الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


استشارات كانطية - الرجاء الديني والكرامة الإنسانية

فتحي المسكيني

2012 / 4 / 29
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع


ينبّهنا كانط إلى أنّ "العقل المستنير" إذا قصر همّه على طلب المتعة والسعادة فهو ينتهي لا محالة إلى السقوط في ما سماه أفلاطون "الميزولوجيا"، أي "كراهية العقل" . ذلك بأنّ الهدف من "ثقافة العقل" ليس السعادة بل غاية من نوع آخر. قد تكون محبة النوع البشري. لكنّ وصايا الكتاب المقدس بمحبة الجار لا ينبغي أن تُفهَم في معنى "الحب الانفعالي"، حب المتعة، بل "الحب العملي" ، أي حب الإرادة الحرة التي هي "طيّبة" بقرار خاص وليس في مقابل أيّ ضرب من الثواب. إنّ الرهان الفلسفي هنا هو التوكيد على أنّه ليس من طريق آخر لدفع كائن بشري على الشعور بأيّ نوع من المحبة تجاه نفسه أو غيره سوى "العقل المشترك بين البشر" .
وعلى عكس كل الذين "تحدثوا والحزن يملأ أفئدتهم عن ضعف الطبيعة البشرية وعدم صفائها"، ينبّه كانط إلى أنّ طبيعة بشرية استطاعت أن تبني فكرة "الواجب" المحض إزاء الإنسانية كافة هي جديرة بالاحترام . وذلك بدلا من القفز خارج أفق الإنسان بحثا عن مثل أعلى لسلوكنا، يؤكد كانط "أنّ قديس الإنجيل نفسه ينبغي أن يُقارن بالمثال الذي لدينا عن الكمال الخلقي قبل أن نصفه بأنّه كذلك" . "لدينا" أي بما يوافق طبيعتنا البشرية لا غير. إنّ "تصوّر الله بوصفه الخير الأسمى...لم يأتنا إلا من الفكرة التي يرسمها العقل قبليًّا عن الكمال الخلقي ويربطها بتصوّر إرادة حرة ربطا لا انفصام له" . هل يعني ذلك قياس الإلهي على الإنساني ؟ - كلاّ، بل إنّ كانط يؤكد أنّه "ينبغي للقوانين الأخلاقية أن تكون صالحة لكل كائن عاقل على الإطلاق" ، وليس للكائن البشري فحسب. إلاّ أنّ كانط يستثني الإرادة الإلهية والإرادة المقدسة : إذ "أنّ فعل يجب يكون هنا في غير مكانه الصحيح، لأن فعل الإرادة يتفق من تلقاء ذاته ضروريا مع القانون" . وعلى ذلك فهذا الاستثناء يخفي موقفا أخطر: إنّه الحرص الفلسفي على الوقوف عند عتبة الإنسانية وطرح المشاكل وحلها في حدود تلك العتبة بشكل قطعي. رغم الإقرار بأنّه "من المستحيل على كائن متناه وإن ظن نفسه أنه أحكم المخلوقات وأشدها قوة، أن يكوّن فكرة محددة عما يريده على وجه الدقة من وجوده على هذه الأرض" . ما هو الحل ؟
الحل هو أن نترك للإنسان حرية استعمال طبيعته إلى أقصى المستطاع الأخلاقي الذي تنطوي عليه، وذلك باعتبار أنّ الطبيعة البشرية هي جهاز المعنى الوحيد الذي بحوزتنا. وما نسميها "قوانين أخلاقية" هي لا تعدو أن تكون "مسلمات ذاتية" أردنا لها بشكل حر أن تصبح "قوانين كونية" لكل كائن عاقل في الكون. هنا نقف على فكرة جليلة: ليس الإنسان هو الذي يشرّع للكائنات العاقلة الأخرى، بل إنّ أخلاقنا لا تصلح لأن تكون "قانونا صالحا لكل إرادة إنسانية" إلاّ من أجل أنّها تشير إلى واجب "ينبغي أن يكون صالحا لكل الكائنات العاقلة" التي مثلنا.
ويعترف كانط بأن" الفلسفة هنا في موقف عصيب...لا تجد في الأرض ولا في السماء ما تتعلق به أو تستند إليه" . الفلسفة تعني هنا الجهة الحارسة لقوانين العقل البشري. ولكن ممّاذا ؟ - من "تعب" العقل الإنساني وميله الدائم إلى العثور على "مخدة" تريحه من مسئولية التشريع الكوني الحر للكائنات العاقلة بإطلاق. وهو سرعان ما يعثر على تلك المخدة في انفعالاته و أوهامه. ولذلك فإنّ أصعب ما يعترض الفلسفة هو أن تثبت وجود شيء له "قيمة مطلقة" لا يمكن التفاوض حولها مع أي سلطة مهما كانت. ولم يجد كانط من شيء له قيمة مطلقة إلاّ "كرامة" الإنسان نفسه. ما معنى ذلك ؟
إنّ أوّل شرط لفكرة الكرامة هو الإقرار بأنّ " الإنسان وكل كائن عاقل بوجه عام يوجد كهدف في ذاته لا كمجرد وسيلة يمكن لهذه الإرادة أو تلك أن تستخدمها على هواها" . ومن ثمّ ليس لأيّ "أشياء" طبيعية كرامة، أي قيمة مطلقة، بل لها قيمة نسبية، ومن ثم هي مجرد "وسائل": هنا علينا أن نأخذ التفريق بين "الأشياء" و"الأشخاص" مأخذ الجد: لا يزال كانط هنا يفكّر في نطاق النموذج التوحيدي للتسخير. ولم تغيّر الحداثة من هذا المعنى الأخلاقي شيئا.
لكنّ كانط أراد أن يحوّل فكرة الكرامة التوحيدية هذه ليس فقط إلى قانون كوني لكل الكائنات العاقلة، بل إلى آلة منهجية لتخريج معنى الرجاء بشكل لا يخرج عن حدود الطبيعة البشرية. إذ بدلا من النظر إلى كرامة الإنسان بوصفها "نعمة" ناجمة عن نوع من "التكريم" الإلهي، هو قد قصد إلى تحويل فكرة الكرامة إلى سند متعال كامن في طبيعة الكائنات العاقلة يجعلها تستحق من ذاتها أن تُعامل بوصفها "غايات في ذاتها" وليس "كمجرد وسائل". ما كانت نعمة دينية تحوّل مع كانط إلى استحقاق أخلاقي خاص بنوع الكائنات العاقلة. إنّ الدليل الكبير الذي يرفعه كانط هنا هو أنّ: "الإنسان ليس شيئا" ومن ثمّ أنّه ليس "وسيلة" لأيّ هدف يتخطى أفق عقله أو شعوره، مهما كان هذا الهدف ساميا.
و"يتجلى عندئذ أن الذي يدوس على حقوق الناس إنما يقصد إلى استخدام أشخاصهم كما لو كانت مجرد وسيلة فحسب، دون أن يضع في حسابه أنهم، بصفتهم كائنات عاقلة، ينبغي أن يعدوا دائما في نفس الوقت غايات، أي كائنات لابد أن يكون في مقدورها أن تحتوي في ذاتها على الهدف من هذا الفعل ذاته" .
ولكن ما المغزى من التأكيد المتكرر على أنّ "الإنسانية" غاية في ذاتها ؟ - لا يقتصر الأمر على مجرد نزعة إنسانوية، بل ثمة ما هو أكثر خطرا. إنّ قصد كانط هو تنزيل الإنسانية منزلة لا يمكن معها لأيّ كائن آخر، ولو كان الإله التوحيدي، أن يستعمل الإنسان لأي غرض كان. ليس الإنسان للاستعمال، لأنّه غاية في ذاته، وذلك حتى ولو كان المستعمل هو الشخص نفسه: إنّ "الانتحار" الشخصي هو استعمال للإنسان كمجرد وسيلة، وليس ككائن له قيمة مطلقة. وكل من ينجح في معاملة نفسه كغاية في ذاتها هو قد أخذ يشرّع لكل الكائنات العاقلة لأنّها مثله غايات في ذاتها. التشريع هو قرار كوني لا تستطيعه إلاّ الكائنات التي تنظر إلى نفسها بوصفها غايات في ذاتها، أي لها كرامة، وقيمة مطلقة غير قابلة للتفاوض مع أي سلطة كانت. وهذا هو معنى "الاستقلال" الذاتي : ألاّ يخضع العاقل الحر إلاّ لتشريعه النابع من ذاته، وبقدر ما ينبع من ذاته بشكل طبيعي هو يكون كونيا، من أجل أنّ الطبيعة العاقلة هي هي لدى كل كائن عاقل.
إنّ النتيجة الكبرى هنا هو أنّ كل شخص ليس له كرامة إلاّ بقدر ما يستقل بذاته عن أي إرادة غريبة عنه، أي تتخطى عقله. ولكن هل يعني ذلك أنّ الكرامة سبب للعزلة الأخلاقية لكل شخص ؟ - ما يقصده كانط هو أنّ الكرامة القيمة المطلقة لكل شخص هي سند متعال لبناء "مملكة من الغايات" أي من الكائنات التي تعامل نفسها كغايات في ذاتها وليس كمجرد وسائل. يقول كانط :"أنا أفهم من كلمة مملكة ذلك الترابط المنظم الذي يجمع بين كائنات عاقلة متعددة عن طريق قوانين مشتركة" . لكنّ مملكة الكرامة لا يملكها أحد. بل هي فضاء أخلاقي حيث يكون كل شخص "عضوا" فحسب: العضوية الحرة تعني هنا أنّ كل شخص بمجرد أن يعامل نفسه كغاية في ذاته هو يشرع لمملكة الغايات، ولكنه بمجرد أن يعتبر ذلك شرطا متعاليا لكرامته هو يخضع لتلك المملكة. بل هو "رئيس" لها و"مشرع" لها و"خاضع" لها في آن واحد .
وهكذا نتبين هنا معنى الكرامة الخاصة بالكائنات العاقلة والحرة. الكرامة الحقيقية هي كرامة "الكائن العاقل الذي لا يخضع لغير القانون الذي يضعه لنفسه" . هذا النوع من الاستقلال المتعالي لا "ثمن" له. حيث يميّز كانط بين ما له "ثمن" ، أي الأشياء، وما له "كرامة"، أي الأشخاص؛ حتى "الثمن العاطفي" هو ثمن . وهكذا فإن" "الاستقلال الذاتي هو مبدأ كرامة الطبيعة الإنسانية وكل طبيعة عاقلة" .
من فكرة دينية توحيدية، مثل الكرامة، استطاع كانط أن يخلص إلى تأسيس فضاء ذاتي بلا أيّ مفارق بالمعنى اللاهوتي. يقول : "إنّ الشيء الوحيد...الذي يكون القيمة المطلقة للإنسان هو الذي ينبغي أن يكون المقياس الذي يحكم به عليه من جانب أي كائن، حتى ولو كان هو الكائن الأسمى نفسه." لا ينطوي ذلك على أيّ تجديف على الدين. بل إنّ كانط يحرص على التمييز جيّدا بين "الإرادة المقدسة" ( "الإرادة التي تتفق مسلماتها اتفاقا ضروريا مع قوانين الاستقلال هي إرادة مقدسة، أي خيّرة بإطلاق") و"الإرادة غير الخيرة" (التي تحتاج إلى "الالتزام" الأخلاقي مثل البشر). ومن ثمّ ينبهنا كانط قائلا: "هذا الالتزام لا يمكن إذن أن ينطبق على كائن مقدس" .
"الالتزام" لفظ خطير هنا: هو واجب ألزمنا أنفسنا به لأنّه نابع من طبيعتنا العاقلة، ولذلك لا يخلو الالتزام حسب كانط من شيء من "السمو والكرامة": ألاّ نخضع إلاّ لما شرّعناه بأنفسنا، ذلك بأنّ" "كرامة الإنسانية تكمن على وجه التحديد في قدرتها على أن تكون مصدر تشريع كلي عام، على شريطة أن تكون هي نفسها في الوقت عينه خاضعة لهذا التشريع" .
إنّ "الواجب"- أيّ واجب- ليس مجرد "فكرة" يبنيها العقل متى يشاء بل هو تقنية رجاء بالدرجة الأولى. فما يريده كانط من وراء "تأسيس الأخلاق" ليس قضاء حاجة نظرية صرفة في نسقه، بل اختراع جهاز تعديل مشاكل الرجاء التي يثيرها الدين بوصفها مشاكل قابلة للمعالجة وكأنّها في ماهيتها مشاكل أخلاقية محضة، أي متعلقة بقدرة الطبيعة البشرية على التشريع المعياري لنفسها فيما وراء العالم المحسوس. وإنّ العقل البشري نفسه هو لدى كانط مجرد ملكة لا حقيقة لها سوى الاستعمال الجيّد لقدراتها بحسب الطبيعة الإنسانية. – ومن المفيد أن نعرف أنّ الرجاء غير ممكن حسب كانط من دون "ملكة العقل"، أي في القدرة على التمييز بين "عالم محسوس" (حيث يعمل الذهن العلمي) و"عالم معقول" (حيث بإمكان العقل وحده أن يظهر "الأفكار" التي لا يمكن لأيّ ملكة حسية أن تدركها). ومن دون قدرة العقل على ارتسام فكرة تشير إلى معنى لا يطاله أيّ حسّ، لا يمكننا أن نفكّر في أيّ ضرب من الرجاء. إنّ أساس الرجاء هو نوع مخصوص من الاستقلال عن العالم المحسوس وشعور الإنسان بأنّه "كائن عاقل" أي "عضو ينتمي إلى عالم معقول" . إنّ الرجاء إذن هو موقف حرّ دائما. بل هو ضرب من الاستقلال الذاتي المحض. إنّ العقل الحر فقط هو قادر على الرجاء، أي قادر على أن يرى في فكرة أوامر أخلاقية مطلقة واجبا محضا هو الدليل الوحيد على فكرة الحرية في نفسي. لكنّ فكرة الحرية لا تُفسّر بأيّ قوانين طبيعية. بل هي "لا يمكن أن تُفهم أبدا ولا حتى أن تُدرك طبيعتها...إنّها لا تُعدّ إلا مجرد افتراض ضروري للعقل لدى كائن يعتقد أنه يمتلك الشعور بإرادة ما" . وكل عملية الرجاء هي تتمّ على مستوى الإرادة: إنّ الإرادة هي مادة الرجاء الحر. وحتى مشاعر اللذة والرضا هي مشاعر غير انفعالية بل هي ناجمة عن قدرة العقل على غرسها في أنفسنا ن خلال فكرة "الوفاء للواجب" .
ومن ثمّ فإنّ ما يحرّك الطبيعة البشرية بعامة ليس "الأوامر" الخارجية التي تأتي من أيّ سلطة مهما كانت سامية بل ما توجبه على نفسها من أوامر باطنية بمقتضى طبيعتها الخاصة بشكل حرّ: "إنّ كل كائن لا يمكنه أن يفعل فعلا إلا تحت تأثير فكرة الحرية" . بل إنّ الافتراض الوحيد الذي تميّز به الغرب في فهم مشاكل الرجاء والسيطرة عليها هو هذا: "ينبغي أن نفترض الحرية خاصية تتميّز بها إرادة جميع الكائنات العاقلة" . من دون هذا الافتراض التحتي تصبح كل النقاشات العمومية عن الرجاء لاغية. وتعني "فكرة الحرية" هنا "قدرة عفوية مطلقة" ، وليس مجرد غياب الموانع الخارجية.
لا يمكن أن "نفسّر" الرجاء كأنّه ظاهرة طبيعية، بل فقط أن "ندافع" عنه بموجب فكرة الحرية . ولكن بخاصة لا يمكن أن ندافع عن أيّ ضرب من الرجاء إلاّ أمام ملأ حرّ مكوّن من مجموع الكائنات العاقلة. ولذلك فإنّ شرط الرجاء حسب كانط هو أن نفترض "أنّ فكرة عالم معقول خالص، بوصفه كلا يتألف من جميع العقول، ونكون نحن أعضاء فيه بوصفنا كائنات عاقلة...تظل دائما فكرة نافعة يمكن تطبيقها والسماح بها لتحقيق عقيدة عملية" . لا مستقبل للدين إلاّ إذا نجح في التحول إلى "عقيدة عملية" محضة، أي إلى تقنية رجاء عقلية بحتة، متأسّسة في صلب الطبيعة العميقة لأنفسنا من حيث نحن كائنات عاقلة. وحتى يحمي هذا الافتراض من أيّ سوء فهم ينبّه كانط إلى أنّ "كل معرفة تنتهي عند حدود هذا العالم"، وأنّه لا سبيل إلى تكوين مملكة الغايات المشتركة بين العقول الحرة إلاّ متى حرصنا على "الاهتداء في سلوكنا بمسلمات الحرية كما لو كانت هذه المسلمات قوانين طبيعية" . لكن القصد ليس السعي إلى أيّ نوع من "الثواب" الديني بل أن ننجح في "أن نثير في أنفسنا الاهتمام الحي بالقانون الأخلاقي" . ما معنى ذلك ؟ - إنّ الحد الأقصى للبحث الفلسفي في الأخلاق الكونية لا يهدف إلى أيّ رجاء تقليدي. بل هو يكتفي بشكل مثير بإثارة "اهتمام حي"، أي اهتمام محض نابع من الشعور بطبيعتنا البشرية لا غير، بفكرة القانون الأخلاقي، ذلك بأنّ القانون الأخلاقي ليس "قانونا" بالمعنى الطبيعي أو السياسي، بل هو فكرة حرة، متأتية من قدرة عقولنا على التشريع لنفسها بشكل كوني.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مشهد مرعب يظهر ما حدث لشاحنة حاولت عبور نهر جارف في كينيا


.. شبح كورونا.. -أسترازينيكا- تعترف بآثار جانبية للقاحها | #الظ




.. تسبب الحريق في مقتله.. مسن مخمور يشعل النار في قاعة رقص في #


.. شاهد| كاميرا أمنية توثق عملية الطعن التي نفذها السائح التركي




.. الموت يهدد مرضى الفشل الكلوي بعد تدمير الاحتلال بمنى غسيل ال