيا كتابة في السياسه ، فليس في الدنيا كلها من يبرع كما نبرع بالكتابة فيها على الاطلاق .. طفنا فيها درسا وتحليلا واستنباطا وعراك ، غير ان أحدا منا لم يدر في خلده ، الا القليل ، ان يشغل باله في توضيح مدى الضير بأن يكون رفيقا لي ذلك الصبي ، أنزع معه وقاري المتسلط ، لأريح عضلات جسمي من التشنج ، واكسب رئتي سعة اكبر حين اطرد عنها ما خزنته من ريح فاسده طوال سنين عمري الماضيه ؟ ... ما الذي يخسره ديني وطبعي ، ويلوث نواميس أجدادي لو ألقيت بجسدي في نهر من انهار بلادي ، حرا طليقا لا تحرسني آلهة العيب ، ولا يحيط بي بوليس الاداب ؟ .. ما الذي يجعل الرقيب أو العتيد غاضبين مني لو تشقلبت على ارض حديقة عامه في عطلة الاسبوع ، ومعي افراد اسرتي لنقضي ساعة من راحه ؟ ..
انني اتذكر باستمرار ، كيف كنت وانا اجول في غياهب الصحراء ، حين كنت اعمل في حقول حفر الابار ، اوقف سيارتي فوق تلة ما ، ثم اهبط منها لابدأ بالصراخ ما استطعت من قوه ، احمل حجرا وارميه ما استطعت من قوه ، اجري منحدرا من التلة ما استطعت من قوه .. انها لحظات اشعر فيها بأنني انتقم من ملل رافقني طيلة زمني المقرف ، الزمن الذي حملت فيه كل موبقات الخدر العربي منذ كان لجنسي ان يوجد .. أصرخ .. أصرخ .. انادي من كنت احبها في باكورة مراهقتي .. اشتم الحكومة باعلى صوتي .. ادلق ما تحتويه حافظتي من ماء على رأسي بطريقة عابثه .. اجري وكأنني سوف لن اعود قبل ان اصل الى نهاية ذلك العالم المفتوح على مصراعيه ، حتى اشعر بخطر الابتعاد عن السياره فتهاجمني وحوش الصحراء ، حينها اتوقف .. وعندما اعود لسيارتي ، اشعر بخفة في وزني ، ورأسي أكثر استقرارا على جسدي .. اتنفس عطر الصحراء ، وتلتمع على امتداد نظري الوان كالوان قوس قزح ، تعكسها حصى البيداء الجميله بلا مصدات أو جدران من خرسانات المدن .
- اقرأ صحيفة ال ... ففيها تحقيق عن جرائم السحاق في تركيا ..
قال بائع الصحف وهو يدنو مني، مدركا ما يحمله الخبر من عار ، وان عليه اخباري بالمصيبة وبصوت منخفض .
لم ارد .. ولم اقتني الصحيفه .. وداخلي يهتف ، لا عار ولا سحاق كما هو لدينا حين تفترش ارواحنا توابيت الموت ونحن أحياء ، ويفتخر أخيارنا باعداد قبورهم ليوم سيطمرون داخلها بلا رجعه ، تأكل الديدان حدقات عيونهم ، وتنخر في انوفهم ، وتبعثر ما في رؤوسهم من خواء .

الطفل الصغير لا زال يمارس عبثه امامي ، يهاجمه رذاذ تراب العربات الماره .. انه كافر حتما بكل الطقوس المقدسه .. والا لما ترك لنفسه حرية التصرف هكذا وبلا حواجز .

- ما هذا الضجيج ؟ .. ماذا حدث ؟ .. سألت النادل عن مصدر أصوات طبول وهتافات ضاعت فيها مخارج الحروف .
التفت الي نادل المقهى ليجيبني بتثاقل :
- ابقى مستريحا سيدي .. انها مظاهره .
كدت ان انهض من مكاني لمعرفة ما يحصل ، لولا ملاحظتي بان الجميع من حولي لم يأبهوا بما يسمعون ، وضلوا في اماكنهم مستقرين .. كان الشارع تختلط فيه حركة المارة مع السيارات وبشكل مضطرب كلما اقترب الهرج .. وخلال لحظات .. حلت بالمكان فوضى عامه .. تطايرت أكياس البلاستك في الفضاء ، وغطت موجة من الغبار محيط المقهى بكثافة عاليه ، وتلاطمت الاصوات مطالبة بالقصاص من مروجي الفتن ، أعداء الدين وفلسطين، والمتسببين بهدر الكرامة العربيه ، واعتلى شاب اكتاف رفاقه ليطيح بيديه وصوته بالمخبول أوباما ، متوعدا اياه بالويل على يد الاحرار .. في حين تقدمت الجموع لافتات كثيرة كتب على احداها ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ورباط الخيل ) ..
غاب الهرج .. تاركا خلفه اختلاط كل شيء ببعضه في الشارع .. وعبثا حاولت العثور على الطفل المتمرد ، حيث اختفى ولم اعد أراه ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - طرقت الباب فى الوقت المناسب
فاتن واصل ( 2012 / 4 / 24 - 19:58 )
الاستاذ الفاضل حامد ، أؤكد لك أن جميعنا يحتاج لهذه الاستراحة فقد أنهكتنا عواصف وزوابع الربيع العربى الكارثية والتى أتت بكل مشاكل مجتمعاتنا الى السطح ولم تجد لها حلا بل رمتها فى قارعة طريق حياتنا بعد ان بتنا العمر كله نخبئها ولا نواجهها .. منهم لله ، اليوم أنت طرقت بابا يفتح على جنة نطلق فيها العنان لبعض من الحلم الذى ضاع فى زحام الأتربة والصراخ .. حلم بالراحة ببعض الهدوء ، حلم حتى بامكانية الاستسلام ، حلم بأن نرخى ذراعينا بلا اكتراث ونطلق البصر فى ثرثرة مع اللاشئ دون مقاطعة ، ان ننصت لنغمات تسيل مع كلمات يشدو بها صوت ساحر كصوت سيلين ديون .. لكن هيهات لو نستطيع الخروج من دوامة الاعصار ، فهناك الكثير الذى يشتبك بأطرافنا ويثقل حلم الانطلاق والصمت .. أتمنى لك أن تعثر على الطفل المتمرد مرة أخرى دون أن يقطع حلمك إلحاح النادل أو غبار الصراخ.


2 - الاحساس بالتعب احيانا نعمه
حامد حمودي عباس ( 2012 / 4 / 24 - 21:33 )
سيدتي فاتن مع فائق تقديري .. الاحساس بالتعب احيانا نعمه .. فهو مدعاة لانطلاق الأحاسيس على سجيتها لتفصح عن مكنونات الجسد والروح ، فانا شخصيا اشعر بقدسية أن اختلق لي مسرحا اعتبره جنتي الخاصة ولو بالخيال ، واطلق من خلاله مكنونات جسدي وروحي معا لكي اقول ما اريد ، وصدقيني انني اكون بافضل حالات عطائي عندما احس بالظلم .. وصيتي لك بان تتعبدي منفردة في سماع الرائعه سيلين ديون ، ولا تنسي ابدا بان ما نطأه على الارض هو لكثير من حور العين كما قال الشاعر الكبير .. امنياتي لك بصفاء الوقت ودمت سعيده


3 - إستراحة المحارب
الحكيم البابلي ( 2012 / 4 / 24 - 23:43 )
القريب من القلب صديقي حامد حمودي عباس
أجدني قريباً جداً من الحوار بينك وبين زميلتنا فاتن واصل
شخصياً أفرض -إستراحة المحارب- على نفسي أحياناً ، وتصل هذه الإستراحة بيَ لدرجة رفض حلاقة وجهي لأيام أحياناً ، وأنقطع عن القراءة والكتابة ورؤية الوجوه التي أراها كل يوم أو يومين لأصدقاء أو أقارب ومعارف ، وقد أرفض الإجابة على التلفون ، ورغم إنني متقاعد وحياتي سهلة وممتعة وليس فيها منغصات ، لكن أشد ما ينغص عليَ حياتي هو السياسة وما تؤول إليه من إنحدارات حادة في العراق أو في البلدان الشرقية التي أصبحت أحداثها تهمنا كما يهمنا العراق ومحنهِ ومآسيه

أعتقد إنها حالة من اليأس والإستسلام ، لكنهما مؤقتتان حتماً ، فليس بيننا من سيستسلم على طول الخط ، كوننا لسنا من هذا المعدن المتخاذل ، لكن ... دعنا نسميها كما قلتُ -إستراحة المحارب- ، ولا تنسى أن الجلوس في المقهى ومراقبة الناس والإستسلام لأحلام كسولة على نغيمات أغنية جميلة هي ترف شرقي من نوع خاص يجب أن نمارسه بين حين وآخر ، فليس المفروض بالسياسة أن تكون كل ما في حياتنا من إهتمامات ، وكما قال المسيح -ليس في الخبز وحده يحيا الإنسان- ، ولن
تحياتي لكما


4 - ياريت
حامد حمودي عباس ( 2012 / 4 / 25 - 07:25 )
اخي الحكيم
ياريت .. احسدك على فنك في خلق استراحة المحارب ، هنا حيث انا ، استراحة المحارب ما ان تأتي بالكاد ، حتى يسرقها منك من يصرخ في محيطك بما يعيدك الى ايام حرب البسوس .. تحياتي وامنياتي ان تبقى ايامك كلها سعادة وسط الكفار


5 - عزيزي الأستاذ حامد حمودي عباس
ليندا كبرييل ( 2012 / 4 / 25 - 15:07 )
الفارق بيننا وبين الغربيين أنهم وضعوا أسس السياسة وشكلوها وصدروا مبادئها لنا ، أما نحن فالسياسة شكّلتنا ، ما اجتمع عربيان إلا وكانت السياسة ثاثهما
هنا ، وفي معظم مقالاتك لغتك تجري بين الحقول والمراعي الخضراء والبساتين وهي تحدثنا عن السياسة .. والسلام عليك
نسيت أن أقول تحدثنا عن السياسة ونحن نسمع فيروز أو الغزال ناظم ، ابن بلدك العظيم ( صفة العظيم تحتمل أن تكون للغزالي وللعراق ) مع التقدير
وشكراً


6 - أهلا ليندا
حامد حمودي عباس ( 2012 / 4 / 25 - 18:27 )
دعيها بلا القاب ولنتركها صافية كما هي .. ناديني باسمي هكذا حاف فان ذلك سيكون اجمل من غزالة هي حرة طليقة تمرح وتفرح كما تشاء .. اشكرك على احاسيسك الحلوه ، وياريت استطيع البقاء وسط حقول خضراء اطارد الملل ولا يطاردني .. ابقي سعيدة ولا يدخل قلبك الحزن ، مع تحياتي

اخر الافلام

.. الأونروا تحذر من استمرار توقف دخول المساعدات من معبر رفح


.. تونس...منظمة مناهضة التعذيب تحذر من تدهور الوضع الصحي داخل ا




.. الأونروا مصممة على البقاء..والوضع أصبح كارثي بعد غلق معبر رف


.. كلمة أخيرة - الأونروا: رفح أصبحت مخيمات.. والفلسطينيين نزحوا




.. العضوية الكاملة.. آمال فلسطين معقودة على جمعية الأمم المتحدة