الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استشارة كانطية - الاحترام والقداسة : وحدها الشخصية الإنسانية مقدسة !

فتحي المسكيني

2012 / 4 / 26
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع



لا يمكن لنا أن نخضع لقانون أخلاقي لا نحترمه. ولذلك يفرّق كانط بين الشعور "الانفعالي" (الباثولوجي) وبين الشعور "العملي". إنّ الاحترام شعور أخلاقي عملي وليس انفعالا. يمكن أن ننفعل أمام الطبيعة لكننا لا نحترمها. إذ "يوجّه الاحترام دائما نحو الأشخاص فقط، وليس أبدا نحو الأشياء" . لماذا ؟ - لأنّ هذا الشعور الفريد هو "منتَج من العقل وحده" . قد لا يخلو الاحترام من شكل من "الانحناء"، وإن كان يُقال بأنّ الجسد ينحني لكن الروح لا تنحني. لكنّ كانط يذهب إلى حدّ القبول بانحناء الروح ولكن فقط أمام من قد أجد لديه "قانونا يبطش بغروري" و"يذلّ دائما كبريائي"، حيث أنّ "الاحترام ضريبة لا نستطيع أن نرفض دفعها للفضيلة شئنا أم أبينا" . لكنّ الاحترام لا يخلو من شيء من "اللذة" وإن كانت زهيدة. هي لذة "تأمّل عظمة القانون" الأخلاقي الذي تصوّره العقل البشري من ذات نفسه. هنا يلمّح كانط إلى نوع المقدّس الذي يمكن لنا أن نحترمه: إنّ العقل البشري لا يحترم إلاّ "قانون القداسة" الذي يسنّه بنفسه. ولكن لأنّ القداسة ليست مطلبا بشريا، فإنّ كانط يضع مكانه تقنية "الواجب". فليس الواجب سوى تقنية القداسة التي على قياس الطبيعة البشرية. قال كانط: "إنّ القانون الأخلاقي هو بالنسبة إلى إرادة كائن كلي الكمال قانون القداسة، لكنه بالنسبة إلى كلّ كائن عاقل مخلوق قانون الواجب" . والشيء المثير هو هذا: "سوف تعتقد النفس أنها قادرة على التعالي بقدر ما ترى كم يسمو القانون المقدّس عليها وعلى طبيعتها الواهنة" . لذلك فالرجاء هو فنّ احترام من نوع مخصوص لأنّه لا يتهيّب سلطة خارجة عنه بل هو يصدر عن "تهيّب أمام واجبه".
لم تُجعل القداسة كي نقدّسها بل من أجل أن تكون نموذجا أخلاقيا للعقل البشري. لذلك لا يمكن لأحد أن يستعمل القداسة كتقنية شخصية أو "نوع من السلوك اعتدنا أن نحبّذه من عندنا أو يمكن أن يروق لنا في المستقبل- كما لو أنه باستطاعتنا في يوم من الأيام أن نصل إلى نقطة يمكننا، انطلاقا منها، ...أن نسمو بأنفسنا، مثل الألوهة المتسامية فوق كل تبعية، فنحوز قداسة الإرادة باتفاق الإرادة مع القانون الأخلاقي المحض، فيصبح وكأنه طبيعتنا" . ليست القداسة، كما مثلا "وصايا الإنجيل"، غير النموذج الأخلاقي الذي لا يمكن لأحد من المخلوقات أن يبلغ إليه. "لكنه يبقى ع ذلك النموذج الأول الذي علينا أن نسعى نحو الاقتراب منه والتشبّه به بتقدّم لا ينقطع ولكن لا نهاية له" .
ما قصد إليه كانط هو استبطان حالة الخوف أو التوجّس من المقدّس المفارق وتحويلها إلى آلة متعالية تعمل في شكل شعور مهيب من الاحترام لما شرّعه العقل البشري لنفسه انطلاقا من طبيعته. كيف نحرّر الخوف من سلبيته، أي من تبعيّته إلى مخيف منفصل عنه في عالم آخر ؟ - الجواب هو: بتحويل الخوف إلى شعور باطني بالاحترام المحض الذي لا ينتظر شيئا إلاّ من ذاته. هذا هو ما يسميه كانط "المسلمة الحقيقية الأخلاقية لسلوكنا التي تليق بمنزلتنا بين الكائنات العاقلة" . لا يليق بالإنسانية أن تبني رجاءها على الخوف أو على الخضوع لسلطة خارجة عن طبيعتها. ولكن كانط يؤكد في المقابل أنّه لا يليق بنا أيضا أن نطمع في مرتبة القداسة. إنّ الأخلاق تصبح باطلة ما إن نرفع الفضيلة (أي الجهاد من أجل الاستقامة) إلى رتبة القداسة (أي امتلاك النقاء التام للنية) . إنّ "الحماس الأخلاقي" شبيه كبير بـ"الحماس الديني". وهو لا يمكن أن يؤدي إلاّ إلى "التحريض على الوهم" والامتثال لدوافع "باثولوجية" . كلّ حماس هو "تخطّ لحدود العقل البشري" ناجم عن نوع من "التكبّر" على طبيعتنا البشرية.
إنّ فكرة الواجب هي تقنية تحطيم التكبّر على الإنسانية باسم أيّ هيئة أخلاقية خارجة عن أفق عقولنا. وهو مطلب لا يتوضح حقا إلاّ إذا أخذنا معنى كوننا "أشخاصا" ولسنا "أشياءً" مأخذ الجد: لا يمكن للبشر أن يكفّ عن معاملة نفسه بوصفه مجرد شيء أو وسيلة إلاّ إذا عثر على الأمر الذي "يرفع الإنسان أعلى من نفسه"؛ وهذا الأمر "ليس سوى الشخصية، أي الحرية والاستقلالية عن آلية الطبيعة برمتها" . كلّ رجاء هو مشكل شخصي، أي قدرة على معاملة أنفسنا كأشخاص، أي ككائنات هي غاية في ذاتها وليس مجرد وسائل.
وإنّه في هذا المقام فقط يمكن أن نحكم على قيمة الإنسانية بأنّها مقدسة. "صحيح أنّ الإنسان ليس مقدّسا بما يكفي، إلا أنّ الإنسانية في شخصه يجب أن تكون مقدسة بالنسبة إليه" . وليس التقديس في أفق البشر غير الإقرار بأنّه "وحده الإنسان، ومعه كل مخلوق عاقل، هو غاية في ذاته"، وليس ذلك غير المحافظة "على البشرية في كرامتها الخاصة في شخصه" . كذا على يدي كانط يتحوّل الاختراع التوحيدي للشخص "الآدمي" (من خلال فكرة "أنّ آدم هو على صورة الربّ") إلى أساس فلسفي لتقديس "الإنسان" نفسه من خلال "فكرة الشخصية" باعتبارها من نفسها "موقظة للاحترام" و"تضع أمام أعيننا سموّ طبيعتنا" .
وهكذا بدلا من "نقد الدين" يقترح كانط أن نعيد تأسيس المساحة الأخلاقية في أنفسنا بواسطة تملّك داخلي وكلّي للمكاسب المعيارية للأديان التوحيدية، وبخاصة مكسب "الكرامة". وإنّه لذو دلالة حقا أنّ كانط لم يجد من مثل أعلى أخلاقي يجدر بنا الدفاع عنه كبشر إلاّ فكرة الواجب؛ ولكن أليس الواجب، "ما يجب أن يكون" كعنوان رائع على ميدان "التعالي" بعامة، هو الاختراع الأخلاقي والوجودي الفذّ للإنسان التوحيدي ؟ بل هو لازال يعوّل على نفس تقنيات الخلقية التوحيدية في أدق صورها، من قبيل "احتقار الحياة" بحيث "لا شأن لعظة الواجب في الاستماع بالحياة" و"الخجل أمام النفس" و"محاسبة النفس" ورفض "الانتحار" و"الأنانية " و"الرضا عن النفس" و"الغرور" و"السموّ" عن كل ما هو شهوة ورغبة جسدية أو شعور "باثولوجي" وتحطيم "كلّ تكبّر" و "كلّ حب للذات " وتركيز الأخلاق على "وجودنا ما فوق الحسي الخاص بنا" والطموح إلى "القيمة فوق الحيوانية البحتة" ...
فهذه كلها تقنيات رجاء لا يحتاج فيها البشر إلى أكثر من عقولهم حتى يتملّكوا كلّ المكاسب الوجودية والأخلاقية التي تحتوي عليها، من دون أي حاجة "سلفية" إلى احتقار أنفسهم بوصفهم كائنات قاصرة أخلاقيا أو تابعة إيمانيا لهذه المرجعية أو تلك. إنّ الرجاء حرّ أو لا يكون. وهذا هو معنى أنّ الإنسان لئن لم يكن مقدّسا فهو أقدس شيء على الأرض، ومن ثمّ فإنّ قلبه هو هيكل كل قداسة يمكن أن يعبدها أو يرفعها أمام عينيه. وفي هذا لا يحتاج إلى أئمّة إلاّ عرضاً...قال المعري: "أيّها الغرّ إن حبيت بعقل........ فاعبدنّه فكل عقل نبيّ !!! "....








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مشهد مرعب يظهر ما حدث لشاحنة حاولت عبور نهر جارف في كينيا


.. شبح كورونا.. -أسترازينيكا- تعترف بآثار جانبية للقاحها | #الظ




.. تسبب الحريق في مقتله.. مسن مخمور يشعل النار في قاعة رقص في #


.. شاهد| كاميرا أمنية توثق عملية الطعن التي نفذها السائح التركي




.. الموت يهدد مرضى الفشل الكلوي بعد تدمير الاحتلال بمنى غسيل ال