الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


قراءة نيتشه لفلسفة سقراط ( 2 )

محمد بقوح

2012 / 5 / 2
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع




إن فلسفة سقراط، من منظور نيتشه، تقوم على أساس فكر تراجيدي، نظري مفهومي تفاؤلي، يحتفي بالعاقلية المفرطة، و الوعي الذاتي، مقابل النازعية الجسدية، و الشك المعرفي، كوضعية فكرية و فلسفية، كائنة عند اليونانيين القدامى. فسقراط، يعتبر أول من بحث في موضوع الحقيقة، متسلقا سلم العقل التجريدي إلى أقصاه، نحو السماء ( الخير و الشر و الفضيلة و السعادة ). و كانت الحقيقة عنده مرتبطة بالأخلاق، و بقيم الإنسان الروحية، الهادفة لمعرفة ذاته. إنها الحقيقة الفلسفية الأخلاقية الوحيدة، التي يجب أن يبحث فيها، و تؤمّل و تعرف معرفة يقينية، وليس المساءلة عن أصل الكون والطبيعة و الحجارة و النار.؟ وذلك باستخدام جملة من الآليات الفكرية و المنهجية، كالجدل و المنطق، و الاستدلال، و التوليد، و البلاغة اللغوية، تحقيقا لإقناع متلقيه، الذين هم في ازياد مستمر، والمكوّنون، في الغالب، من شباب أثينا، المتعطش للفكر الحر و المستنير، ممن كان يؤثر فيهم سقراط، بأسلوبه الفلسفي الرصين، و بأفكاره الثورية المختلفة و الجريئة. يقول: ( إعرف نفسك بنفسك ). و يقول أيضا: ( لا أعرف سوى شيء واحد، و هو أنني لا أعرف شيئا ). و كأنني بسقراط يلمح هنا، بما كتبه هيغل، في القرن التاسع عشر، بحيث قال: ( أعمق ما في الذات هو الفكر)، و أيضا بما جاء في جمهورية أفلاطون: ( ينبغي التخلص من حمق الجسد).

و ليس بالصدفة إذن، أن نجد بعض التشابه، و كثيرا من التقاطعات، بين القول الفلسفي عند نيتشه، و التفلسف السقراطي القائم.. بل بينهما، و بين العديد من الفلاسفة المثاليين، الذين هم من طينتهم الفلسفية، ذات المرجعية الفكرية الدينية المفارقة للواقع. أ فلا يدعونا هذا الاستعمال الآداتي للفكر الفلسفي، إلى القول مع الباحث المغربي محمد الشيخ، أن الفلسفة تعني هنا ( لاهوتا مقنعا )؟ ، و بالتالي، أ لم يسيء سقراط إلى الفلسفة، عندما سلك طريق التفلسف، لنشر و تكريس منظورات ذاتية، و أفكار أخلاقية، و رؤى فكرية و معرفية، لا تمت بصلة بجوهر التفكير الفلسفي، بالمعني العلمي للكلمة، ذلك المعنى الذي كان سائدا في الفترة التاريخية السابقة عليه، مع الفلاسفة الطبيعيين و الذريين مثلا؟ و من تم، ألا يمكن اعتبار شيخ الفلاسفة سقراط،، هو الممهّد الأول، و المبشّر الأساسي، للفكر المسيحي الذي تلا فلسفته لاحقا؟
بسبب كل هذه الدواعي، و الأسئلة المعلقة المحيرة، و الأخرى غير المعلنة، وقف نيتشه موقف المضاد، لفلسفة سقراط التأملية و النظرية و المعادية للفكر و السلوك التراجيديين السائدين..
لنستمع إليه هذه المرة.. يقول :( إنني أجهد نفسي لمعرفة المزاج، الذي وجدت منه هذه المعادلة السقراطية:عقل = فضيلة = سعادة.أغرب المعادلات الممكنة، و التي ترفضها على الخصوص كل غرائز الإغريق القدامى ). إذن، كلاهما يتكلم في النصين معا ( نص نيتشه و نص سقراط )، عن مسألة المعرفة، باعتبارها القاعدة المحورية لفعل التفلسف، و إنتاج الأفكار و الطروحات الفلسفية.

ينظر الفيلسوف سقراط إلى المعرفة، باعتبارها الغاية القصوى، لكل تفلسف حقيقي، لكن في إطار مبحث الأخلاق الضيق، الذي ينظر إليه نيتشه، من منظور الشك، و العقل المادي العلمي، لأنه يعتقد أن الأخلاق، من تقويم و تأويل و صنع الإنسان، سواء لتبرير ضعفه، أو لتفسير مدى قوته و جبروته. يقول في كتابه "أفول الأصنام"، بهذا الصدد: ( الحياة هي التي تحملنا على وضع القيم. الحياة هي التي تقوم بالتقييم من خلالنا، في كل مرة نضع قيما.. و نشأ عن ذلك أن هذه "الطبيعة المضادة" نفسها، التي هي الأخلاق، و تضع الإله نقيضا و إدانة للحياة، ليست في حد ذاتها إلا حكم قيمة الحياة عن أي حياة؟ عن أي نوع من الحياة؟ الجواب سبق أن قدمته: الحياة الآفلة، الضعيفة، الضجرة، المذمومة. الأخلاق، كما فهمت حتى الآن كما صاغها شوبنهاور في نهاية المطاف، ك" نفي لإرادة الحياة" هي الأخلاق هي غريزة الانحطاط نفسها كأمر: " اهلك". إنها الحكم الصادر عن المحكوم عليهم..). و أحيانا يبدو لنا نيتشه يتحدث، مفكرا محللا و مفسرا مسألة القيم، كما لو كان أنتروبولوجيا، يفكك و ينقب في عمق تربة تفاصيل الصفات الأخلاقية، الملازمة دوما لهذا الإنسان. يقول في كتابه" هكذا تكلم زرادشت" : ( ليس هناك من الشعوب من يستطع يعيش من دون وضع نظام من القيم.. في الحقيقة إن الناس هم الذين أعطوا أنفسهم كا خيرهم و شره. و الحق أنهم لم يأخذوه كما لم يجدوه أو سمعوه صوتا هبط إليهم من السماء. ).

إذا كان سقراط مؤمن أشد الإيمان، بالوجود الفعلي و الحقيقي، للقيم و المبادئ و الأخلاق، في الحياة الأخرى، بعد الموت..، لهذا لم يقاوم.. و لم يرفض حكم الإعدام، الذي نفذته عليه محكمة آثينا، فيما بعد، خصوصا أنه أتيح له أن يدافع عن براءة نفسه، و كذلك أن يخرج بالغرامة، أو أن يهرب..، فإن نيتشه من جانبه، متشبث كل التشبث، باقتناعه القوي، بعلاقة القيم و الأخلاق بحياة الإنسان في هذه الأرض الحافلة بالمتغيراة.
من هنا، ميز نيتشه بين أخلاق السادة، و أخلاق العبيد. لكن، رغم الاختلاف الذي يبديه التصور الأولي، في كلمات نيتشه المضادة، في النص أعلاه، إلا أننا نجده بدوره، يلوّح، في نفس النص، بمفهوم المعرفة العقلانية و النفسية، في إطار إشارته الواضحة، إلى ثنائية الموت و الحياة، و إلى ثنائية القوة و الضعف. بمعنى أن مسألة القيم عنده، هي من إنتاج واقع الحياة الأرضية، و من تقويم و وضع شَرطي، و ظرفي مختار متفق عليه، علنا أو ضمنيا. أي أنها مسألة منظورية بشرية - بتعبير نيتشه - و ليست مسألة تتعلق بمصدر أو أصل غيبي، هو ما وراء الطبيعة.
إذن، سقراط يتسلح بالعقل، كوسيلة لغاية مقصودة.. هي مواجهة مصير الإنسان، بالمعرفة النظرية المبدئية المفهومية، جاعلا القيم الأخلاقية المنزهة، و سعادة الفرد في العالم الآخر فوق كل اعتبار، و بالتالي نظر إليهما بصفتهما محورا، و جوهرا الحياة الحقيقية، و الإنسانية للإنسان.. خاصة ضد المعرفة الفلسفية الحسّية، و الأخلاقية الغريزية العادية و المسيطرة، كما تداولت و هيمنت على الحياة الاجتماعية و السياسية، في مجتمعه الآثيني الإغريقي. إن التصور الفلسفي السقراطي الأخلاقي المتعالي، حسب نيتشه، كان يعكس بحق، بداية ضعف مرعب، و تناقضات كبيرة، أخذت تشمل كل الحياة المجتمعية الإغريقية، حيث صار هذا التصور مرتبطا بصراعه الفعلي، ضد تصور آخر مضاد، فكري و سياسي و فلسفي سائد و مهيمن.. إنه الفكر الفلسفي الديمقراطي للفلاسفة السوفسطائيين.

في المقابل، كان نيتشه يتسلح، بمعول النقد العقلاني و العلمي، لفضح و تعرية و الكشف الحفري، عن أبعاد اللعبة الفكرية و الفلسفية السقراطية أعلاه ( مسألة المعرفة و الأخلاق )، باعتبارها لعبة / معادلة أخلاقية، ارتبطت أساسا بالشرط الواقعي الاجتماعي و السياسي، للحقل المجتمعي الإغريقي التقليدي البسيط. بمعنى، أن فلسفة سقراط الأخلاقية التبريرية، و التي استندت إلى العقل، كواجهة براقة لها، لم تكن سوى نتيجة حتمية، لصراع تاريخي، فكري و سياسي، و ديني قيمي عميق، عاشه المجتمع الإغريقي البدني و المتفتح، في زمن سقراط المتعب، الذي اختار لنفسه الدفاع عن الفكر الفلسفي الأرستقراطي النقيض الناشئ و الجديد، في مواجهة الفكر السياسي و الفلسفي السوفسطائي، و الديمقراطي السائد، الذي كان التفلسف عنده، يعني خدمة الحياة العملية، و النفعية التعليمية، للمواطن اللاثيني و الإغريقي عامة بامتياز.
بالإضافة إلى أن النظام السياسي الحاكم، هو نظام ديمقراطي.. حيث كانت الحياة الاقتصادية و السياسية، في أواخر القرن الرابع قبل الميلاد، حياة تعرف نوعا من الصراع، بين الشعب و النبلاء، و كذلك تعرف تراجع العلم و النظرة العلمية، من حقل التناول الفلسفي و فعل التفلسف. بحيث ساد التوتر، و تفاقمت الأزمة والتناقضات، التي بدأت تطفو على سطح العديد من المستويات في الحياة الإغريقية، سواء على مستوى تسيير الشأن العام الإغريقي الوطني، أو على المستوى الديني و الفكري الفلسفي. فكان هذا الصراع جد حاد، بين قوى التفكير التفلسفي الأخلاقي ( يمثله سقراط )، و قوى التفكير التفلسفي التعليمي المادي و العملي ( يمثله السوفسطائيون )، و من أهم رواد هذا الفكر الفلسفي الأخير، نذكر: جورجياس و برويقوس و هيبياس.
يقول نيتشه في كتابه "الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي": ( إن الفلسفة اليونانية المتأخرة إنما هي عبرت عن انحطاط النازع اليوناني).

هناك عوامل أخرى جمة، لا تزال خفية على الدارسين، تجعل دوما نيتشه، هذا الفيلسوف العقلاني المثير للجدل، و الذي لم يختلف الفلاسفة و الدارسون و الباحثون، في شأن إبداعه الفلسفي، و قراءاته الفلسفية، خاصة للمتن الفلسفي القديم، كما اختلفوا حول هذا الفيلسوف الثائر، عندما يتفلسف منطلقا، و محررا و مفكرا، في قضايا عصره، يعود ضرورة، لاستحضار شيخ الفلاسفة سقراط،، متحدثا عن شخصه الغريب الأطوار، و عن فلسفته القلقة، بطريقة فكرية و نقدية و أحيانا، يتحدث عنها بأسلوب صارم. يقول عن هذه العلاقة الفلسفية، الموجودة بينه و بين سقراط، في كتابه "إرادة القوة " :( إنني أعترف بأن سقراط قريب مني، إلى الحد الذي يفرض عليّ مواجهته على الدوام ).
إذن، رغم أن نيتشه يقر، بكون سقراط قريب منه، و هذا يدل على أن فكر هذا الأخير الفلسفي، لا يزال يفعل فيه إيجابا، و يضطره مستحضرا إياه، في كل مناسبة ممكنة، لمواجهته و مناقشة آرائه، و مجادلة مواقفه الفكرية و الفلسفية. هكذا يبدو لنا التحاور، و التقارب و التفاعل الفكري الفلسفي، بين النصوص و الأطروحات الفلسفية، مهما كانت البيئة المجتمعية التي أنجبتها، هو من صميم الأمور البديهية، حين تكون تلك النصوص، في مستوى الإبداعية الخاصة، و الفعالية الفلسفية المطلوبة. يعني، تنتفي هنا مسألة الزمنية، و التقادم التاريخي، الذي يمكن أن يؤثر سلبا، على النص الفلسفي الرديء، فارضا عليه إخضاعه، لما هو زمني آن و لحظي، و بالتالي، غير قادر على الامتداد الفلسفي، و اختراق فعل الزمن القاسي، بالمفهوم التاريخي. و العكس صحيح بالنسبة للنص الفلسفي المبدَع الأول.
من خلال كلام نيتشه، فعلاقته الفلسفية بسقراط، رغم ارتباطها الوثيق بطابع القرب، كما ذكرنا، إلا أنها تقوم على قاعدة المواجهة، و الاختلاف و المناقشة، و المحاورة و الانفتاح، في إطار الصراع الفكري الإيجابي الجاد. لعل هذا يعني أن نيتشه، لم يكن يقرأ النص الفلسفي السقراطي، خاصة، و المتن الفلسفي الإغريقي، بصفة عامة، قراءة بريئة أو موجهة، من أجل حبه في تدميره و نسفه فلسفيا، أو نسخه عقديا، و لكن، من أجل نقده نقدا جذريا، و إعادة كتابته بل إحيائه، بجعله يفكر معه، محللا و مقارنا إياه مع فلسفته، طروحاته الفلسفية المركبة و العميقة، تحقيقا لهدف تجاوز أستاذه فلسفيا، و ليس زمنيا.. و هي العملية المحورية الصعبة، و الأساسية، التي تدل على مدى إبداعية المجهود الفلسفي، المتميز لأي فيلسوف، مهما كانت البيئة الفلسفية، التي عاش ضمن مقتضيات مجتمعها.

إن هذه الإشكالات الفكرية بالأساس، و تلك الأسئلة الفلسفية الشائكة، و غيرها من الأسئلة الأخرى، التي يمكن أن يطرحها القارئ، في إطار مسألة التفلسف و القراءة الفلسفية، تجعلنا نستحضر ظاهرة منهجية صحية هامة، هي حوار و تقاطع و تفاعل الأفكار و الرؤى، و القضايا و المسائل الفلسفية، مخترقة بيئتها الزمنية، بتعبير جيل دولوز، و متجاوزة لحظتها التاريخية و المكانية، بحثا عن تحقيق التلاقي، و التفاعل و التلاقح الفلسفي، ليس من أجل الترابط التطابقي، و التزاوج النسخي الفلسفي، و لكن بهدف الإرتقاء بالفعل الفلسفي، و تكريس و إنجاح طريقة الحوار الفكري الإيجابي، بالصراع المعرفي المنتج العميق، و الجدال الفلسفي العلمي الفعال، بين النصوص و الكتابات الفلسفية، ثم فرز الاختلافات الفكرية، و دعم المناقشات المعرفية و العلمية، لضبط المفاهيم الفلسفية، إن وجدت، تحقيقا للبحث الفلسفي المنهجي العلمي الواقعي، و أيضا، وصولا إلى تمثل فلسفي جيد، لمختلف التقاطعات، و الاختلافات و التجديدات الفلسفية، التي عرفتها إشكالية الفلسفة، في علاقتها بالفعل الشرطي الاجتماعي، و الظرف الإنساني التفلسفي، سواء من الناحية التاريخية الحضارية، أو من الناحية النقدية و المفهومية، و المنهجية على مستوى الإبداعية البحثية.









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - شكراً لك
سيمون خوري ( 2012 / 5 / 4 - 08:32 )
الأخ محمد بقوح المحترم تحية لجهدك وشكراً لك مقالك بحث جميل يستحق القراءة مع التقدير لجهدك


2 - العفو
محمد بقوح ( 2012 / 5 / 4 - 10:41 )
أبادلكم التحية و التقدير الأخ سيمون
و شكرا لمروركم الأجمل
مودتي

اخر الافلام

.. تحدي اللهجات.. مقارنة بين الأمثال والأكلات السعودية والسورية


.. أبو عبيدة: قيادة العدو تزج بجنودها في أزقة غزة ليعودوا في نع




.. مسيرة وطنية للتضامن مع فلسطين وضد الحرب الإسرائيلية على غزة


.. تطورات لبنان.. القسام تنعى القائد شرحبيل السيد بعد عملية اغت




.. القسام: ا?طلاق صاروخ ا?رض جو تجاه مروحية الاحتلال في جباليا